قبل أربعة أيام، كانت هناك محادثات بين قطر ومصر وحماس، وبصورة غير مباشرة مع إسرائيل، حول حجم المساعدة التي ستحولها قطر، وحول عدد تصاريح العمل التي ستعطيها إسرائيل لسكان غزة وحول مواصلة عملية إعمار القطاع التي بدأت بها مصر بعد عملية “حارس الأسوار”. كل ذلك بهدف التوصل إلى وقف بعيد المدى لإطلاق النار، الذي ناقشته مصر مع حماس و”الجهاد الإسلامي” في حزيران ومرة أخرى قبل شهر. النقطة الحاسمة في هذه المحادثات كانت عندما وصل سفير قطر محمد العمادي إلى القطاع قبل نحو شهر لإجراء مباحثات حول حجم الدعم. ووفق مصادر في حماس، فإنه لم يعرض خطة مقبولة. وبدلاً من ذلك أبلغ حماس بتهديدات إسرائيل ضد أي تصعيد. ووفقاً لادعاء حماس، حولت قطر قبل بضعة أشهر مساعدات بمبلغ ضئيل هو 3 ملايين دولار بدلاً من 10 ملايين دولار التي تم الاتفاق عليها من قبل بعد مفاوضات طويلة ومضنية مع إسرائيل. قبل أربعة أيام، حصلت حماس على رد ضبابي من قطر يقول إن زيادة حجم المساعدة ستتم بعد الأعياد اليهودية.
فسرت حماس هذه الأقوال بأنها “تعاون بين حكومة إسرائيل وقطر بهدف ابتزاز حماس للموافقة على وقف إطلاق النار بدون مقابل فوري”. يصعب تقدير الجهة التي ستتجه لها الأمور لو وافقت حماس، التي قامت في الأسابيع الأخيرة بمظاهرات عنيفة على جدار الفصل بين إسرائيل وغزة، على المساعدة القطرية بالحجم والوقت الذي كانت تنتظره.
أحد التقديرات، الذي وجد تعزيزاً إزاء الهجوم متعدد الأهداف أمس، هو أن معادلة “الهدوء مقابل الأموال” لا تعمل ولن تعمل. ولكن هذه الصيغة عملت بين حين وآخر بين عملية وأخرى ما لم تتطور ذريعة تفوق الاعتبارات الاقتصادية. هل استخدمت حماس هذه المعادلة من البداية كغطاء لخطتها لغزو إسرائيل؟ لا خلاف على أن عملية عسكرية بهذا الحجم بحاجة إلى تخطيط لأشهر كثيرة، لكن لا يوجد في ذلك أي دليل على أن حماس كانت ستنفذها في كل الأحوال، بالضبط كما يفترض الجيش الإسرائيلي بأن لـ”حزب الله” أو لمنظمات أخرى خطط عمل جاهزة ضد إسرائيل، لكن ذلك لا يعني أنهم مستعدون لإخراجها إلى حيز التنفيذ.
لكن هذه التقديرات لم تعد ذات صلة، ولو على المدى القصير على الأقل، إزاء ما يتوقع حدوثه الآن في غزة وإسرائيل. لن يتجرأ أي سياسي واقعي التحدث عن استئناف المساعدات لغزة أو حول تصاريح العمل والتسهيلات الأخرى. في المقابل، لن يكون لإسرائيل مناص للتفاوض مع حماس حول إطلاق سراح المخطوفين الأحياء والقتلى الذين لديها، الذي سيكون ورقة مساومة قوية ستضطر حكومة إسرائيل بسببها إلى مواجهة ضغط كبير من الجمهور، وهذه المرة ليس حول الانقلاب النظامي. المهم هو: ماذا سيكون حجم رد إسرائيل الذي تعد بأنه سيكون صعباً على التحمل؟ إن حكومة اليمين المتعصبة ستضطر في النهاية أن تقرر بشأن الموافقة على إطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين مقابل المدنيين والجنود المخطوفين.
ولإجراء مثل هذه المفاوضات، سيكون على إسرائيل الاستعانة بخدمات مصر وقطر، اللتين تقيمان علاقات عمل وثيقة مع قيادة حماس، وأقل من ذلك مع قيادة “الجهاد الإسلامي”، وفي الدائرة الأوسع مع دول يمكنها التأثير على سلوك هذه المنظمات مثل تركيا أو الإمارات. ولكن أوراق المساومة التي بيد حماس و”الجهاد” هذه المرة أقوى من ذي قبل. الدعم غير المحدود من قبل الولايات المتحدة لإسرائيل، والدعم الذي ستحصل عليه على كل عملية عسكرية، ما لم تدمر القطاع تدميراً شاملاً أو تنفذ مذبحة عامة للمدنيين، لا يمكن أن يساعدها في إجراء مفاوضات لإعادة المخطوفين، المدنيين والجنود، إلى البيت.
مصلحة وجودية
السؤال العملي هو: كيف ستعمل مصر، الوسيط الأساسي المحتمل، أمام الحرب المتوقعة في غزة؟ أمس، نشرت أخبار عن محادثات أجراها وزير خارجية مصر مع نظيره الأردني، وعن نقاشات أجرتها المخابرات المصرية مع قادة حماس، بهدف وقف إطلاق النار. تتخوف مصر من اشتعال جماهيري يستند إلى تضامن مع الفلسطينيين، وفعلياً سيخرج معارضو النظام وخصم السيسي إلى الشوارع قبل شهرين من الانتخابات، في الوقت الذي تغرق فيه مصر في إحدى أزماتها الاقتصادية العميقة. إن هدوء القطاع ووقف الهجوم الإسرائيلي هما مصلحة وجودية بالنسبة لمصر.
وجدت السعودية نفسها في معضلة أخرى، وهي ما إذا كانت ستقرر المضي بعملية التطبيع مع إسرائيل. السعودية تعتبر في نظر الفلسطينيين، سواء في الضفة أو غزة، كمن هي مستعدة لبيع القضية الفلسطينية مقابل تحقيق مصالحها مع الولايات المتحدة. بادرات حسن النية التطبيعية مع إسرائيل مثل دعوة وزراء لزيارة المملكة، لم تساعد في تغيير هذه الرؤية. وردها على المعركة أمس كان متساهلاً جداً: “نتابع عن كثب التطورات، وندعو كل الأطراف لوقف إطلاق النار”، كان هذا بيان وزارة الخارجية السعودية. اكتوت السعودية في السابق من محاولتها التوصل إلى مصالحة فلسطينية بين حماس وفتح. وباستثناء بادرات حسن نية رمزية، سعت طوال سنوات إلى بناء جدار فصل صلب بينها وبين حماس. ولكن على خلفية الحرب في الجنوب، تلك التي بدأت في غزة، لن تسارع السعودية إلى استئناف الخطوات السياسية أمام إسرائيل، حتى لو كان معنى ذلك تأخير تحقيق مصالحها مع الولايات المتحدة.
عملية حماس و”الجهاد الإسلامي” “طوفان الأقصى”، باسمها الديني الأيديولوجي، لم تأت صدفة في 7 تشرين الأول، بعد يوم على إحياءٍ للذكرى السنوية في مصر بحرب أكتوبر، كما يسمون حرب يوم الغفران.
مثلما في تلك الحرب، حدثت الخطوة الافتتاحية “العبور” للجدار الأمني هنا، وهي عملية يبدو أنها ستنقض في الروح الفلسطينية. ولكن رغم حجمها وقوتها، فإنها لم تنجح في جر جبهات أخرى وراءها، سواء في الضفة أو لبنان. هذا هو التحدي الكبير لإسرائيل، وهو أن توجه طريقها بين عملية عسكرية واسعة النطاق والتي هدفها عقابي وجهود لإطلاق سراح المخطوفين وبدرجة كبيرة أيضاً الثأر، وبين خطر أن يتحول ذلك إلى محفز يحرك ردوداً عنيفة وقوية في الضفة الغربية وشرقي القدس، وربما أيضاً تسخين الحدود الشمالية.
بشكل تقليدي امتنع “حزب الله” عن الانضمام لحروب الفلسطينيين ضد إسرائيل بصورة مباشرة. هو يساعد التنظيمات الفلسطينية بالسلاح والتدريب والإرشاد، ويتوسط بين حماس وسوريا، وينسق بين “الجهاد” وإيران، ويدعو بالطبع إلى تحرير فلسطين المحتلة. ولكنه في حالات نادرة يسمح لقوات فلسطينية بإطلاق النار بشكل محسوب على إسرائيل، ويدير حروبه ضدها باسم ما يعتبره “مصالح اللبنانيين”. “وحدة الساحات” التي تطمح إليها التنظيمات الفلسطينية تعد مفهوماً نظرياً، حتى الآن تم تطبيقه بالأساس في العلاقات بين الضفة والقطاع، وحتى هنا لم يتم التعبير عنه بصورة فعلية دائماً. أحياناً، هذه “الوحدة” لم تتحقق حتى بين حماس و”الجهاد الإسلامي”، وليس فقط بينهم وبين “حزب الله”. ولكن هذه الوحدة تستحق التحفظ هنا. تفعيل وحدة الساحات ستكون متعلقة بشكل كبير بحجم العملية العسكرية التي ستقوم بها إسرائيل في غزة وبعدد الضحايا وكمية الدمار الذي ستلحقه.