بعد سنوات من تعنت حكومي في الإصغاء لمطالب إصلاح المنظومة التعليمية تستعد الحكومة المصرية الجديدة المزمع الإعلان عن تركيبتها قريبا لتصويب المسار. ويرى محللون أن ذلك من شأنه أن يفتح الباب أمام إصلاحات أخرى ينتظرها المصريون.
القاهرة- يشير توجه رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي نحو إعادة ملف التعليم كأولوية سياسية إلى وجود قناعة لدى السلطة بحتمية تصويب مسار المنظومة التعليمية، لأنها تمس صميم علاقة الناس بالحكومة والنظام برمّته، ومن الصعب إقناع المواطنين بالسير في الطريق الصحيح من دون تصعيد الملف كأولوية سياسية.
وتقرر بشكل رسمي استحداث نظام جديد للثانوية العامة (البكالوريا) لراحة الطلاب وأولياء الأمور ورفع الضغوط عنهم، بعد سنوات طويلة من تحول الثانوية إلى “بعبع”، وتحولها إلى عبء لأجهزة الدولة، ما استدعى حاليا الخلاص منه.
وناقش مدبولي الذي أعاد الرئيس عبدالفتاح السيسي تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، الاثنين، مع وزير التعليم رضا حجازي، ملامح نظام الثانوية الجديدة، وطلب عرضها على الحوار الوطني للحصول على تأييد سياسي، مع مراعاة شواغل المواطنين ومطالبهم، في توجه يعكس اهتمام الحكومة بالبحث عن ترضية عملية للمواطنين في هذا المجال.
ووافقت الحكومة الحالية على تعيين الآلاف من المعلمين في دفعات متتالية، وتخصيص موارد مالية عاجلة للاستعانة بمعلمين بعقود سنوية يصل عددهم إلى خمسين ألفا كل عام، لسد العجز في المدارس وغلق ثغرة دأبت المعارضة على توظيفها سياسيا.
وتقرر رفع الموازنة الخاصة لوزارة التربية والتعليم إلى 214 مليار جنيه بنسبة زيادة وصلت إلى 30 في المئة عن السنة الماضية، وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، اضطرت الحكومة لهذا الخيار لإقناع الرأي العام أنها تستجيب له.
ويبدو أن تغير نظرة السلطة إلى ملف التعليم وتصعيده كأولوية يرتبط بمنغصات سياسية يعاني منها النظام المصري منذ سنوات بسبب عناد بعض المسؤولين عن المنظومة التعليمية مع الشارع، والارتباك في إقرار خطة ترضي جميع الفئات.
وتصدّر الرئيس السيسي أحيانا مشهد الدفاع عن الحكومة وتهدئة غضب الناس من توجّهاتها في مجال التعليم، في ظل حالة ارتباك كانت واضحة على خطتها، ورفضها الانصياع لرغبات أولياء الأمور، بالنظر إلى الأولويات والتعامل معها بجدية وعدم التحجج بوجود أزمة اقتصادية.
وجزء من مشكلة الحكومة المتوقع إجراء تعديلات كبيرة في عدد من وزرائها، قد يكون بينهم وزير التعليم، أنها كانت تتعاطى مع مخصصات التعليم بالموازنة العامة للدولة بتقشف على مستوى بناء المدارس وتعيين معلمين جدد، وتطوير البنى التحتية وتطوير طريقة الامتحانات بما يتناسب مع تطلعات المواطنين.
وكان وزير التعليم رضا حجازي نجح في إقناع الحكومة بالتخلي عن حالة التقشف وفتح خزائنها لتهدئة الناس، وزادت موازنة بناء وصيانة المدارس وتعيينات وتعاقدات المعلمين ونسف منظومة الثانوية العامة من الجذور، ما يجلب رضاء شعبيا نسبيا.
وارتبطت طمأنينة شريحة من المصريين لتوجهات الحكومة مؤخرا بأن وزارة التعليم تشارك ممثلين لأولياء الأمور والخبراء في مناقشة التصورات المستقبلية، وهي ثقافة غابت طويلا، ولم تعد ترغب في فرض سياساتها بالأمر الواقع كما جرت العادة.
وقال الحقوقي والباحث التربوي وائل كامل إن الحكومة قبل أن يعاد تشكيلها أدركت أنها مهما فعلت من إنجازات تنموية لن تجد صدى إذا بقيت أمراض المنظومة التعليمية وكلما كانت هناك إرادة سياسية لتطوير ملف التعلم ستحظى قطاعات أخرى بالقبول.
وأضاف لـ”العرب” أن التقشف غير الرشيد تجاه متطلبات المنظومة التعليمية أوجد مقارنات مع الإنفاق السخي على مشروعات تنموية، وظهرت الحكومة في حالة دفاع عن النفس، لأن الاعتراض الشعبي لا يتوقف عند دفاع كل أسرة عن مصالح أبنائها.
ولم يتحقق الرهان المطلوب على تطوير التعليم منذ نحو عشرة أعوام، ما يفرض الآن تغييرا على مستوى الاستجابة لرغبات الناس مع التعديل المنتظر في الحكومة، والتعامل مع المنظومة بواقعية بعيدا عن إقرار سياسات مرفوضة شعبيا وسياسيا.
وظلت طلبات الإحاطة المقدمة ضد الحكومة من أعضاء البرلمان المقربين من السلطة والمختلفين معها مرتبطة بملف التعليم، لأن الشارع ممتعض من طريقة إدارة العملية التعليمية، وهو ما أقنع بعض أركان النظام بوجود أزمة تتطلب التدخل العاجل.
وترتبط الأبعاد السياسية بتصويب مسار المنظومة التعليمية بأنها تضم قرابة 26 مليون طالب، بخلاف أسرهم، أي أن هذا الملف يمسّ جزءا كبيرا من التركيبة السكانية، ويحمل الإخفاق مخاطرة سياسية مهما نجحت الحكومة في قطاعات تنموية مهمة.
وناقش نواب حزب مستقبل وطن، الظهير السياسي الضمني للنظام المصري، قبل حوالي عامين، أداء الوزارات في نظر الشارع، وأجمعوا على أن ملف التعليم يحتل المرتبة الأولى من حيث الملفات التي لم تستطع الحكومة تقليل الفجوة فيها بينها والمواطنين، لأنهم يقيسون تحسن الأداء في أيّ ملف بمدى إصلاح التعليم.
يبدو أن تغير نظرة السلطة إلى ملف التعليم وتصعيده كأولوية يرتبط بمنغصات سياسية يعاني منها النظام المصري منذ سنوات بسبب عناد بعض المسؤولين عن المنظومة التعليمية مع الشارع
وجزء من تغير نهج الحكومة بعد تعديلها أن الرئيس السيسي تعهد بتصويب مسار الخطة الاستثمارية للدولة وجعل التعليم والصحة أولوية قصوى، ما يعني سماع صوت الشارع، والتأكد من أن تطوير التعليم مهم لبناء جمهورية جديدة ذات قوام راسخ.
ودار خلاف مع الحكومة مؤخرا من قبل شريحة في المجتمع حول أولوية التطوير، وهل بناء الجدران مقدم على بناء العقول، أم العكس، لكن المعضلة أن بعض الجهات كانت تفضل التركيز على تطوير المنظومة فكريا من دون توفير أسس النجاح اللازم لها، من معلمين وبنى تحتية ومدارس، لعدم وجود مخصصات مالية كافية.
وكان جزء من الأزمة أن بعض دوائر السلطة أوهمت نفسها بوجود مقاومة شعبية لإصلاح التعليم، مع أن المسألة ترتبط برفض الناس تحول أولادها إلى فئران تجارب لوزراء التعليم، والفكرة أنه في كل مرة يحدث تطوير يظهر بصورة عشوائية.
وأكد وائل كامل لـ”العرب” أن الارتباك في وضع خطة محكمة لضبط التعليم أغضب شرائح متفقة على تشكيل كتلة معارضة لدفع الحكومة نحو التغيير للأفضل، وما يحدث هو بداية للإصلاح وتجنب الخط الأحمر للأهالي، ممثلا في الإضرار بمصالح أبنائهم.
وتشير التحركات الراهنة إلى أن السلطة لم تعد ترغب في التقاط دوائر معارضة الفجوة الواسعة بين سياسات الحكومة وطموحات الناس في ملف بالغ الحساسية، ما يفسّر الإصرار على تصويب مسار المنظومة التعليمية بقرارات تحظى بقبول شعبي.
العرب