تعثر شبكات النقل سبب في تراجع التعليم وانتشار الأمية في تونس

تعثر شبكات النقل سبب في تراجع التعليم وانتشار الأمية في تونس

تتزايد العوامل المؤثرة في تراجع التعليم في تونس بصفة مباشرة وأخرى غير مباشرة، نظرا لارتباط القطاع الحيوي بمجالات أخرى على غرار النقل الذي تتفاقم مشاكله بسبب ضعف خدماته المقدّمة للتلاميذ والطلاب، وظلّ أسطوله متقادما رغم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية.

تونس – انعكس تعثر شبكات النقل ورداءة خدماتها، فضلا عن اهتراء البنية التحتية، على قطاع التعليم في تونس، وساهم ذلك في تراجع بنية المنظومة التربوية مقابل انتشار الأمية، من دون أن يرصد الناس التأثير على الفور.

وتشهد تونس مع استئناف العودة المدرسية والجامعية منذ أكثر من أسبوعين، ازدحاما كبيرا في وسائل النقل العمومي من مترو وحافلات.

ويرى مراقبون أن معضلة النقل باتت من أهم مشاكل التلاميذ والطلاّب اليومية، خصوصا مع التزامن بين الزمن التربوي والزمن الوظيفي والإداري، ما يخلق اختناقا مروريّا في الحواضر الكبرى، فضلا عن تواتر التعطيلات والصعوبات بسبب تقادم أسطول الحافلات.

ويعاني أسطول النقل التونسي من التهرم وفقدان قطع الغيار بسبب شح السيولة وتراكم الديون على شركة النقل، ما يجعل خطوط المواصلات تعمل في ظل نقص مستمر، حيث قال في وقت سابق، المدير المركزي بشركة “نقل تونس” شكري بن غانم إن “50 في المئة من الأسطول في حالة عطب ولا يستعمل، وإن العربات أخذت في التآكل”.

وكثيرا ما توجه انتقادات للحكومات التونسية بخصوص عدم إيلائها الاهتمام اللازم لقطاع التربية، حيث توفر وزارة النقل حافلات قديمة وغير مهيأة للتلاميذ.

ونفّذ عدد من متساكني منطقة عين عكة بالزريبة من ولاية (محافظة) زغوان (شمال)، مؤخرا، وقفة احتجاجية أمام مقر الولاية مصحوبين بأبنائهم التلاميذ، للمطالبة بتحسين الطريق المؤدية إلى المدرسة الابتدائية ببوشواطة التي تبعد عن منطقتهم حوالي 7 كيلومترات، الأمر الذي تسبب لهم ولأبنائهم في متاعب كثيرة، لاسيما في ظلّ غياب النقل المدرسي ورداءة الطريق.

وذكرت أم من المحتجين لوكالة الأنباء التونسية أن “التلاميذ رغم صغر سنهم يقطعون مسافة يومية تتجاوز 10 كيلومترات، وسط منطقة جبلية توجد فيها حيوانات مفترسة، وتتهددهم مياه الأمطار في فصل الشتاء”.

وأكّد محمد العشّ، والي زغوان، إثر اللقاء الذي جمعه بممثلين عن المحتجين، أنه تقرّر عقد جلسة عاجلة على المستوى المحلي لإيجاد حلّ وقتي لتهذيب الطريق، وتأمين تنقل التلاميذ بواسطة سيارات النقل الريفي، في انتظار عرض هذه المسائل على المجلس المحلي للتنمية لمعالجتها بصفة نهائية.

وسبق أن استلمت تونس دفعة مكونة من 122 حافلة فرنسية مستعملة للحد من الضغط في قطاع النقل وبكلفة منخفضة في ظل الأزمة التي تعصف بالمالية العامة.

وهذه الدفعة جزء من صفقة اقتناء تشمل 300 حافلة وقّعتها شركة “نقل تونس” مع “الوكالة المستقلة للنقل بباريس” بكلفة تناهز 5.1 مليون دولار. وتقول الوزارة إن الحافلات تحمل مواصفات إيكولوجية.

لكن متابعين للشأن التونسي، يؤكّدون أن الحلول الوقتية وإن ساهمت جزئيا في تجاوز بعض الصعوبات، إلا أنها لم تقدر على حلّ الأزمة، خصوصا مع استئناف المؤسسات التربوية والجامعية لنشاطها في منتصف سبتمبر الماضي.

وقال عامر الجريدي، كاتب عام المنظمة التونسية للتربية والأسرة، إن “شبكات النقل وجودتها أو رداءتها عامل مؤثّر في مردود المدرسة باعتباره قناة الوصول إليها ومغادرتها، وجودتها تمثل عامل تحفيز للتحصيل لدى المتعلّمين مثلما تمثّل رداءتها عائقا من عوائق أداء الأسرة التعليمية بتمامها، أمّا الأمّية، فهي نتيجة آلية لعدم التمدرس باعتبار أنّه عنصر تعميم التعلّم والتحصيل”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “العمليّة التعليمية بطبعها عمليّة – مسار يدوم سنوات، ثمّ مدى الحياة، باعتبارها مصنع المواطن الصالح، أيّ المتخلّق المسؤول والمنتج والمندمج إيجابيا في المجتمع، ومثلما يؤثّر النقل الرديء في مردود المتعلّمين وبالتالي في مردود المدرسة، فإن البينة التحتية (من بناءات ومرافق وتجهيزات) لها تأثيرها في المردود، إذ لا توجد مدرسة وتعليم ومدرّس دون قاعات ومختبرات وكمبيوترات وسبّورات ومناضد”.

وتابع الجريدي “البنية التحتية المهترئة ووسائل النقل الضعيفة والمتقادمة والزمن المدرسي غير الملائم للأنساق الزمنية للمجتمع والمناهج التعليمية التقليدية ومختلف عناصر منظومة التعليم هي عوامل التأثير في المردود المدرسي (تخطيطا وحياة مدرسية وتدريسا وتعلّما وتقييما)”.

وتفيد أرقام وزارة التربية في تونس بأن إجمالي عدد التلاميذ بلغ هذه السنة الدراسية مليوني و356 ألفا و630 تلميذا في كل من المرحلة الابتدائية والمرحلة الإعدادية والتعليم الثانوي، أي بزيادة تقدّر بـ2.8 في المئة مقارنة بالموسم الماضي، في حين بلغ عدد فصول الدراسة 90 ألفا و453 فصلا بزيادة بـ547 فصلا.

لكن وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي كشف خلال جلسة استماع بمجلس النواب في أغسطس الماضي، عن أن عدد الأميين ارتفع إلى مليوني تونسي، منهم مليون شخص خلال العشرية الأخيرة. وبحسب إحصاءات المركز الوطني لتعليم الكبار، بلغت نسبة الأمية في تونس حوالي 17.9 في المئة.

وتصنف شبكة المترو كأفضل مشروع في قطاع النقل العام للحكومة التونسية في النصف الثاني من القرن العشرين، منذ بدء تشغيل أول خط في عام 1985 ومن ثم التوسع ليشمل ستة خطوط.

وأفاد فريد الشويخي، المتخصص في علم النفس التربوي، بأنه “يوجد العديد من الجوانب المتداخلة في علاقة تراجع التعليم بتردي مستوى النقل والخدمات”، قائلا “تجب مراجعة الزمن المدرسي والوظيفي، لأن التزامن بينهما (الثامنة صباحا بالتوقيت المحلي)، يجعل من اكتظاظ الطرقات أمرا طبيعيا”.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن “هناك حافلات رابضة في عدد من الوزارات مثل وزارة الشباب والرياضة، ومآوي عدة مؤسسات وإدارات جهوية، يمكن استعمالها في النقل المدرسي، فضلا عن مراجعة توظيف المدرسين حسب القرب والمناطق، حيث من غير الممكن أن يدرّس أستاذ في مؤسسة تربوية بعيدة عن مقرّ سكناه، فيتكبّد مشقة السفر وما يترتّب عليها من تضحيات وإرهاق ونفقات”.

وتابع الشويخي “المجتمع التونسي برمّته يعاني من تردي خدمات النقل والصحّة والتعليم، وهي قطاعات مترابطة وحيوية، والتلاميذ هم أطفال وأغلبهم يستفيق منذ الصباح الباكر لاقتناء وسيلة نقل (حافلة أو مترو خفيف) وأغلبها تكون مكتظّة أو معطّبة، وهذا ما يشتّت تركيز الطفل عن الدراسة والتعليم، ويصبح منشغلا بطريقة الذهاب والعودة المرهقة مع كثرة ساعات التمدرس، كما سينعكس ذلك على جسده وأفكاره وسيهمل الجانب المدرسي، وهذا ما يقتضي مراجعة المنظومة برمّتها”.

وكما هو الحال لأغلب المؤسسات العمومية، تعاني شركة نقل تونس عجزا ماليا بلغ 235 مليون دينار (75.8 مليون دولار أميركي) في 2022، ليبلغ إجمالي الديون حوالي 627 مليون دينار.

وبحسب إحصاءات شركة النقل، فإن حالة التهرم والأعطاب تسببت في عام 2022 في خسارة حوالي نصف عدد الحافلات المستخدمة منذ عام 2010.

وسبق أن أكدت تقارير دولية ومحلية أن عدد ضحايا نظام التعليم في تونس يتجاوز بكثير أعداد الناجحين، وأشار تقرير للبنك الدولي حول فقر التعلم إلى أن حوالي 65 في المئة من التلاميذ التونسيين لا يجيدون القراءة.

وأكّد المتخصص في علم الاجتماع العيد أولاد عبدالله أنه “كلما يتقدّم الطفل في الدراسة وخاصة في الوسط الريفي، تتفاقم مشكلة تنقله لمزاولة تعليمه، ونلاحظ تزايدا كبيرا في نسبة الانقطاع المدرسي الذي يكون أساسا في المستويين الأساسي والثانوي”.

وصرّح لـ”العرب” بأن “هناك صعوبة في صول وسائل النقل إلى المسالك الريفية، وكثيرا ما تُنشر صور في وسائل التواصل الاجتماعي تبرز تنقل تلاميذ عبر جرارات أو وسائل تقليدية (عربات)”.

واعتبر أستاذ علم الاجتماع أن “من يغادرون المؤسسة التربوية سنويا في حدود 150 ألف تلميذ، وعندما يغيب ثلاثة أو أربعة تلاميذ في مؤسسة واحدة، فلا يلاحظ ذلك على الفور، كما تراجعت أيضا خدمات المبيت وأصبحت رديئة جدا وجعلت العائلات تتخوّف من دراسة أبنائها بعيدا عن مناطقها”، لافتا إلى أن “تراجع أسطول النقل تدفع ضريبته الإناث بالأساس، وترتب عليه ارتفاع في نسبة زواج القاصرات (بين 15 و17 سنة)، كما ارتفعت نسبة الإنجاب بالمنزل لتبلغ 14 ألف حالة، وكلها نتائج للانقطاع المدرسي”.

ويمثل هذا الوضع مشكلة حقيقية أمام الحكومة من أجل احتواء الضغط المضاعف على قطاع النقل والزحام الشديد قبل أسابيع على بدء الموسم الدراسي والجامعي وذروة التنقل لموظفي القطاع العام في إقليم تونس الكبرى، التي تضم العاصمة والولايات الثلاث المتاخمة لها.

وسبق أن أكدت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في إحصائيات صادرة عنها أن 70 في المئة من تلاميذ تونس لا يجيدون الرياضيات و70 في المئة لا يجيدون العلوم.

وأكد البنك الدولي في تقريره حول رأس المال البشري في العام 2018 أن تلميذ السنة الأولى من التعليم الابتدائي الذي يبلغ من العمر 6 سنوات يتوقع أن يخسر 50 في المئة من قدراته ومدخراته بسبب رداءة التعليم في تونس.

وتراجعت تونس على مستوى مؤشر جودة التعليم للعام 2020، وصنفت في المرتبة السابعة عربيا وفي المرتبة الـ84 عالميا بعد أن كانت في مراتب أفضل لسنوات في جودة التعليم وتصنيف الجامعات، ما يطرح بجدية جهود السلطات في الإصلاح والتغيير.

العرب