أصدر زعماء خمس دول غربية: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بياناً مشتركاً، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، تضمّن دعماً وتأييداً صريحيْن لإسرائيل، مع تأكيدات على الاتحاد والتعاون لضمان أن تكون إسرائيل “قادرة على الدفاع عن نفسها”، مقابل تعبيرهم عن إدانة قاطعة، وبشكلٍ لا لبس فيه، لما قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وهو موقفٌ جعل القادة الأوروبيين في حالة تماهٍ مطلقة مع حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية، إلى درجة إثارة الامتعاض، في الأوساط السياسية والشعبية، داخل هذه الدول.
يبقى الموقف الفرنسي من الأحداث، بدءاً من إصدار البيان، وليس انتهاء بزيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المنطقة، في 24 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مثيراً للغاية؛ فباريس المعروفة تاريخياً باتخاذ موقفٍ متوازن إلى حدّ ما، أهّلها في أكثر من محطة للعب دور الوسيط بين الطرفين، تشهد حالياً تحوّلاً كبيراً، يستحق وصفه بالانقلاب، في مواقف الدبلوماسية الفرنسية، تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، عام 1958.
بلغت الحماسة بالرئيس الفرنسي، خلال وجوده في ضيافة الإسرائيليين، حد الإعلان عن مبادرة رفع بها سقف الانحياز، حتى لا نقول التطرّف، عالياً أمام الإدارة الأميركية المساند الأكبر لإسرائيل، حين اقترح توسيع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي يحارب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليشمل أيضاً حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، وهو العنصر الجديد الوحيد في حديثه. فضلاً عن تجاهله أي دعواتٍ إلى وقف إطلاق النار، حيث اكتفى، ومن باب ذرّ الرماد في العيون، بالدعوة إلى تقليل الخسائر بين المدنيين، ما يعني تشجيع إسرائيل على المضي في جرائم الحرب.
اقترح ماكرون توسيع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي يحارب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليشمل أيضاً حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)
داخلياً، وبخلاف إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا ولوكسمبورغ التي دانت العدوان الإسرائيلي الهمجي على فلسطين، سعت فرنسا إلى منع أيٍّ من مظاهر من التضامن الجماهيري مع فلسطين، مبرّرة ذلك بدواعٍ أمنية، بخلاف دعم إسرائيل الذي يزداد مع مرور الوقت. أكثر من ذلك، توعّد وزير العدل الفرنسي، إيريك دوبون موريتي، داخل قبّة البرلمان، بملاحقة المتضامنين مع فلسطين بعقوباتٍ بالسجن تتراوح ما بين خمس سنوات وسبع. وعود لم يتردّد زميله في حكومة إليزابيث بورن في ترجمتها إلى أفعال، عقب إعلان وزارة الداخلية عن ملاحقة جمعياتٍ فرنسيةٍ بتهمة “التحريض على الإرهاب”، بموجب المادة 40 من قانون العقوبات، بسبب تضامنها مع فلسطين. واتّسع نطاق التهديد ليشمل الجامعات الفرنسية، مثلما هو الحال مع مدرّسي معهد اللغات والحضارات الشرقية وطلابها، الذين وصلت إليهم رسائل إلكترونية من الإدارة، تحذّرهم من إظهار الدعم لفلسطين والمقاومة، فمن شأن ذلك أن يعرّضهم لعقوباتٍ قد تصل إلى الطرد من المؤسّسة.
انحياز فرنسي غير مسبوق لإسرائيل، يتناقض مع “المبدأ الديغولي” الداعم باستمرار لحل الدولتين، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، الذي يمثّل بوصلةً تُوجِه السياسة الخارجية الفرنسية، تولدت عنه حرب كلامية بين ممثلي الأحزاب السياسية داخل فرنسا، فقد انتقدت رئيسة الوزراء الفرنسية موقف حزب “فرنسا الأبية”؛ المحسوب على أقصى اليسار، معتبرة إياه “مثيراً للاشمئزاز”. في المقابل، احتج زعيم هذا الحزب، جان لوك ميلينشون، الذي كان صوتاً نشازاً في فرنسا، بعد مجزرة مستشفى المعمداني، حين قال: “هل من الصعب إدانة جرائم الحرب التي يرتكبها نتنياهو؟ هل من الصعب إدانة العنصرية التي تمنعنا من رؤية الفلسطيني أولاً إنساناً؟ أين أصحاب الضمائر الحية والأرواح الجميلة؟”. قبل أن يضيف مخاطباً الرئيس ماكرون “سيدي الرئيس: أوقف الدعم غير المشروط للحكومة الإسرائيلية التي ترتكب جرائم حرب بغيضة”.
يتعاطى ماكرون مع المواقف السياسية بمنظور الصفقات والقروض، ما جعل الدبلوماسية الفرنسية تتداعى في أكثر من رقعة جغرافية
لا تعدو مواقف ماكرون أن تكون تأكيداً لسياسة انطلقت مع دخوله قصر الإليزيه، حين قرّر عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، عام 2017، مؤكّداً تمسّكه بحلّ الدولتين، مع التحفّظ عن ممارسة أي ضغط تجاه إسرائيل. وتأكّدت عقب وفائه بتعهّد انتخابي متعلّق بتوسيع مفهوم معاداة السامية، ليشمل معاداة الصهيونية، بعد تبنّي الجمعية العامة الفرنسية، بأغلبية ضعيفة (154/72)، تعريفاً واسعاً لمعاداة السامية، أواخر عام 2019.
تاريخياً، تعود أصول الحركة التضامنية مع القضية الفلسطينية، في فرنسا، إلى أواسط القرن الماضي، وكان ذلك جزءاً من كلمة رئيس الكتلة الشيوعية في البرلمان، أندريه شاسين، حين ذكّر ممثلي الشعب الفرنسي بمواقف فرنسا التاريخية، “على فرنسا أن تحمل شعلة السلام، التي تخلت عنها سنوات عديدة، وأن تكون مبادرة في مجلس الأمن، لوضع حد لسياسة الاحتلال، وتكرّس نفسها للبحث عن حل الدولتين المتعايشتين”. فضلاً عن كونها باستمرار مدار خلاف بين الفرقاء في المشهد السياسي، إذ سبق لحزب فرنسا الأبية والشيوعيين أن أيّدوا قراراً يدين نظام الفصل العنصري الذي تتبناه إسرائيل، لكن الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) رفضته.
دبلوماسياً، أعاد الإليزيه النظر في مواقفه من الصراع بعد حرب 1967، وتحديداً عقب إعلان الجنرال شارل ديغول حظراً على الأسلحة في اتجاه الشرق الأوسط، وكانت فرنسا آنذاك تبيع السلاح لإسرائيل فقط، ما يعني إسقاط التحالف الثلاثي بين باريس وتل أبيب ولندن ضد مصر. وبلغت تلك الانعطافة حد تحذير الجنرال، فيما يشبه النبوءة بما تشهده الأراضي الفلسطينية من مقاومة للاحتلال، إسرائيل من عواقب الصراع، بقوله: “الآن تنظم إسرائيل في الأراضي التي أخذتها احتلالاً لا يمكن أن يقوم إلا على القمع والاضطهاد والطرد، وإن ظهرت أي مقاومة فإنها ستصفها بالإرهاب”.
انحياز فرنسي غير مسبوق لإسرائيل، يتناقض مع “المبدأ الديغولي” الداعم باستمرار لحلّ الدولتين
استطاع ديغول إعادة فرنسا إلى الساحة الدولية، رغم احتدام التنافس بين الكتلتين الشرقية والغربية، خلال الحرب الباردة، ما جعل من جاءوا بعده أوفياء لسياسته التي صنعت لفرنسا سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، وقع الرئيس جيسكار ديستان إعلان البندقية (1980) الذي دافع عن حقّ فلسطين في تقرير المصير، ودعا الرئيس فرانسوا ميتران، المعروف بقربه الشديد من إسرائيل، عام 1982، إلى قيام دولة فلسطينية داخل الكنيست، مؤكّداً أن لا خيار أمام الإسرائيليين سوى التفاوض مع الفلسطينيين. وذاع صيت الرئيس جاك شيراك، في العالم العربي، بعد مشادّته الكلامية مع جندي إسرائيلي في القدس الشرقية عام 1996، فلأول مرّة يرى العرب زعيماً غربياً يواجه جندياً إسرائيلياً، فضلاً عن موقفه التاريخي من رفض العدوان الأميركي البريطاني على العراق.
منحت مواقف هؤلاء القادة فرنسا مكانة اعتبارية مهمة في العالم، فحتى وقتٍ قريب، كانت باريس في المحافل الدولية المدافعة عمّن لا صوت لهم، ضد غطرسة بلدان المعسكر الغربي وظلمها. لكن هذا الدور توقف تدريجياً مع بعد وصول نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة، ثم فرانسوا هولاند بعده، قبل أن يزيد عليه الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون؛ المصرفي السابق بنك روتشيلد، الذي يتعاطى مع المواقف السياسية بمنظور الصفقات والقروض، ما جعل الدبلوماسية الفرنسية تتداعى في أكثر من رقعة جغرافية؛ فالنفوذ الفرنسي خلال حكمه تقلص في أفريقيا (مالي، بوركينافاسو، النيجر…) وفي الشرق الأوسط (لبنان، سورية…) أما داخل الاتحاد الأوروبي، فباريس أشبه بكلب حراسةٍ بلا أسنان.