نصر الله يودّع فلسطين

نصر الله يودّع فلسطين

سبَقَ خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، يوم الجمعة الماضي، ترويج إعلامي جدير بشركات العلاقات العامة، أو هو استوحى منها، كانت حملة تسويق تليق بنجوم البوب. اختفى عن الشاشة، وصار الجميع يسأل “أين حسن نصر الله؟”… بصفته هو الذي يقرّر مصيرنا. وفي الآن عينه، كان هناك ترويج بصري لهذا الاختفاء: ثلاثة أو أربعة شرائط فيديو، كل شريط أكثر تشويقاً من الآخر. ترى فيها ظلّ نصر الله، يدَيه، خاتمه، قلمَه، ورقته، مصحوباً بموسيقى تُنذر بالخطر، أو آيات قرآنية مهيبة. رافقت هذه الشرائط فيديوهات أخرى لحسن نصر الله، أعدّها مناصروه، ترفع من شأنه، تفتخر باهتمام العدوّ والصديق به. وكان البند الثاني من التسويق تعليماته بإضافة صفة “الشهداء على طريق القدس”إلى شهدائه المقاتلين في الجنوب اللبناني في بيانات نعيهم أو تشييعهم أو تذكّرهم. وفي هذه الأثناء، صدّر حسن نصر الله صورة له وهو يستقبل أمين عام حركة الجهاد الإسلامي، زياد نخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري. وأُرفق بالصورة إعلان أن اجتماع الثلاثة “بحث التنسيق السياسي والأمني المشترك من أجل وحدة الساحات”.

وبهذا الغموض المدروس، استطاع حزب الله أن يشيع جواً من الترقّب لخطاب نصر الله لدى جمهوره والعالم بأسره. وانطلقت التحليلات والتوقعات: يحارب أم لا يحارب؟ أي، يفتح جبهته، أم يبقيها على ما هي عليه، ضمن “قواعد الاشتباك”؟ فكانت التوقعات المختلفة، واختصر أحدها “خبير” تلفزيوني ممانع: “الحرب الكبرى قد تكون بعد أيام ونصر الله سيخرج ويعلنها!”. فكان الخطاب… ماذا قال فيه حسن نصر الله؟ ثمانون دقيقة من البلاغة والإنشاء، كان يجب تكبّدها لنفهم شيئاً منها. تغزَّل نصر الله بالشعب الفلسطيني أيَّما غزل: الشعب الأسطوري، العظيم، الصامد، الصابر، القاسية معاناته التاريخية والحاضرة… إلخ. وبعد ذلك مباشرة، رفع “المائة بالمائة” قياساً، فأعلن أن عملية طوفان الأقصى “قرارها فلسطيني وكذلك تنفيذها مائة بالمائة”، وروى إن “أصحابها أخفوها عن الجميع حتى فصائل المقاومة في غزّة وعن محور المقاومة”. وهذه السرّية “لم تزعج ” أحداً من محوره. ولمن لم يستوعب الصفعة، أضاف أن معركة غزّة “تثبت أنها فلسطينية بالكامل، ومن أجل فلسطين وملفاتها وشعبها، ولا علاقة لها بأي ملفّ في المنطقة”.

جمهور حزب الله وكتّابه استقبلوا خطاب نصرالله بنوع من الغبطة الجديدة عليهم: قالوا إنه خطاب عقلاني، هادئ، رصين، متّزن!

وبعد نقل بندقيته للتصويب على أميركا، بدل إسرائيل “المهزومة”، والمشوَّشة والضعيفة، التي لا تستحقّ معركة… أعلن، متباهيا بـ”غموضه البنّاء”، بأن “جبهته” أي جنوب لبنان، ما زالت مفتوحة، وأنه هو أيضاً يحارب إسرائيل، بالوتيرة التي نعرفها: اشتباكات محدودة متقطّعة، مع رفع درجة من “قواعد الاشتباك”، تخلّ بها إسرائيل كل مرّة بضربات أوسع، وأحيانا أعمق وأشرس (60 شهيداً للحزب حتى كتابة هذه السطور)، يردّ عليها الحزب بأقلّ درجة من التصعيد. أي إبقاء الباب مفتوحاً على احتمالات الحرب… إلى متى؟ حتى يتحقّق أي هدف؟ بعدما تقسّمت الساحات حسب الجنسيات؟ اسأل “الغموض البنّاء”.

جمهور الحزب وكتّابه استقبلوا الخطاب بنوع من الغبطة الجديدة عليهم: قالوا إنه خطاب عقلاني، هادئ، رصين، متّزن، حكيم، بعيد عن الانفعال والشعبوية، ينأى بنفسه عن حربٍ لا تعنيه، يُبعدنا عن الانتحار الجماعي. وأطرف “تحليل” لهذا الخطاب بقلم أحد الصحافيين الممانعين: “يكشف جانبا مغيباً” من إعلان نصر الله عن انسحابه من الساحة الفلسطينية، قوامُه أنه يرمي إلى “الرفع من شأن حماس”. وإن وراء هذا الرفع “استراتيجية عميقة” ترمي إلى “إبعاد شبح الشقاق بين السنّة والشيعة”، وهو شقاق يريد حزب الله تجنّبه “لأنه يُضعف العرب والمسلمين عموماً”.

الشعب اللبناني، بما فيه بيئة حزب الله، لا يريدون الحرب مع إسرائيل

الآن: الشعب اللبناني، بما فيه بيئة حزب الله، لا يريدون الحرب مع إسرائيل. وذلك لأسبابٍ معروفة. في مقدمتها أن بلدهم باتَ يفقد أبسط مقوِّمات الوجود. ولا يزايد على ضرورة الحرب الآن مع إسرائيل سوى الذين يعتاشون منها… ولكن منذ متى كان الحزب يسأل اللبنانيين عن الحروب التي يخطّط لشنِّها؟ أو عن القرارات الدولية التي توقف نشاطه في الجنوب اللبناني وتسلّمه للجيش؟ هل استطلع نصر الله رأي اللبنانيين عشية حربه عام 2006، أو استشار البرلمان أو مجلس الوزراء أو الجيش؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل تحرير ماذا؟ مزارع شبعا، المختلف على جنسيتها، والتي يرفض الحزب البحث بحسمها، لتبقى رجله “التحرّرية” في الجنوب، ويحتفظ بالتالي بسلاحه؟

أما “النأي بالنفس”، فلطالما طولب الحزب به، بعَيد الثورة السورية ضد بشّار الأسد. كان في البداية ينكر تورّطه، ولكن بعد سنة، بعدما ذاعت أسماء قتلاه الذين أرسلهم إلى هناك، أعلن حسن نصر الله، أن “بعض المعلومات وصل إلينا بأن المتمرّدين اجتاحوا قرى يسكنها لبنانيون في سورية. وكان من الطبيعي أن تقدم كل المساعدة الضرورية والممكنة لدعم الجيش السوري، واللجان الثورية (أي جماعة ماهر الأسد) فضلاً عن السكان اللبنانيين”. وبعدها، انطلق شعار “لن تُسْبى زينب مرّتين!”، يحمّس آلاف المقاتلين من الحزب للانقضاض على السوريين قتلاً وتهجيراً وحصاراً من القصير، مرورا بالقلمون، والزبداني، وحمص وحلب وضواحي دمشق…. وحتى مخيم اليرموك الفلسطيني، الذي شارك حزب الله بحصاره وقتل أهله وتجويعهم وتهجيرهم.

لا يستطيع نصرالله أن يكون رجل حرب، إذ يمتنع عن خوض واحدة كان ينشدها، ولا يستطيع أن يكون رجل سلام

ثالثاً، صار جلياً أن ثمة مشكلة بين حسن نصر الله والمعرفة. في حرب 2006، بعد الدمار الهائل والخسائر البشرية الفادحة، أعلن في إحدى المقابلات عن شيء يشبه الندم على خوضه هذه الحرب بالقول: “لو كنت أعلم….”. في انفجار مرفأ بيروت، صرَّح بأنه لا يعلم شيئا عنه، بل ذهب إلى اعتبار أن لديه “معلومات عن مرفأ حيفا أكثر من مرفأ بيروت”. وأخيراً الآن، يخطب بنا، بأنه لم يكن يعلم شيئاً عن عملية طوفان الأقصى. سبب هذه المشكلة “المعرفية” لدى نصر الله؟ ربما لأن أداته المعرفية المفضّلة هي “الغموض البنّاء”. ربما لأن المعرفة ليست من حوافزه، فهو لو “يعرف”، عليه أن يختار. والحال أنه ليس في حالة اختيار. وإلا فقد دوره وكيلا للمشروع الإيراني، وهو “مشروع” لا يملك فيه القرار إنما التنفيذ، والمعرفة لا تخدمه في مشروعٍ ليس هو إلا وكيله.

ثم زَيف تحرير فلسطين والقدس، التي بنى عليها حزبه أمجاده وسطوته وتمدّده الإقليمي. ففي هذا الخطاب، قسَّم نصر الله الساحات، بدل أن يعمل على توحيدها، وقد جاءت فرصتها التاريخية… وأن “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”… ما زال شعار “وحدة الساحات!” يطنّ في الأذن. قبل أن ننساه، قسَّمَ نصر الله هذه الساحات. هل كان مضطرّاً ليناقض نفسه إلى هذه الدرجة؟ وبهذه السرعة؟ والمهم أنه خسر بذلك إحدى أهم ركائز عقيدته. أنه يحمل سلاحه، يدمّر الدولة اللبنانية ومؤسّساتها، يقتُل السوريين، ويتشارك مع نظرائه العراقيين واليمنيين… من أجل فلسطين. اليوم، أعطى الجنسية للفلسطينيين، وفصلهم عن اللبنانيين.

هل كنّا ننتظر من نصر الله خطاب حرب حقيقية أم خطاب سلام؟ لا هذا ولا ذاك. هو لا يستطيع أن يكون رجل حرب، إذ يمتنع عن خوض واحدة كان ينشدها، ولا يستطيع أن يكون رجل سلام. فهذا مخالف لتكوينه العضوي، لدوره، لمعناه.

لا رجل حرب ولا رجل سلام. ماذا يمكن أن يكون حسن نصر الله بعد خطبته المقسِّمة للساحات؟ ما هي مطالبه من إسرائيل؟ هل تهدأ مثلاً جبهته الجنوبية إذا هدأت في غزّة والضفة الغربية؟ وإذا توقفت الحرب، وباشر الفلسطينيون بمفاوضات سلام، ماذا يفعل حزب الله؟ هل يعرقل هذه المفاوضات؟ هل يستمرّ بجبهته المفتوحة على الغموض البنّاء؟