مئات الفلسطينيين ممن لاذوا بالمستشفى قتلوا بقصف إسرائيلي… رئيس القوة العظمى الأولى في العالم يزور إسرائيل تضامناً والحرب من طرف واحد في أوجها… ألمانيا تنحدر إلى دولة بوليسية مكارثية على كل من يرفع صوته ضد المجزرة… حاملتا طائرات أمريكيتان قبالة شواطئ «شرق المتوسط» وتدخل في الصراع بألفي جندي من المارينز في إمرة بنيامين نتنياهو لمساعدة الجيش الإسرائيلي في الغزو البري… خطة إسرائيلية لتهجير أهالي غزة خارج حدودها نحو صحراء سيناء بذريعة القضاء على حركة حماس… دعم عسكري ومعنوي وسياسي للهمجية الإسرائيلية غير مسبوق بإطلاقيته من الولايات المتحدة والدول الأوروبية ودول أخرى… لا أحد يريد أن يرى ما ترتكبه إسرائيل من حرب إبادة بحق الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية أيضاً منذ السابع من الشهر، بل ما زالوا عندما حدث في فجر ذلك اليوم باعتباره تجسيداً للشر المطلق الذي لا يمكن لإسرائيل بلوغه مهما فعلت بغزة وبالفلسطينيين عموماً في نظر «الرأي العام العالمي»!
كل هذه الأحداث وتفصيلاتها تشير إلى جحيم قادم فوق الجحيم الذي يشتغل حالياً بأقصى طاقته، أقصد به جحيم النتائج السياسية المحتملة فيما بعد انتهاء المحرقة.
فباستثناء الدول العربية المعنية مباشرةً والأمم المتحدة لا أحد من ممثلي الدول يحذر من التهجير القسري لفلسطينيي غزة، وربما الضفة أيضاً، في الوقت الذي يتحدث فيه نتنياهو بصراحة عن «تغيير صورة الشرق الأوسط»! لن يأتي بايدن إلى تل أبيب ليطالب نتنياهو بوقف إطلاق النار، بل سيطالبها على الأرجح بتدمير حركة حماس، ومعها الجهاد، بأقل ما يمكن من كلفة بشرية بين المدنيين، ليس رأفةً بهؤلاء بل لإنقاذ شيء من «صورة» الولايات المتحدة لتكون مرتاحة في استمرار دعمها المطلق لحرب إسرائيل «حتى تحقيق أهدافها». ولا بد أن يناقش نظيره الإسرائيلي حول مشروع التهجير وكيفية التغلب على العقبات السياسية للحصول على قطاع غزة خالية من البشر. ولا يمكن أن نتوقع بحال أي حديث عن إحياء رميم «عملية السلام» التي هدفها المفترض حل الدولتين، ويصرح قادة دول عربية ودول أخرى بوجوب العودة إليها.
لقد بقيت خطوة واحدة حتى يتبنى «العالم الغربي المتحضر» (!) النظرية الإسرائيلية القائلة «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت» إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تفعله الشرطة والقضاء الألمانيين بأي احتجاج تضامني مع الفلسطينيين، أو تصريحات قادة أحزاب ألمانية يطالبون فيها بترحيل أي لاجئ قد يتم تأويل أقواله أو نشاطه على «معاداة السامية» التي يتهم بها أي منتقد لأعمال إسرائيل الهمجية، حتى لو كان هذا يهودياً، وإسقاط الجنسية عنه إذا كان حاصلاً عليها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك العجوز الأمريكي الذي هاجم بيتاً لعائلة فلسطينية وقتل طفلاً صغيراً بطعنه بالسكين 16 طعنة.
مئات الفلسطينيين ممن لاذوا بالمستشفى قتلوا بقصف إسرائيلي… رئيس القوة العظمى الأولى في العالم يزور إسرائيل تضامناً والحرب من طرف واحد في أوجها
الاسترشاد بسوابق حروب إسرائيل مع جيرانها وفلسطينييها قد لا يفي بالغرض لتوقعات اليوم التالي للحرب. فالظرف الدولي جديد كل الجدة منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، حين اصطف الغرب الأطلسي ودول أخرى حليفة «صفاً واحداً» في مواجهة «الشرير الروسي» ويكاد يضيف إليه الصيني أيضاً لولا الحذر الصيني الشديد في سياساتها. أما هذه الدول في موقفها تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة فقد فاق دعمها لإسرائيل كل ما قدمته من دعم لأوكرانيا سياسياً على رغم الفارق المهول بين الحالتين. ففي الأولى تتعرض دولة لاعتداء قوة عظمى على الأقل على المستوى العسكري والعضوية الدائمة في مجلس الأمن؛ في حين أن «المعتدي» المفترض لدى الحلف الغربي هو منظمة سياسية ـ عسكرية متواضعة الإمكانات، سرعان ما تحولت هي إلى ضحية للقوة الإسرائيلية الغاشمة التي تستهدف منطقة سكنية صغيرة بحجم غزة مكتظة بأكثر من مليونين من المدنيين المحاصرين منذ 13 عاماً!
وإذا كانت «عملية السلام» قد بدأت عملياً بزيارة أنور السادات لإسرائيل، بعد بضع سنوات على حرب 1973، واكتسبت زخماً دولياً كبيراً في أعقاب حرب الخليج الأولى مطلع التسعينيات (مؤتمر مدريد) تلتها اتفاقيات منفردة مع كل من الأردن والقيادة الفلسطينية، فلا تشير الوقائع السياسية المحيطة بحرب إسرائيل الجارية الآن إلى أي احتمال بالعودة إلى مسار السلام الذي دفنته إسرائيل منذ صعود نتنياهو إلى السلطة على الأقل. «السلام» الذي يريده نتنياهو والقسم الأكبر من الرأي العام الإسرائيلي هو تطبيع العلاقات مع دول عربية والتخلص من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. الشروط الحالية تعمل لصالح تحقيق هذا المشروع، بجزء منه على الأقل في الجولة الحالية، ربما بإخلاء النصف الشمالي من قطاع غزة بواسطة الطحن العسكري، والدفع بقسم كبير من الفلسطينيين جنوباً خارج القطاع لتوطينهم في سيناء. فنحن لا نعرف بعد إلى متى يمكن أن تستمر «ممانعة» السيسي لهذا المشروع. فهو سيتعرض لضغوط وإغراءات أمريكية غير مسبوقة لتمرير هذا المشروع، فهمّه الوحيد الآن ينحصر في الفوز في الانتخابات الرئاسية الوشيكة في مصر. ومن المحتمل أن «فوزه» المرجح فيها سيمنحه ما يحتاجه من «تفويض» للرضوخ لضغوط واشنطن وإغراءاتها.
صحيح أن مشروعاً كارثياً كهذا قد يلقى عقبات كبيرة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن فرضه كأمر واقع حالياً بانتظار تكريسه أممياً -الذي قد يستغرق سنوات- سيكون كافياً لإسرائيل كجائزة ترضية على فشلها المدوي في مواجهة طوفان الأقصى.
ولكن أليس هذا وصفة نموذجية لولادة موجة جديدة من «الإرهاب»؟