دبلوماسية الخط الساخن.. من نكسة حزيران إلى حرب تشرين إلى منطاد التجسس الصيني.. ضرورة أم حيلة أمريكية؟

دبلوماسية الخط الساخن.. من نكسة حزيران إلى حرب تشرين إلى منطاد التجسس الصيني.. ضرورة أم حيلة أمريكية؟

عندما حلّق منطاد تجسس صيني فوق الولايات المتحدة، في شباط/ فبراير الماضي، حاولَ وزير الدفاع الأمريكي بسرعة الاتصال بنظرائه في بكين. ومع ذلك لم يكن هناك رد على الإطلاق على اتصالات البنتاغون لعدة ساعات. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتجاهل فيها العسكريون وصنّاع السياسة الصينيون اتصالات الخط الساخن الأمريكية، أثناء توتر متفاقم، ولكنها كانت فقط الجزء الأخير من نمط تصرف خطير ينطوي على خطر تدهور العلاقات الصينية الأمريكية، حسبما يقول الباحث رونان مينبرايز، المدرس المساعد بجامعة وارويك البريطانية.

في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” الأمريكية، يرى مينبرايز، المرشح للحصول على درجة الدكتوراه؛ حيث تتركز أبحاثه على الاستخبارات، والسياسة الخارجية الأمريكية، والأمن الدولي، أن أي خط ساخن هو مجرد جزء صغير من الذخيرة الدبلوماسية لأي دولة، لكنه يمكن أن يكون الأكثر أهمية في أوقات الأزمات. فالخطوط الساخنة تتيح لصناع السياسات التحدث بسرعة، وبصورة مباشرة، مع كل منهم الآخر، وبناء الثقة الشخصية بين رؤساء الدول وهم يتباحثون حول بؤر التوتر بصورة ثنائية.

مينبرايز: أي خط ساخن هو مجرد جزء صغير من الذخيرة الدبلوماسية لأي دولة، لكنه يمكن أن يكون الأكثر أهمية في أوقات الأزمات.

كما أن هذه الخطوط الساخنة مهمة للغاية في توفير التفاصيل، والتوضيح، والتفسيرات، وبالتالي تعزز التفاهم، وتساعد في تجنّب المفاهيم الخاطئة العرضية إزاء نوايا الطرف الآخر. وباختصار، فإنها يمكن أن تكون عنصراً أساسياً لإدارة المخاطر، وتجنّب التصعيد، والحفاظ على الأمن الدولي.

وفي الحقيقة، يؤكد تاريخ دبلوماسية الحرب الباردة مدى أهمية الخطوط الساخنة. فبعد الدراما الخطيرة لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والتي شهدت استغراق الرسائل ساعات لتصل إلى متلقيها، دشنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بتعقّل، رابط خط ساخن لنقل الرسائل المكتوبة بسرعة بين عاصمتي الدولتين. ولم يستطع الخط الساخن بين واشنطن وموسكو استئصال التوترات المستقبلية، لكنه كان كابحاً أساسياً للحيلولة دون تصدّع العلاقات. وعبر العقود الثلاثة التالية، أثبت أهميته عدة مرات.

ففي أثناء حرب الأيام الستة، في حزيران/ يونيو 1967، كانت واشنطن وموسكو تتبادلان الرسائل عبر الخط الساخن مع تطور القتال في الشرق الأوسط. وتضمنت هذه الرسائل تطمينات من جانب السوفييت بأنهم يحاولون حل النزاع دبلوماسياً، وتوضيح إدارة جونسون بشأن مناورات الأسطول السادس.

وعندما اندلع القتال في المنطقة بعد سنوات قليلة أثناء حرب تشرين/ أكتوبر عام 1973، أظهر الخط الساخن مرة أخرى أهميته، كما فعل خلال العديد من توترات الحرب الباردة الأخرى في العالم.

ويقول مينبرايز إنه يتعيّن علينا في الأزمات الدولية اعتبار الخطوط الساخنة روابط دائمة لا يمكن الاستغناء عنها بين الدول المتناحرة، وليست مجرد مخلفات لا لزوم لها من بقايا حقبة الحرب الباردة المنتهية. وتوضح مناقشات الخط الساخن الماضية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أنه من المهم الحفاظ على الاتصال بين بكين وواشنطن في الوقت الحالي.

وأوضح مينبرايز أن الخطوط الساخنة متوفرة بين الولايات المتحدة والصين على المستويات التنفيذية والعسكرية. ونظراً لخبرة الإدارات الأمريكية المختلفة الطويلة في القرن العشرين، فإنها تعتبر الخطوط الساخنة عنصراً دبلوماسياً حيوياً، وتلجأ لاستخدامها أثناء الأزمات المعاصرة، سواء مع الصين أو غيرها من الدول المنافسة إستراتيجياً.

وعلى الرغم من أن قيادة الحزب الشيوعي الصيني أبدت حتى الآن تجنّبها لأي تصعيد مع الولايات المتحدة، فإنها في كثير من الأحيان لم ترد على الاتصالات الهاتفية، خلال العقود القليلة الماضية. فقد تجاهلت بكين المحاولات الأمريكية للاتصال أثناء مذبحة تيانانمن عام 1989. وأجرت إدارة بوش 12 اتصالاً أثناء حادث جزيرة هاينان عام 2001، لم ترد الصين على أي منها. وقد يحدث نفس الشيء أثناء العديد من الأحداث الأخرى، وقد رَفضَ شي جين بينج، وغيره من صانعي السياسة الصينيين، اقتراحات بالنسبة لإجراء مناقشات أكثر حيوية عبر الخط الساخن.

الصينيون تساورهم الشكوك حول سبب رغبة القادة الأمريكيين في استخدام الخطوط الساخنة، ويعتبرونها مجرد وسيلة من جانب الولايات المتحدة لتضفي، خلسةً، وضعاً طبيعياً على عمليات لها في منطقة المحيطين الهندي والهادىء.

وأشار المحللون إلى أن المسؤولين الصينيين تساورهم الشكوك حول سبب رغبة القادة الأمريكيين في استخدام الخطوط الساخنة، ويعتبرونها مجرد وسيلة من جانب الولايات المتحدة لتضفي، خلسةً، وضعاً طبيعياً على عمليات لها في منطقة المحيطين الهندي والهادىء. والأمر الأكثر خطورة هو أنهم يعتقدون أنه يمكنهم تحقيق ميزة إستراتيجية من وراء تجنّب مناقشات الخط الساخن، والغموض الذي يمكن أن يخلقه ذلك. ولكن بغض النظر عن الاختلافات في الراي، توضح الحرب الباردة أن إدارة الأزمات بصورة ثنائية ما زالت أمراً أساسياً.

ويقول مينبرايز إنه في ظل استمرار تزايد القلق بشأن مصير تايوان وبحر الصين الجنوبي، يتعين على الولايات المتحدة أن تواصل الضغط على قيادة الحزب الشيوعي لزيادة سرعة الرد على الاتصالات الهاتفية. وينبغي أن يكون من المهم بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية الآن إقامة حوار أكثر فعالية عبر الخط الساخن مع بكين. ويتعين على المسؤولين الأمريكيين توضيح أن الغموض الذي يسعى القادة الصينيون لتحقيقه أثناء أي أزمة أمر خطير.

وفي ختام تقريره، قال مينبرايز إنه في ظل تزايد آليات الذكاء الاصطناعي وانتشار المعلومات المضللة، أصبح من المحتمل للغاية حدوث سوء تفسير بشأن تحركات بحرية أو حوادث تجسس معينة. ومن الممكن أن يؤدي الافتقار للاتصالات إلى انزلاق خطير نحو مواجهة عسكرية أو نووية. وفي مناخ جغرافي سياسي بدأت فيه التهديدات الذرية تتكرر مرة أخرى، ستجد بكين وواشنطن أن التحدث معاً هو أفضل حلّ.

(د ب ا)