الآثار المترتبة على حرب تشرين الأول/أكتوبر: من القتال إلى صنع السلام

الآثار المترتبة على حرب تشرين الأول/أكتوبر: من القتال إلى صنع السلام

في الجلسة الافتتاحية لاحتفالية أُقيمت في الذكرى السنوية الخمسين لحرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر، والتي ستستمر لمدة ثلاثة أيام، ناقش خبراء ومسؤولون سابقون من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الدروس الدائمة المستخلصة من النزاع لصنع السلام والحنكة السياسية في يومنا هذا.

“في 3 تشرين الأول/أكتوبر، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع أنور السادات، وديفيد ماكوفسكي، وإفرايم هاليفي، وعبد المنعم سعيد علي، ومارتن إنديك. والسادات هو عضو سابق في البرلمان المصري وابن شقيق الرئيس الراحل أنور السادات. وماكوفسكي هو زميل “زيغلر” المميز في معهد واشنطن ومدير “مشروع كوريت” حول العلاقات العربية الإسرائيلية. وهاليفي هو الرئيس السابق “للموساد” والسفير الإسرائيلي السابق لدى “الاتحاد الأوروبي”. وسعيد علي هو مدير “المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية” في القاهرة وزميل أقدم في “مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط” بـ “جامعة برانديز”. وإنديك هو “زميل لوي” المميز في “مجلس العلاقات الخارجية” وسفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم”.

أنور السادات
كان الرئيس أنور السادات رب عائلة مخلصاً ومزارعاً في الأصل. وعندما تولى الرئاسة عام 1970، كانت مصر تلملم جراحها من هزيمة عام 1967، وكانت هويتها الوطنية قد تحطّمت. وواجه ضغوطاً داخلية شديدة من ثورة الشباب لاستعادة الأراضي المصرية ومحاربة إسرائيل. وبناءً على ذلك، أعاد تنظيم الجيش المصري وانتقل إلى فيلا صغيرة بالقرب من مقر المخابرات العسكرية ليكون في قلب صنع القرار.

وكان السادات، بصفته باحثاً في التاريخ، يعلم أن النزاع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. ومن أجل إرساء السلام، وجّه رسائل دبلوماسية إلى الولايات المتحدة وأوروبا في أوائل عام 1973 لجس النبض بهدف إجراء مفاوضات. وبعد أن تجاهل هنري كيسنجر تلك الإشارات، شعر السادات أن لا خيار أمامه سوى إصدار أمر بالقيام بعمل عسكري ضد إسرائيل. كان يعرف قدراته، لكنه كان يعرف أيضاً حدوده – كان مدركاً لقوة إسرائيل، وبَدَأ الحرب على افتراض أن القوات المصرية لا يمكنها سوى التقدم لمسافة خمسة عشر كيلومتراً شرق قناة السويس.

لقد ناضل السادات من أجل السلام، وكان عام 1973 شاهداً على ذلك. واليوم، يتذكره المصريون لقيادته التكتيكية في حرب عام 1973، ويعتبره الأشخاص من مختلف أنحاء العالم رسولاً للسلام. فقد كان السادات، على الرغم من عيوبه، صاحب رؤية، وأعادت أعماله في عام 1973 تشكيل الشرق الأوسط.

ديفيد ماكوفسكي
في الفترة التي سبقت عام 1973، أثرت الحسابات الخاطئة الخطيرة من جميع الأطراف على المسار المؤدي إلى الحرب وعواقبه المصاحبة. و قبل اندلاع الصراع، قللت القيادة الأمريكية بشدة من أهمية السادات. فقد فوّت كيسنجر إشارات مهمة من القاهرة، بما في ذلك طردها للمستشارين السوفييت وتحذيرات مستشار الأمن القومي للسادات، محمد حافظ إسماعيل، من حرب وشيكة، خلال محادثات سرية في شباط/فبراير 1973.

ومن الجانب الإسرائيلي، قللت غولدا مائير وقادة الدفاع من احتمال نشوب حرب بسبب “الكونسيبتزيا”، وهي العقيدة الاستخباراتية التي تنص على أن مصر لن تشارك في حرب من المرجح أن تخسرها. وتم تجاهل التحذيرات بشأن هجوم وشيك، مما أدى إلى ردع “الجيش الإسرائيلي” عن التعبئة والمساهمة في تكبّد خسائر فادحة في بداية النزاع. وفي حين خرجت إسرائيل منتصرة، إلّا أن الغضب الشعبي من الإخفاقات الاستخباراتية والعسكرية أدى إلى الإطاحة بمائير من السلطة وتسريع انهيار الحكم الفعلي لـ”حزب العمل الإسرائيلي” الذي استمر على نحو متواصل منذ عام 1948.

ومن جانبه، كان السادات يشعر بثقة زائدة وأهدر المكاسب المبكرة عندما توغل بصورة أكثر في شبه جزيرة سيناء ورفض قرار وقف إطلاق النار. وفي النهاية، كانت الدبابات الإسرائيلية على الطريق إلى القاهرة، وتم تطويق الجيش الثالث الميداني وتركه دون طعام أو ماء.

ومهما كانت الحرب مؤلمة لجميع الأطراف، إلا أن تلك الأيام التسعة عشر دمرت أيضاً النظام الإقليمي. وبعد ست سنوات فقط من وقف إطلاق النار، وقّعت إسرائيل ومصر معاهدة سلام برعاية الولايات المتحدة، معلنةً بذلك نهاية الحرب بين الدول العربية وإسرائيل.

افرايم هاليفي
بعد عام 1967، شعر الإسرائيليون بالنشوة ووجدوا أنفسهم في موقع استراتيجي فريد. لكنهم تجاهلوا عنصرين رئيسيين في الفترة التي سبقت عام 1973، وهما: القدرات المتنامية للجيش المصري، والاضطرابات على الحدود الإسرائيلية المصرية. ففي الأسبوع الأول من الحرب، خسرت إسرائيل ما يقرب من 800 دبابة بسبب العدد الكبير من الصواريخ المضادة للدبابات التي أطلقتها مصر والتي زوّدتها بها القوات السوفييتية. كما أهملت إسرائيل الإشارات المتزايدة للحرب ولم تشكك في الافتراضات العسكرية الخاطئة.

وعندما طوقت إسرائيل الجيش الثالث الميداني، أخبرت رئيسة الوزراء مائير، وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر أنه يمكن توصيل الماء إذا وافقت مصر على إجراء محادثات مباشرة بين المسؤولين العسكريين بشأن التعامل مع فك الارتباط بعد الحرب وإعادة الأسرى. وفي قراءة خاطئة للسادات، قال كيسنجر إن مصر لن توافق أبداً على المفاوضات المباشرة. وفي ضوء ذلك، كتبت مائير رسالة إلى مجموعة صغيرة من المسؤولين، وأنا من بينهم، توضح فيها عزمها على الاستقالة بعد استجابتها لمطالب كيسنجر بتسليم الماء من دون مفاوضات. ولكننا أخرنا الرسالة، وفي اليوم التالي وافق المصريون على إجراء محادثات مباشرة. وقد وبختنا مائير على عدم طاعتنا لكنها هنأتنا على النتيجة.

واستمرت جهود السلام بعد عام 1973. وفي عام 1976، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين سراً إلى المغرب للاجتماع بنظيره المصري. وحذا حذوه رئيس الوزراء موشيه ديان في عام 1977. وفي هذا السياق، لم يكن وصول السادات إلى القدس في ذلك العام مفاجئاً. ورغم أن السلام قد ساد منذ ذلك الحين، إلا أن الإخفاقات الاستخباراتية الإسرائيلية الملفتة في عام 1973 تستحق أن تؤخذ في الاعتبار.

عبد المنعم سعيد علي
يعلّمنا التاريخ أن الجغرافيا والديموغرافيا تحددان النزاعات. ففي الفترة التي سبقت عام 1973، تأثرت الاستخبارات الأمريكية بشكل كبير بالمخابرات الإسرائيلية، وبالتالي أساء الطرفان فهم نوايا السادات. فقد تم التغاضي تماماً عن إعادة هيكلة الجيش المصري من قبل السادات، وكذلك طرده للمستشارين الروس.

ومن الناحية التكتيكية، كان أسلوب المساومة الذي اتبعه السادات ناعماً، لكنه كان متشدداً من حيث الجوهر. فقد استخدم أشرف مروان، العميل المصري المزدوج في إسرائيل، للحصول على معلومات سرية من المخابرات الإسرائيلية وإبقاء الجيش الإسرائيلي في حالة تخمين. وكانت مصر بحاجة إلى خداع إسرائيل في لحظة محورية من أجل شن هجوم مفاجئ ناجح، وكان دور مروان أساسياً في هذا الخداع. ففي الساعات التي سبقت الهجوم، أخبر الإسرائيليين أن الحرب ستبدأ في الساعة السادسة مساءً، على الرغم من أن المصريين خططوا لشن الهجوم في الساعة الثانية بعد الظهر. وكانت تلك الساعات الأربع حاسمة لتحقيق مصر مكاسب مبكرة في سيناء.

وعلى نطاق أوسع، حوّلت الحرب الصراع العربي الإسرائيلي من صراع وجودي إلى صراع غير وجودي. وقد أدى التوقيع على معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية إلى خلق الشرعية لسلام أوسع نطاقاً، وخاصة بين السكان العرب. وكانت حرب عام 1973 أكثر من مجرد صراع مسلح، بل كانت بمثابة توقّعات لتلك اللحظة. وسواء أتى اتفاق التطبيع الإسرائيلي السعودي المنتظر حالياً بثماره أم لا، فإن حرب عام 1973 أضفت الشرعية على مثل هذه الجهود كمسار لم يكن قائماً قبل الحرب، ويتذكر الشعب المصري السادات لدوره الشجاع وذي الرؤية النافذة في ذلك الصراع.

مارتن إنديك
نجمت قراءة كيسنجر الخاطئة للسادات عن نقص في التبصر. فقبل عام 1973، كان اتصال كيسنجر بالقادة العرب محدوداً للغاية، ونادراً ما كان يسافر إلى الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك، تأثرت وجهة نظر الولايات المتحدة بشأن السادات بشدة بالتقييمات الإسرائيلية، التي قللت من تقدير شأنه إلى حد كبير. ومع انشغال كيسنجر بالشؤون الخارجية الأخرى، وضع السادات إشارات الحرب في أسفل سلم أولوياته.

وعند اندلاع النزاع، تعرض كيسنجر لضغوط شديدة من الرئيس نيكسون من أجل اعتبار الولايات المتحدة وسيط سلام لا غنى عنه بموجب شروط تفاوضية مؤاتية لواشنطن. ولتحقيق ذلك، كان كيسنجر بحاجة إلى ضمان انتصار إسرائيلي محدود للحفاظ على إمكانية دخول مصر في المفاوضات. وبعد نجاحه في التعامل مع هذه الضغوط المتناقضة، أسس نظاماً سياسياً جديداً في الشرق الأوسط وتجنب مواجهة القوى العظمى مع السوفييت.

وأدت الحرب أيضاً إلى بروز نهج كيسنجر التدريجي. فقد فهم أن النزاع العربي الإسرائيلي لا يمكن حله في خطوة واحدة، وتبنى القادة المستقبليون (على سبيل المثال، رابين) هذه الاستراتيجية في المفاوضات مع الفلسطينيين. لكن التدرجية التي اتبعها كيسنجر كان يشوبها خلل جوهري، إذ شجعت العديد من القادة على توخي الحيطة والحذر بدلاً من الطموح. فالإفراط في التركيز على التدرجية يمكن أن يؤدي إلى تفويت فرص السلام، لا سيما عندما يكون كلا الجانبين مستعدين للتغيير. ويعكس كيسنجر وحرب عام 1973 التحديات الصارخة التي تفرضها الحنكة السياسية والإمكانيات الاستثنائية للدبلوماسية.