معمر فيصل خولي
أظهرت عملية حركة المقاومة الإسلامية “حماس” والتي اطلقت عليها ” طوفان الأقصى” في صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، التي استهدفت المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المنتشرة في محيط قطاع غزة، القدرة المهنية العالية التي تتمتع بها، لإلحاق خسائر غير مسبوقة في الأرواح والبنية التحتية لإسرائيل منذ حر عام 1973، وأعادت الأمل لجيل فلسطيني فقد الأمل بقيادته، والجماعة الدولية لتحقيق آماله الوطنية، فقرر أخذ الأمور بيده، وبتخطيط دقيق لم يعهد العالم العربي الكثير منه منذ أمد طويل.
كما أظهرت هذه العملية مدى الفشل الأمني الذريع التي منيت به إسرائيل، فبينما انشغل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير والحكومة الإسرائيلية بشكل عام بالانتهاكات اليومية في الضفة الغربية في القدس وجنين وغيرها من مدن الضفة، جاء رد الفعل من غزة، التي من المفترض أنها تعيش ضمن حصار خانق ونظام أمني إسرائيلي لا يسمح لها بهذه الاختراقات، ومن قبل شبان ليس من المفترض أن يكونوا على هذا القدر من التدريب والانضباطية.
ظنت إسرائيل طويلا أن حصار غزة وما يرتبه من معاناة معيشية رهيبة لسكان القطاع والضربات العسكرية المتكررة ضد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى والعمليات الاستخباراتية المتتالية التي استهدفت تصفية العناصر المؤثرة في كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها وإحاطة القطاع بأسوار وتحصينات أمنية متطورة، ظنت أن هذه السياسات ستضمن أمنها وتفرغ تدريجيا مخزون مقاومة الاحتلال لدى أهل غزة وتفرض عليهم عزلة كاملة في واقع مرير لا فكاك منه.
في الواقع، كانت مخطّطات إسرائيل القاضية بفرض السيادة على المسجد الأقصى؛ أو العمل على تهميش الوجود الفلسطيني؛ الإسلامي، قد وصلت إلى منعطف متقدِّم، وخطير؛ إذ زادت أعداد المقتحمين له؛ من اليهود المتطرِّفين الذين يعلنون نيّاتهم وأهدافهم؛ في إحلال هيكلهم مكان المسجد الأقصى، وطالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بإجراء تغييراتٍ جوهريةٍ في نظام العمل في حرم المسجد الأقصى، و”إتاحة المجال للمصلين اليهود على مدار الساعة؛ بلا قيود، أو تقاسم زمني، مع المصلين المسلمين”. وبعَث رسالة إلى نوّاب الائتلاف، يخبرهم فيها بأنه “مصمِّم على المُضيِّ في الطريق إلى الجبل (الأقصى)”.
كما في انتهاك جنود الاحتلال المسجد الأقصى، القِبْلي، بأحذيتهم، وتكسير زجاج نوافذه، فضلًا عن إلقاء قنابل الغاز فيه، ثم عرْض صور الشباب من المصلِّين فيه، وهم ممدَّدون على وجوههم. هذا بالإضافة إلى الاعتداء الوقِح والقاسي على النساء، والشيوخ، علاوةً على الشتائم الموجَّهة إلى النبي محمَّد، والشتائم العنصرية إلى العرب، الكاشف عن معتقداتٍ تستبيح دماءَهم، وأرواحهم، ووجودهم في فلسطين.
عملت إسرائيل طويلًا على التهميش الممنهج للسلطة الفلسطينية إن بالتنصل من كافة التزامات وتعهدات عملية السلام التي بدأت قبل عقدين من الزمان باتفاقات أوسلو في 1993 وكان هدفها المعلن هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتعايشها السلمي مع دولة إسرائيل أو بالإمعان في الضغط السياسي والاقتصادي والمالي على رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) وأعضاء حكومته والتعامل معهم ومع الأجهزة الأمنية والإدارية الفلسطينية كوكيل أمني يتعين عليه منع رد اعتداءات المستوطنين المتطرفين والحيلولة دون حدوث أعمال عنف في الداخل الإسرائيلي، ظنت أنها بذلك تقضي على الأمل في الدولة المستقلة وتنسف حل الدولتين الذي أسس لشرعية عملية السلام وتستبدله بوضعية احتلال دائم صار نظاما متكاملا للفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقصي من دائرة الفعل السياسي السلطة الفلسطينية ومن خلفها منظمة التحرير ليصبح أهل الضفة والقدس دون قوة حقيقية تمثلهم، ومن ثم تضعف مقاومتهم للاحتلال والاستيطان ويتحولون تدريجيا إلى سكان ما يشبه «البانتوستنات» المعزولة عن بعضها البعض بخرائط المستوطنات المتسعة دوما والفاقدة للهوية الوطنية والسياسية بفعل تهميش السلطة والمنظمة.
أما فلسطنيو عام 1948م، تطلق هذه التسمية على الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم عند احتلال إسرائيل لفلسطين عام 1948، وخضعوا لحكم دولة الاحتلال وأُعطوا الجنسية الإسرائيلية أو الإقامة الدائمة. ويمثل “فلسطينيو الـ48” ما نسبته 21% من سكان إسرائيل وفقا لإحصائيات عام 2023. ويتوزعون في مناطق النقب والمثلث وشمال الأراضي المحتلة. يعاني سكان عرب 48 من سياسات تمييز واضحة تمارسها الحكومة الإسرائيلية ضدهم في مجالات مختلفة منها:
إذ يمارس القضاة تمييزا عنصريا بين المتهمين العرب واليهود في القضايا المتشابهة. فقد ذكر القاضي اليهودي في محكمة الأحداث في الناصرة يوفال شدمي أن تعامل القضاء الإسرائيلي والنيابة الإسرائيلية يتغير على أساس قومي، وتختلف المعاملة بين متهم إسرائيلي وآخر من عرب 48 حتى وإن تشابهت التهمة.
على الرغم من وجود قانون يحمي حقوق العمل للمواطنين العرب في إسرائيل، إلا أن التمييز بينهم كبير في القطاعين العام والخاص. فلا يحظى السكان العرب بفرص العمل ذاتها كما يطالهم التمييز في الأجور والرواتب والترقيات والمميزات وظروف العمل. وتعاني نسبة عالية من سكان عرب 48 من البطالة التي تتزايد بسبب غياب الفرص والتمييز المستمر.
وأدى انهيار الزراعة الفلسطينية إلى فقد الفلسطينيين مصدرا أساسيا لدخلهم، وذلك بسبب سياسات مصادرة الأراضي والتمييز في تخصيص المياه وتحديد المحاصيل.
كما يفتقر سكان عرب 48 إلى البنية التحتية الصناعية، وذلك بسبب التمييز في استثمارات الحكومة والتأخر في المصادقة على الخطط، والتمييز في التخطيط الحكومي، وتخصيص مناطق صناعية كبيرة وواسعة للمدن الإسرائيلية، ومنع كثير من الخطط الصناعية العربية.
يعاني عرب 48 من سياسات التمييز التي انتهجها الاحتلال في التعليم. فخلال فترة الحكم العسكري التي امتدت من 1948 إلى 1966 كان الحاكم العسكري المتحكم الفعلي في تعيين المعلمين العرب، وله سلطة وأثر على جهاز التعليم كاملا.
بعد انتهاء الحكم العسكري بقيت الرقابة الإسرائيلية والتدخل في نظام التعليم والتضييق عليه مستمرا من خلال مراقبة جهاز التعليم العربي والتدخل في أموره كلها.
ومن ذلك القيام بفصل المدارس العبرية الدرزية عن جهاز التعليم العربي، وتخصيص جهاز خاص به ودائرة خاصة به تسمى دائرة المعارف للدروز. وفصل المدارس البدوية وإقامة دائرة معارف لها سميت بدائرة المعارف للبدو تماشيا مع سياسة الحكومة الرسمية بتقسيم المواطنين العرب والتعامل معهم كطوائف وليس كأقلية واحدة.
وسنت الدولة الإسرائيلية مجموعة من القوانين التي ضيقت من خلالها الخناق على فلسطينيي الداخل وسلبت فيها حقوقهم.
وقد بدأ الاحتلال الإسرائيلي بسن هذه القوانين منذ نكسة عام 1967م، إذ منع الفلسطينيين المتزوجين من الخارج أو الداخل من الالتحاق بعائلاتهم، فنتج عن هذا القرار تفريق شمل أكثر من 120 ألف عائلة فلسطينية، وقد منحت اتفاقية أوسلو الفلسطينيين حق لم الشمل، إلا أن إسرائيل أصدرت قانونا عام 2003 منعت به لم شمل العائلات بذريعة الدواعي الأمنية.
وتمنح الجنسية الإسرائيلية عرب 48 حق التمثيل في الكنيست الإسرائيلي، إلا أن الاحتلال سن قانونا يتيح لثلاث أرباع أعضاء الكنيست بفصل أي عضو في لا يدين بالولاء الكامل لإسرائيل.
بالإضافة إلى القوانين التي تعاقب المؤسسات إذا أحيت ذكرى النكبة، وتقطع عنها التمويل. وقد تزايدت القوانين العنصرية بعد صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الحكم وأدت إلى تضييق الخناق على المجتمع العربي في إسرائيل، والتأكيد على يهودية الدولة. دفعت هذه القوانين إلى معاملة العرب وكأنهم “مواطنون من الدرجة الثانية”، والنظر إليهم بكونهم خطرا وعدوا داخليا يشكل تهديدا على الأمن القومي.
ويتعرض فلسطينيو الداخل إلى اعتداءات وانتهاكات دائمة من قبل المستوطنين، من خلال قيامهم بإحراق ممتلكات الفلسطينيين والاعتداء عليهم وتخريب منازلهم وتجريف أراضيهم وكتابة شعارات تدعو إلى قتل العرب، وذلك بدعم من قوات الاحتلال. كما يتعرض الفلسطينيون في مناطق عرب 48 إلى تهديدات بالقتل والأسر، وعمليات دهس ومهاجمات تنفذها الجماعات المتطرفة والمستوطنون وجيش الاحتلال.
كان التعامل غير الجدّي على الصعيد الدولي، سيما من الولايات المتحدة الأمريكية، مع مبادرة الأمير عبدالله التي تبنّتها جامعة الدول العربية في قمّة بيروت عام 2002، وهي المعروفة باسم الأرض مقابل السلام، ورفضتها إسرائيل. واستمر أسلوب التعامل ذاته في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما الذي كان قد وعد بإيجاد حلٍّ مقبولٍ للقضية المعنية، ولكن وعوده ظلت مجرّد حبر على ورق. وجاء ترامب ليعبّر عن انحيازه التام لصالح إسرائيل، ويقطع الطريق نهائيا على فكرة حل الدولتين عبر الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والصمت على سياسة بناء المستوطنات وتصرّفات المستوطنين، ومن ثم الاعتراف بضم إسرائيل الجولان، ويدفع باتجاه التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية، وأدّى ذلك كله إلى هيمنة الفكر اليميني المتشدّد داخل المجتمع الإسرائيلي على حساب الأصوات المعتدلة التي كانت تُطالب بإنصاف الفلسطينيين، والتوصل معهم إلى حلّ واقعي قابل للحياة والاستمرار.
فقد أهملت الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، معالجة القضية الفلسطينية معالجةً عادلة مقبولة مقنعة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ وظلت تلك الإدارات تعتمد مع هذه القضية المعالجة العرضية، عبر إعطاء الوعود المناسباتية التسويقية التي لم تتحقق، وإنما ظلت في عداد التطمينات الهلامية.
ظنت إسرائيل طويلا أنها تستطيع أن تتنصل من التزامات عملية السلام مع الفلسطينيين وجوهرها قاعدة «الأرض مقابل السلام» بحصار غزة وتفتيت الضفة الغربية والقدس الشرقية وتهميش السلطة في رام الله ووضعها في خانات الصراع المستمر مع حماس وفصائل غزة والضغط على فلسطينيي الداخل بسياسات التمييز العنصري. وظنت أيضا أنها تستطيع أن تتجاوز قاعدة «إقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال مقابل السلام والتطبيع» التي عبرت عنها مبادرة السلام العربية الصادرة في 2002 من خلال الانفتاح على اتفاقيات للتطبيع والصداقة مع دول عربية كالإمارات والبحرين والمغرب والاقتراب من اتفاقيات مشابهة مع دول أخرى كالسودان والتفاوض المكثف مع السعودية وبرعاية أمريكية لتوقيع معاهدة سلام وفتح الباب واسعا للعلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية والدبلوماسية. وكانت إسرائيل بذلك تفرغ مبادرة السلام العربية من كل مضمون، وتحقق حلم دمجها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشراكات ثنائية مع دول عربية عديدة دون أن تضطر لإنهاء واقع الاحتلال أو قبول إقامة الدولة الفلسطينية. ظنت أنها بذلك تنهي وجود الحاضنة الإقليمية لفلسطين وتصنع، كما زعم بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسابيع قليلة، شرق أوسط جديد تلغي به وجود القضية الفلسطينية كقضية تحرير ودولة وهوية وطنية وتختزلها إلى قضية سكان يتعين عليهم العيش مع الاحتلال والاستيطان والأبارتيد إلى ما لا نهاية والتفكير فقط في سبل تحسين أوضاعهم المعيشية.
أما أنْ يكون لعملية طوفان الأقصى دوافع أخرى، مصاحبة، كتعطيل التطبيع، فهذا محتمل، وقد تذهب بعض الاحتمالات إلى الرغبة في إفشال مساعي التطبيع مع السعودية، وغيرها من الدول العربية، أو الإسلامية، وما قد يعنيه ذلك من تجاوُز القضية الفلسطينية، وفرْض الرؤية الاحتلالية، من طرف واحد، بالغ التطرُّف والغطرسة. وقد يستشفُّ بعضهم في هذه الجرعة المكثَّفة من الضربات الصميمية محرِّكًا توجيهيًّا نحو تطويع التعنُّت الاحتلالي، على المستويين؛ القيادي والشعبي، بضرورة تقديم تنازلاتٍ يرونها “مؤلمة”، ذلك بعد أن روَّج رئيس حكومة، بنيامين نتنياهو، وغيره، إمكانية اعتماد معادلة “السلام مقابل السلام”، أو تقديم مغريات تكتيكية، أو “تسهيلات” للفلسطينيين، أو، في أحسن الأحوال، ما يُعرَف بـ”السلام الاقتصادي”، وهو ما أفضى، في المجمل، إلى تهميش الشأن الفلسطيني.
ليس الانفجار الحادث حاليا بين الفلسطينيين والإسرائيليين الأول ولن يكون الأخير، ما دامت المعاناة الفلسطينيّة مستمرّة؛ لقد أثبتت عملية حماس الأخيرة أن التفوق العسكري الإسرائيلي لن يحسم الصراع، كما لن تحسمه كل الاتفاقيات العربية الموقعة مع إسرائيل. يفرض الفلسطينيون اليوم أنفسهم بشكل جلي، ما يؤشر إلى عدم إمكانية الرجوع إلى مرحلة ما قبل هذه العملية. قد ينجح نتنياهو اليوم في الحصول على دعم المعارضة الإسرائيلي مرحليا، ولكن إسرائيل خسرت الكثير سواء من ناحية صورتها المتفوقة عسكريا، أو من ناحية محاولة القفز فوق الجانب الفلسطيني وإعطاء الانطباع بأن السلام ممكن في المنطقة، من دون الوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين.
قد يكون حجم العملية وتوقيتها ومدى مهنيتها وفاعليتها مصدر دهشة للجميع، ولكن لا ينبغي أن يستغرب أحدٌ من حصولها. فبعد عقود من الحصار الخانق لفلسطينيي غزة، وغياب أي أفق سياسي تطرحه الجماعة الدولية لسنوات طويلة، إضافةً إلى الغطرسة والعنصرية اللتَين تبديهما إسرائيل، خاصة في ظل الحكومة الحالية، من المستغرب عدم حصول هذه العملية وليس العكس. وبقي أن نقول، لكل ظلم نهاية.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية