الحملة التي بدأتها جهات عراقية ضدّ محافظ البنك المركزي بهدف إقالته من منصبه استنادا إلى فشله في وقف التصاعد السريع في سعر صرف الدولار، لا تهدف بالضرورة إلى إصلاح اختلالات النظام المصرفي في البلاد، بل قد يكون هدفها إغراقه في المزيد من الفوضى لاستدامة عمليات نهب الدولار وتهريبه والتي تمارسها شبكات على صلة بالجهات نفسها.
بغداد- أصبحت إزاحة علي العلاق من منصبه كمحافظ للبنك المركزي العراقي هدفا معلنا من قبل قوى تحمّله مسؤولية الفشل في وقف الارتفاع السريع في سعر صرف الدولار الأميركي، بينما تحوم الشكوك حول الدوافع الحقيقية لتلك القوى التي لا يتردّد البعض في اتهامها بمحاولة تعميق فوضى القطاع المالي في البلاد، سعيا لإرباك الجهود الحكومية في الحدّ من نزيف العملة الصعبة الناتج عن تهريب الدولار نحو إيران وسوريا.
ودشّنت جهات نيابية حراكا داخل أروقة مجلس النواب للضغط على رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ودفعه إلى إقالة العلاق.
واتّهم النائب عدنان الجابري العلاق بالإخفاق في السيطرة على ارتفاع سعر صرف الدولار. وقال الجابري في تصريح تناقلته مواقع إخبارية عراقية إنّ هناك تذمرا في الأوساط السياسية والشعبية من تراجع الدينار أمام الدولار، داعيا الحكومة إلى اتخاذ إجراءات بحق محافظ البنك المركزي.
وأشار النائب الذي يصف نفسه بالمستقل إلى أنّ “العلاق بعد تسنمه منصب محافظ البنك المركزي قدم خطة للسيطرة على ارتفاع سعر صرف الدولار، إلا أنه أخفق فيها ولم يف بوعوده للشعب العراقي”.
كما كشف عن وجود “مداولات داخل مجلس النواب لاتخاذ إجراءات بحق المحافظ كونه المسؤول المباشر عن سوق العملة”.
وتضمّن سؤال شفهي تمّ توجيهه إلى السوداني انتقادا مباشرا لمحافظ البنك المركزي واتّهاما له بسوء الإدارة، واصفا حصر سبب ارتفاع سعر صرف الدولار في تهريب العملة بأنّه مجرّد ادّعاء أميركي.
ويشهد النظام المصرفي في العراق حالة من الفوضى تجلّت في عدم قدرة السلطات على ضبط ارتفاع سعر صرف الدولار، الأمر الذي ألقى بظلاله على الحركة التجارية في البلاد وعلى الدورة الاقتصادية ككل، مثيرا المخاوف من إضاعة فرصة جديدة لإعادة إطلاق التنمية أتاحها ارتفاع عوائد النفط.
ويعتمد العراق في موازنته بشكل أساسي على الإيرادات النفطية التي تحوّلها إليه الولايات المتحدة الأميركية بالدولار.
وتزايدت خلال الأشهر الأخيرة تحذيرات الحكومة الأميركية لنظيرتها العراقية من أنّ جزءا كبيرا مما تزوّدها به من دولارات ينتهي به المطاف مهرّبا إلى إيران التي تدير شبكات للتلاعب المالي في الداخل العراقي مستعينة بقوى سياسية وميليشيات مسلّحة تابعة لها هناك.
وبهدف الحدّ من ذلك فرضت الولايات المتحدة في يوليو الماضي عقوبات على أربعة عشر مصرفا عراقيا تتهمها وزارة الخزانة الأميركية بالضلوع في تهريب الدولار وغسل الأموال.
وفي وقت لاحق التقت مساعدة وزير الخزانة الأميركية لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية إليزابيث روزنبرغ برئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزي العراقي وممثلي مصارف القطاع الخاص ببغداد، واتّفقت معهم على خطّة عمل لتحسين أداء القطاع المالي العراقي في منع الاحتيال والتهرّب من العقوبات وتمويل الإرهاب وغيرها من الأنشطة غير القانونية.
وقرّرت الحكومة العراقية في إطار إجراءاتها لضبط الأوضاع المالية تحديد سعر رسمي لصرف الدولار لا يتجاوز 1350 دينارا، أملا في وقف تصاعد قيمة العملة الأميركية وتقليص الطلب عليها.
لكنّ النتيجة جاءت عكسية تماما حيث واصل الدولار صعوده السريع حتى وصلت قيمته الأربعاء إلى 1630 دينارا.
وتشكّك جهات عراقية في أن يكون ذلك أمرا تلقائيا، مشيرة إلى وجود عمليات تلاعب منسّقة من قبل شبكات منظّمة تمتدّ فروعها داخل بعض القوى السياسية والفصائل المسلّحة بهدف استدامة الفوضى في القطاع المالي العراقي بما يسمح لها بمواصلة الحصول على أكبر قدر ممكن من الدولارات وتهريبها خارج البلاد.
وتشير الجهات نفسها إلى أن التلاعب بالدولار أصبح بمثابة شريان حياة لعدة أطراف، من بينها ميليشيات مسلّحة مرتبطة بقوى سياسية تديرها وتحتاج إلى أموال طائلة لتسليحها ودفع رواتب منتسبيها وما يستتبع ذلك من تعويضات لهؤلاء المنتسبين وعائلاتهم في حال تعرّضهم للإصابة أو الوفاة خلال أدائهم المهمات التي يكلّفون بها.
ومن هذا المنطلق تعتبر تلك الجهات أن الحملة الموجّهة حاليا ضد محافظ البنك المركزي جزء من مساعي استدامة الفوضى في القطاع المالي العراقي.
واعتبر خبير عراقي في الشؤون المالية أنّ ما اتّخذه البنك المركزي العراقي في مساعيه للحفاظ على قيمة العملة المحلّية وحمايتها من تغوّل الدولار، متوافق مع ما يجري اتخاذه عادة من قبل المؤسسات المالية في دول أخرى.
وشدّد على أن استكمال الإجراءات لإنجاح مخطط السلطات المالية يقع على عاتق الجهات الأمنية التي يتوجّب عليها تفكيك شبكات التلاعب بالعملة وتهريبها.
واستدرك الخبير بالقول إنّ “ما يعسّر اتخاذ إجراءات قانونية فعالة ضدّ تلك الشبكات ومن يقف خلفها هو تداخلها مع الجهات السياسية والفصائل المسلّحة التي قد يكون بعضها مشاركا فعليا في السلطة”.
تداخل شبكات تهريب الدولار مع القوى السياسية والميليشيات المسلحة يعسّر على الدولة العراقية مقاومتها
ولن يكون ارتباك النظام المصرفي العراقي من دون تبعات أبعد مدى على اقتصاد البلاد، وبالتالي على مسارها التنموي ووضعها الاجتماعي.
وورد في تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية، الذي يتّخذ من العاصمة البريطانية لندن مقرّا له، أنّ ذلك النظام بدلا من أن يكون مساهما في تطوير الاقتصاد العراقي تحوّل إلى عائق أمام النمو وجذب الاستثمارات وأصبح رديفا أساسيا لشبكات تهريب وغسل الأموال.
وأشار التقرير إلى وجود عدد كبير من المصارف التي تعود ملكيتها إلى شخصيات مقربة من سياسيين وأحزاب وميليشيات مسلحة تسهم بشكل كبير في تهريب الدولار وتمويل عمليات التجارة الخارجية مع دول الجوار مقابل الحصول على عمولات ودعم سياسي.
وقدّر أن ثلثي مبيعات البنك المركزي العراقي عبر نافذة بيع العملة التي تتراوح عند مستويات 250 مليون دولار يوميا لم تستفد منها السوق العراقية على مدى العقدين الماضيين، مما أدى إلى خسارة البلاد مبالغ مالية لا تقل عن 400 مليار دولار.
العرب