من عدم الانحياز إلى “الانحيازات المتعددة”

من عدم الانحياز إلى “الانحيازات المتعددة”

خلال الحرب الباردة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي أيام الثنائية القطبية على قمة العالم، كانت الخيارات أمام الآخرين محدودة. الاصطفاف وراء موسكو قائدة “المعسكر الاشتراكي” أو وراء واشنطن قائدة “العالم الحر”، وسط المزيج من الحماية والخطر. الانضمام إلى الحياد الدولي الذي بدأت فكرته في مؤتمر “باندونغ”، عام 1955، بين الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو، والرئيس اليوغوسلافي جوزف بروز تيتو، والرئيس المصري جمال عبدالناصر، ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، ورئيس الوزراء الصيني تشوان لاي، ثم تجسدت في حركة “عدم الانحياز” خلال مؤتمر “بلغراد”، عام 1961. ولم يكن اللاموقف خياراً لأنه يعني إما العزلة وإما العلاقة المموهة مع أحد الجبارين.

في الحرب الباردة الجديدة بين أميركا والصين، على رغم نفيهما ذلك إعلامياً، ومعها الحرب الساخنة في أوكرانيا بين موسكو وكييف مباشرة، ومع “الناتو” الداعم لأوكرانيا بشكل غير مباشر، تبدو الخيارات متنوعة. عدم الانحياز لا يزال خياراً بالنسبة إلى دول عدة، دول جنوب شرقي آسيا التي تضم 700 مليون إنسان رفعت شعار “اختر ألا تختار” كما يقول هيونغ لي ثو الزميل في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فهي ترى “الصين توسع سلطتها” في محيطها الخارجي، وتسمع أميركا تدعوها إلى “الوقوف ضد الصين”، فاختارت “أن تلعب الصين وأميركا ضدّ بعضهما البعض وتستفيد من ذلك”، فلا هي في حركة “عدم الانحياز”، ولا هي مرشحة لأن تصبح من حلفاء الغرب، لكن عليها في النهاية أن تختار ولو في إطار “تحالف تعددي”. أما الهند التي كانت رائدة في حركة اللاانحياز، فإنها اختارت ما تسميها سياسة “الانحيازات المتعددة”، وبالطبع تغيرت الدنيا في إندونيسيا، وانهارت يوغوسلافيا، وتبدل دور مصر، وصارت الصين قطباً عالمياً مقابل أميركا.

وما يساعد على تنوع الخيارات هو سقوط نظرية “العوالم الثلاثة”: الأول هو الغرب، والثاني هو المعسكر السوفياتي، والثالث هو بقية الدول. فالعالم، كما يقول ميلانو فيتش الباحث في مركز “ستون” “صار أكثر مساواة مما كان عليه قبل 100 عام، ونمو الصين الاقتصادي لعب دوراً في تخفيف اللامساواة العالمية”، فضلاً عن أن التعددية القطبية على القمة لا تزال دون مستوى التوصل إلى “نظام عالمي أكثر عدلاً “تطالب به الصين وروسيا والهند، وفي هذه الحال، فإن الدول التي تحت القمة سواء كانت قوى إقليمية قوية أو قوى عادية، تملك الكثير من حرية الحركة والمفاضلة في العلاقات مع الكبار، فالصوت الصارخ في أفريقيا حيث تعود موجة الانقلابات العسكرية ومعها موجة الرفض داخل الاتحاد الأفريقي للانقلابات، هو: “نريد شراكة لا مواعظ”. فرنسا يصعب أن تتخلى عن المواعظ مع المساعدات الأمنية. أميركا مصرة على تقديم مواعظ مع المساعدات الاقتصادية والأمنية. الصين تقدم مساعدات بلا مواعظ. وروسيا ترسل أسلحة وقمحاً و”فاغنر” بلا مواعظ.

وليس أمراً قليل الدلالات، وسط مفاخرة أميركا بقدرتها على إقامة التحالفات في أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط وأستراليا وأفريقيا، أن توقع 140 دولة من بين 193 عضواً في الأمم المتحدة اتفاقات “الحزام والطريق” مع الصين، ولا أن تمتنع نحو 40 دولة عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا وفرض العقوبات عليها، صحيح أن على الصين أن تقرر إن كانت تعتبر بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي مياهاً دولية أو “بحيرة صينية”، لكن الصحيح أيضاً أن على أميركا التوقف عن إحراج جيران الصين بدعوتهم إلى الخيار بينها وبين الصين.

يقول سيباستيان رونالدو في كتاب عنوانه “مقاصد في سياسات قوى عظمى، لا يقين وجذور صراع” إن العلاقات بين القوى الكبرى “ليست قائمة على الثقة بل على عدم الثقة”، فلا ثقة من دون معرفة “التفكير الحقيقي لدولة أخرى، وليس هذا متيسراً”، وإذا كانت هذه هي الحال بين الكبار، فكيف هي بين الصغار والكبار؟ أقلّ ما يحتاج إليه خيار “الانحيازات المتعددة” هو سياسة أكروبات على أكثر من مسرح.