تلقت مستوطنات ما يسمى «غلاف غزة» الضربة الأولى والأكبر في الهجوم المباغت لمقاتلي حماس فجر السبت، السابع من أكتوبر الحالي. ووصل عدد القتلى في بعض المستوطنات إلى أكثر من 10% من السكان. وبلغت الخسائر مئات القتلى وآلاف الجرحى وخراب البيوت والبنى التحتية، إضافة إلى الخسائر المادية المهولة، تلقت الدولة الصهيونية ضربة في صميم سبب وجودها، فقد قامت لحماية اليهود وفشلت في ذلك فشلا ذريعا، وتلقت ضربة أخرى في لب مشروعها، بعد احتلال مستوطنات واضطرار سكانها إلى إخلائها. هؤلاء لن يعودوا إلى مستوطناتهم إلا بعد أن يتأكدوا بأن ما حدث لن يتكرر، وأنهم لن يتعرضوا للمزيد من الاقتحامات والرشقات الصاروخية. إسرائيل ستواصل حربها ضد غزة حتى تصل إلى ما يضمن عودة المستوطنين إلى مستوطناتهم، وإن هي لم تفلح في إعادتهم، فسيكون ذلك، بالمعايير الصهيونية، فشلا لا يقل عن فشل السابع من أكتوبر.
قضاء غزة: التوتر بين القطاع والغلاف
قبل النكبة، كان قطاع غزة والمنطقة المحيطة به، التي تسمى «الغلاف»، يشكلان معا «قضاء غزة» الانتدابي، الذي بلغت مساحته 1111 كم2 (وربما هذا المقصود في الرقم الذي يكرره يحيى سنوار). وفي نكبة 1948 قامت القوات الصهيونية باحتلال 47 قرية في القضاء، وفي إطار مشروعها للتطهير العرقي، دمرت 47 قرية وهجّرت سكانها الـ80 ألفا، ولجأت غالبيتهم الساحقة إلى غزة، ويصل عددهم اليوم إلى مئات الآلاف. وعلى أراضي هذه القرى المهجرة أُقيمت مستوطنات كثيرة معظمها من «الكيبوتسات الاشتراكية». لكن على الرغم من مرور الزمن، يبقى الرابط الوجداني للأجيال الفلسطينية ببلداتها الأصلية راسخا في النفس لا يمحي. صحيح أن أهلها لا يسكنون فيها، لكنها تسكن فيهم. وبالناحية نفسها، وليس من ناحية أخرى، هناك الهم الوطني الفلسطيني العام، الذي يغذي ارتباط الناس بقراهم التي هُجروا منها، كما يشحن هذا الارتباط الوجدان الوطني بطاقات هائلة. لا يمكن إدراك ما حدث ويحدث في غزة، من دون الإلمام بهذه الخلفية العامة والفردية. وكثير من القيادات الفلسطينية التي يجري تداول أسمائها في الإعلام، تنتمي عائلاتها إلى قرى قضاء غزة، المهجرة. إن حالة اللجوء في الواقع وفي الوعي وفي الوجدان هي الوقود المحرك للتمرد على الواقع، ولا يمكن أن نفهم غزة وقدرتها على الصمود في وجه القصف الرهيب، إلا إذا أدركنا أن الفلسطيني لم يفقد الذاكرة، وقد محا خيار الاستسلام من قاموسه ومن مخيلته.
لأن الاستيطان هو لب الصهيونية فإن إنهاء الحرب، دون عودة المستوطنين إلى الغلاف سيشكل ضربة استراتيجية للدولة الصهيونية
خطاب ديان 56
في سنوات الخمسين من القرن الماضي، وبعد النكبة انضم المئات من الشباب الفلسطيني، من اللاجئين في غزة إلى مجموعات «الفدائيين»، التي كانت تهاجم معسكرات الجيش الإسرائيلي والمستوطنات في المنطقة المحيطة بغزة، وحظيت هذه المجموعات برعاية ودعم من الجنرال مصطفى حافظ قائد المخابرات العسكرية المصرية. وقد بدأ هذا العمل الفدائي المبكر في عمليات تسلل إلى القرى المهجرة لجني المحاصيل الزراعية، وتطور لاحقا إلى عمليات عسكرية منظمة. في أبريل 1956، صدف أن وجد الجنرال موشيه ديان (مع قريبه عيزر وايزمن) في كيبوتس ناحال عوز (أقيم عام 1951 على أراضي خربة الوحيدي شرقي الشجاعية) لحضور عرس أحد أقاربه، وفي ذلك اليوم قتل المستوطن روعي روتنبرغ، في عملية للفدائيين، وألقى ديان خطابا شهيرا تحول إلى أيقونة صهيونية، وهناك من يعتبره من مكونات الهوية اليهودية -الصهيونية، بسبب بلاغته اللغوية وصياغاته المتعلقة بأسس الأمن والاستيطان، وبما يجمعهما ويربطهما. ماذا قال ديان في خطابه؟ جوهر الخطاب هو أن الفلسطيني خسر الأرض، ولم ولن يسلّم بذلك، وفيه رسالة للمستوطنين بأن يستمروا في البناء والحرث والزرع، والجيش يحميهم. ومما جاء في الخطاب: «علينا ألا نلقي التهم على القتلة. كيف لنا أن نشكو كرههم الشديد لنا؟ وهم ثماني سنوات يقبعون في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم نستوطن الأرض والقرى التي سكنوها هم وآباؤهم». وربط ديان الاستيطان بالأمن قائلا: «جيل الاستيطان نحن، ومن دون خوذ الفولاذ وفوهات المدافع، لن نقدر على غرس شجرة أو بناء بيت». وجاء خطاب ديان تعبيرا وتوكيدا على «العهد الصهيوني» بين المستوطن على الحدود والدولة وجهازها الأمني: المستوطن يستوطن والدولة تحميه. في يوم السبت، السابع من أكتوبر الحالي، لم تف الدولة الصهيونية بالعهد.
هل يعود مستوطنو الغلاف؟
في ظل حالة كارثية وموت وجرح وأسر حوالي 20% من سكان مستوطنات «غلاف غزة»، جرى إخلاء المنطقة بالكامل، وسط شعور بغياب الثقة بالدولة وبأجهزتها السياسية والأمنية. وطفت على السطح ثلاثة توجهات، ينقسم وفقها المستوطنون: الأول سيعود إلى مكان سكناه، مهما حصل. وهو مكون من كبار السن المشبعين بالعقيدة الاستيطانية الصهيونية، والقسم الثاني، يعلن بأنه لن يعود مهما حصل، ومعظمه من الشباب المصدوم بهول ما حدث. أما القسم الثالث، وهو الأغلبية، فيشترط عودته بالقضاء على أي إمكانية للتعرض لتهديد أمني حاضرا ومستقبلا. هؤلاء لا يكتفون بتشديد الإجراءات الأمنية من حراسة ومراقبة وانتشار للقوات العسكرية على الحدود، بل يربطون عودتهم بما يسمونه القضاء على حماس، ويعرضون موقفهم بأنه «إما نحن أو هم!».
في هذا السياق كتب الجنرال-احتياط جيورا آيلاند الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي: «من يأمل أن يعود سكان 22 مستوطنة تعرضت للهجوم ويوافقوا على تربية أولادهم هناك، عليه أن يبرهن بالفعل والعمل أنه لم يعد هناك تهديد. لا يمكن تحقيق هذا الهدف بالقصف الجوي، وهناك شك في ما إذا كان من الصحيح المخاطرة باجتياح بري طويل الأمد. لذا لا مناص أمام دولة إسرائيل من تحويل غزة بشكل مؤقت، أو دائم، إلى مكان لا يمكن العيش فيه». ما يقوله آيلاند عمليا، أن أمن المستوطنات يستلزم ارتكاب الفظائع، وهو يربط عودة المستوطنين بسحق غزة. من بين الـ22 مستوطنة الملاصقة لحدود القطاع، هناك 21 كيبوتسا. وأعلن نير مئير، سكرتير «الحركة الكيبوتسية»: «شرطنا لتجديد الاستيطان هو ألا تكون حماس في الجهة الأخرى.. تهاوت كثير من المفاهيم في الأسبوع الماضي وعلى الدولة أن تتحرك بسرعة قبل أن ينهار المبدأ الصهيوني بفلاحة الأرض حتى الثلم الأخير على الحدود. هناك 100 كيبوتس في الدولة ومعظمها على الحدود، وإذا لم تحل المشكلة في الغلاف، فسوف يستنتج الناس استنتاجاتهم، وإذا لم تقم الدولة بواجبها فسوف تكون تلك هزيمة نكراء لدولة إسرائيل». يعتمد المشروع الصهيوني على ثلاثة ركائز هي الهجرة والاستيطان والأمن. وفي السابع من أكتوبر تلقى الاستيطان واقعا ومفهوما ضربة قوية، إذ لأول مرة منذ عام 1948، يجري احتلال مستوطنات إسرائيلية ولو لساعات، وهذه صاعقة مزدوجة لركيزتي الاستيطان والأمن معا، ولأن الاستيطان هو لب الصهيونية فإن إنهاء الحرب، دون عودة المستوطنين إلى الغلاف سيشكل ضربة استراتيجية للدولة الصهيونية. لقد بدأت بعض النخب الإسرائيلية بالتفكير في «اليوم التالي» وبإمكانية أن يرفض المستوطنون العودة إلى كيبوتسات غلاف غزة، وتطرح مقترحات بتحويل قرى «اليسار الصهيوني» إلى مستوطنات لليمين الديني الصهيوني، لأن المجموعات البؤرية الدينية ستقبل العيش على الحدود مهما كانت المخاطر. قد يقبل نتنياهو بمثل هذ الأمر، لكن من شبه المستحيل أن يقبل به بيني غانتس، الذي يعتبر نفسه تلميذا لبن غوريون ورابين، اللذين كانا من أهم رعاة الكيبوتسات «الاشتراكية». وعليه فهو قد يكون أكثر تطرفا من نتنياهو بكل ما يخص نهايات الحرب. في كل الأحوال مصير مستوطنات غلاف غزة، هو من أهم العوامل في تحديد مآلات العدوان على غزة.