تمكّنت فصائل المقاومة الفلسطينية في إثر الهجوم المباغت الذي قامت به ضد مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في محيط غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 من أسر عدد كبير من الجنود وسكان المستوطنات، إضافة إلى عدد من حملة الجنسيات الأجنبية. ويمثل مصير هؤلاء الأسرى أحد التحديات الكبرى التي تدخل في حسابات الحكومة الإسرائيلية في عدوانها المستمر على قطاع غزّة؛ بسبب الضغوط التي تتعرّض لها من جانب عائلات الأسرى، أو الدول التي يحمل بعض الأسرى جنسياتها، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية؛ ما يؤجّج الخلافات القائمة أصلًا بين صناع القرار من العسكريين والسياسيين حول توقيت العملية البرّية على قطاع غزّة وأهدافها.
حسابات العدوان البرّي
أثّرت مجموعة من العوامل في تأجيل هجوم الجيش الإسرائيلي الشامل على قطاع غزّة، الذي أعلنت القيادة السياسية والعسكرية عن عزمها شنّه بهدف القضاء على حركة حماس وحكمها. وكان أهم هذه العوامل: أولًا، الضغط الكبير الذي مارسه أهالي الأسرى الإسرائيليين على متخذي القرار في إسرائيل وعلى الرأي العام الإسرائيلي، من أجل إطلاق سراح أسراهم، في عملية تبادل مع “حماس” قبل بدء الحرب البرية. ثانيًا، استكمال الاستعدادات العسكرية الضرورية لشنّ الهجوم البرّي. ثالثًا، طلب الإدارة الأميركية من إسرائيل تأجيل الهجوم البري من أجل تمكين الولايات المتحدة من إكمال استعدادها عسكريًا لحماية قواتها في منطقة الشرق الأوسط من أي هجمات محتملة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزّة، ولمحاولة إطلاق سراح الأسرى خاصة الذين يحملون الجنسية الأميركية. رابعًا، ضغط بعض القادة الإسرائيليين في المؤسّسة العسكرية والأمنية لتأجيل الهجوم البري أطول فترة ممكنة، وقصف قطاع غزّة من الجو والبر والبحر لتكبيد الشعب الفلسطيني والمقاومة أفدح الخسائر وإنهاكهما قبل البدء بالهجوم البري.
ازدادت تصريحات عدد من القادة العسكريين السابقين والمحللين الذين يطالبون بعقد صفقة شاملة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس
مسألة الأسرى والهجوم البرّي
كثف أهالي الأسرى الإسرائيليين في الأيام الأخيرة نشاطاتهم للضغط على متّخذي القرار من أجل إيلاء الأسرى الأولوية القصوى، والعمل على إطلاق سراحهم فورًا قبل بدء الهجوم البري الذي قد يقضي على فرصة التفاوض مع حماس لعقد صفقة تبادل أسرى من ناحية، ويعرّض الأسرى لخطر الموت من ناحية أخرى. وقد بات واضحًا في الأيام الأخيرة أن موضوع الأسرى أخذ يحتل مكانة أكثر أهمية من السابق على مستوى الرأي العام؛ فقد ازدادت تصريحات عدد من القادة العسكريين السابقين والمحللين الذين يطالبون بعقد صفقة شاملة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس. فقد دعا شاؤول موفاز، وزير الأمن ورئيس الأركان الأسبق، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر إلى عقد صفقة بين “حماس” وإسرائيل بحيث يُطلق جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين. كما أعلن زعيم المعارضة ورئيس حزب “يوجد مستقبل” يائير لبيد عن تأييده لتبادل الأسرى. ويشدّد كلاهما، وغيرهما من مؤيدي ذلك، على مواصلة خطة “القضاء على حماس” عسكريًا بعد إتمام الصفقة.
من الملاحظ أن تصعيد ذوي الأسرى نشاطاتهم، في عشية بدء الهجوم البرّي على قطاع غزّة، قد أثّر في موقف الرأي العام الإسرائيلي من شنّ الهجوم البري الشامل. فقد أظهر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي نشرته صحيفة معاريف، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر، أن 49% من الإسرائيليين يؤيدون تأجيل الهجوم البرّي، في حين أيّد 29% فقط القيام به فورًا، بينما كان 65% من الإسرائيليين قبل أسبوع يؤيدون شنّ الهجوم البرّي فورًا.
وفي ضوء ازدياد الضغط الشعبي المطالب بإعطاء أولوية للعمل على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين قبل بدء الهجوم البرّي، قرر “كابينت” الحرب في الأيام القليلة الماضية منح فرصة لمحاولة إطلاق سراحهم. بيد أن هذه الفرصة كما يبدو لن تستمر طويلًا؛ إذ أكدت مصادر متعددة في المؤسسة العسكرية، أنه ينبغي أن تكون فترة المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى محدودة زمنيًا، يجري خلالها استنفاد الجهود للوصول إلى ذلك.
شنّ نتنياهو وأنصاره المقربون حملة منهجية منظّمة ضد قادة المؤسسة العسكرية والأمنية، وحمّلوهم مسؤولية ما حصل
تفاقم الخلاف والصراع بين متّخذي القرار الإسرائيليين
منذ بدء الحرب على غزة، يسود الخلاف والصراع الحاد بين متخذي القرار الإسرائيليين بشأن هذه الحرب. وتكاد تكون هذه الخلافات غير مسبوقة في تاريخ الحروب الإسرائيلية. ولا تقتصر هذه الصراعات على أزمة الثقة الشخصية بين المستويين، السياسي والعسكري، ولا على معارضة الرأي العام لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والصراع بينه وبين وزير الأمن يوآف غالانت، وإنما تمتد إلى قضايا جوهرية؛ أبرزها الخلاف على أهداف الحرب ومجرياتها، وبخاصة ما يتعلق بالحرب البرّية، ومن يتحمّل مسؤولية الإخفاق (همحدال) الذي حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وما يزيد من وطأة هذه الخلافات والصراعات على المجتمع الإسرائيلي هو أنها تأتي في سياق فقدان الإسرائيليين ثقتهم في القيادتين السياسية والعسكرية، على إثر هذا التقصير والفشل، وكذلك فقدان الجيش الإسرائيلي ثقته بنفسه، فضلًا عن أن هذا التقصير والفشل جاء في فترة كان المجتمع الإسرائيلي يعاني فيها صراعًا واستقطابًا سياسيًا واجتماعيًا حادًا لم يعهده من قبل، وجاء على خلفية عزم حكومة نتنياهو، القيام بانقلابٍ قضائي، على الرغم من معارضة أغلبية المجتمع الإسرائيلي ونخبه، ولا سيما قيادة المؤسّسة العسكرية والأمنية. وقد أدّت محاولة القيام بالانقلاب القضائي إلى انخفاض شعبية نتنياهو وحكومته على نحو كبير، وزيادة التوتر بين نتنياهو وقيادة المؤسّسة العسكرية والأمنية.
ولم يقد توسيع الحكومة بعد اليوم الأول من عملية “طوفان الأقصى” وانضمام المعسكر الوطني إليها، وإقامة حكومة الطوارئ، وانضمام بيني غانتس وغادي آيزنكوت (رئيسا أركان الجيش الإسرائيلي السابقان) إلى الحكومة وإلى “كابينت” الحرب، إلى التقليل من أزمة الثقة، ولا إلى تخفيف الصراعات بين متخذي القرار بشأن الحرب.
وفي ضوء انخفاض شعبية نتنياهو وحزبه الليكود إلى الحضيض، وخشيته من تحميله مسؤولية الفشل والتقصير، وفي ظل ازدياد الدعوات التي طالبته بتحمّل المسؤولية والاستقالة قبل نهاية الحرب، شنّ نتنياهو وأنصاره المقرّبون حملة منهجية منظمة ضد قادة المؤسسة العسكرية والأمنية، وحمّلوهم مسؤولية ما حصل. وعيّن نتنياهو ناطقًا جديدًا في مكتبه مسؤولًا عن الاتصال بالصحافيين والمراسلين العسكريين للدفاع عنه وتوجيه المسؤولية عن الفشل إلى قادة المؤسسة العسكرية والأمنية.
رفض مكتب نتنياهو السماح لغالانت بالدخول إلى المكتب للاجتماع بنتنياهو من أجل بحث مواضيع عسكرية
وفي حين أعلن قادة المؤسّسة العسكرية والأمنية، بما في ذلك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ورئيس الاستخبارات العسكرية (أمان) ورئيس المخابرات العامة (الشاباك) ورئيس الموساد وقائد سلاح الجو، مسؤوليتهم عن الفشل، فإن نتنياهو رفض تحمّل المسؤولية، واكتفى بالتصريح بعد مرور 18 يومًا من بداية الحرب، قائلًا: “الجميع يجب أن يجيبوا عن الأسئلة، وأنا أيضًا، ولكن هذا يحدث بعد الحرب”.
وفي هذه الأجواء من عدم الثقة والتوتر بين نتنياهو وقادة المؤسّسة العسكرية والأمنية، لم يعد نتنياهو يقبل تلقائيًا، كما كان متبعًا في السابق، الخطط العسكرية التي يقدمها رئيس الأركان والمؤسسة العسكرية. وزادت اجتماعاته مع كبار القادة العسكريين والمتقاعدين للتشاور معهم في الخطط العسكرية، ومن بينهم الجنرال يتسحاق بريك، ورئيس أركان الجيش الأسبق غابي أشكنازي. ففي سياق الاستعدادات للهجوم البرّي على غزّة، اجتمع نتنياهو في الأسبوعين الأخيرين مع الجنرال بريك مرتين، في إشارة إلى عدم ثقته برئيس أركان الجيش الإسرائيلي والمؤسسة العسكرية. وقد حذر بريك نتنياهو من مخاطر شنّ الجيش الإسرائيلي الهجوم البري ونصحه بالتريّث، لاعتقاده بأن سلاح المشاة والقوات البرّية عمومًا غير جاهزين للحرب، ودعاه إلى قصف قطاع غزّة من الجو والبر والبحر أطول فترة ممكنة. وأضاف أن الهجوم البرّي على غزة قد يقود إلى شنّ حزب الله حربا شاملة ضد إسرائيل؛ ما سيكبّدها خسائر فادحة؛ لأنه، وفق بريك، في إمكان حزب الله قصف إسرائيل بنحو 5000 صاروخ في اليوم؛ ما يُلحق أضرارًا جسيمة بها تقترب من حجم الأضرار التي يلحقها الجيش الإسرائيلي بلبنان.
وإلى جانب الخلاف بين نتنياهو والمؤسّسة العسكرية بقيادة رئيس الأركان هرتسي هليفي، تصاعد الخلاف بين نتنياهو ويوآف غالانت منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في ما يتعلق بالمسؤولية عن الفشل وأولويات الحرب، ورفض نتنياهو طلب غالانت مهاجمة حزب الله. وتعود خلفية الصراع بينهما إلى آذار/ مارس 2023 عندما أقال نتنياهو غالانت من منصبه بسبب طلب الأخير تجميد الانقلاب القضائي لتأثيراته السلبية في الجيش، واضطر نتنياهو إلى التراجع عن إقالته بضغط من حركة الاحتجاج والرأي العام الإسرائيلي.
وعلى خلفية تصاعد الخلاف بين الطرفين، رفض مكتب نتنياهو السماح لغالانت بالدخول إلى المكتب للاجتماع بنتنياهو من أجل بحث مواضيع عسكرية؛ ما يدلّ على عدم ثقته به، في حين اجتمع الأخير مع غابي أشكنازي، الذي تسود علاقات عدائية بينه وبين غالانت، وتشاور معه بشأن الحرب والعمليات العسكرية ضد غزة، وحاول استقطابه للمشاركة في إدارة الحرب.
باتت عائلات الأسرى تطالب علنًا بأن تشمل الصفقة جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين
يؤثر عدم الثقة بين متّخذي القرار على المستويين السياسي والعسكري في المداولات والنقاشات في “كابينت” الحرب، وفي “الكابينت” السياسي والأمني، في الوقت الذي يخشون فيه من لجنة التحقيق التي ستتأسس بعد انتهاء الحرب. ويزيد هذا الأمر من تعقيد النقاش والمداولات وعملية اتخاذ القرارات التي ينبغي أن تجري بحرّية وشفافية، ومن دون خشية من لجان التحقيق. كما يؤثر ذلك في تحديد الاستراتيجية العسكرية لتحقيق الأهداف المتفق عليها؛ ففي ظل عدم الثقة والصراعات القائمة بين متخذي القرار، لم يُتفق على كيفية تحقيق الأهداف التي حددتها القيادة الإسرائيلية، وهي القضاء على حكم حماس في قطاع غزّة والقضاء على قوة حماس العسكرية واستعادة الأسرى الإسرائيليين. ولم تُبحث بعمق أسئلة مثل: هل يتطلب تحقيق ذلك الحاجة إلى احتلال قطاع غزة؟ وكم من الوقت سيستغرق ذلك؟ وهل يستدعي تحقيق أهداف الحرب البقاء في القطاع فترة زمنية؟ وما الثمن الذي يتحمّله الجيش والمجتمع الإسرائيليان على مستوى المقاومة التي سيواجهانها؟ وما حجم المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين الذي يمكن للمنطقة والعالم تحمّله؟ وكم ستبلغ الخسائر في الأرواح والممتلكات إذا اندلعت حربٌ شاملةٌ بين حزب الله وإسرائيل مع بدء الهجوم البري أو بعده؟ ومتى سيعرف الجيش الإسرائيلي بأنه حقق أهدافه؟ ألا يوجد تناقض بين شنّ الهجوم البري الشامل على قطاع غزة وهدف استعادة الأسرى الإسرائيليين سالمين؟
على الرغم من الأسئلة المفتوحة والخلافات، يبقى هناك إجماع على هدف “القضاء على حركة حماس”؛ بمعنى قوتها العسكرية وحكمها قطاع غزّة، وإجماع أيضًا على القيام بعملية أو عمليات برّية في القطاع لتحقيق ذلك. وقد يجري ذلك من دون الإجابة عن جميع هذه الأسئلة.
خاتمة
مع بدء عمليات التوغل المحدود لقوات الجيش الإسرائيلي البرّية في اليومين الماضيين، تواجه حكومة نتنياهو جملة من التحديات التي قد تؤثر في سير أي عملية برّية؛ أهمها حساب درجة المقاومة التي سوف تبديها فصائل المقاومة والثمن الذي سوف تدفعه، وقضية الأسرى الذين يبلغ عددهم 229 أسيرًا على الأقل. وباتت عائلات الأسرى تطالب علنًا بأن تشمل الصفقة جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين. وأصبح قادة الرأي العام في وسائل الإعلام الإسرائيلية وأغلبية المجتمع الإسرائيلي، يقبلون عقد هذه الصفقة. ولكن هذه مسألة توقيت، ولا تمسّ بالضرورة قرار الهجوم البرّي القائم على عدم تقبّل العودة إلى ما كان قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وضرورة استغلال الضوء الأخضر والموافقة الأميركية على الأهداف الإسرائيلية في غزة.