لم تكن روسيا في حاجة الى حادث إسقاط سلاح الجو التــركي مقــاتلتها الحربية، وإن استغلّته الى أبعد حد، لكي تكشف حقيقة تدخلها العسكري في سورية وأهدافه السياسية والاستراتيجية. بالقدر ذاته، لم تكن تركيا تنتظر خرق الطائرات الروسية مجالها الجوي لتعلن أن لها دورها في سورية، وأن التدخل الروسي يهدد هذا الدور. كذلك هي حال إيران، وهي تشهد نفوذها شبه الوحيد في هذا البلد وقد بات محل نزاع بين دولتين أخريين لم تكن تظن سابقاً أنهما ستنازعانها هذا النفوذ.
هكذا، تبدو الدول الثلاث في تصرفاتها في المرحلة الحالية كما لو أنها في حالة حرب، «حرب باردة» على الأقل، ليس فقط في ما يتعلق بنظرتها الى سورية المستقبل، إنما أيضاً لجهة طموحاتها فيها. ولا تخفي كل منها أنها تستند في نظرتها الى فرضيتين، إحداهما حقيقية فيما الأخرى مفتعلة وحتى مشبوهة: الأولى، أن نظام بشار الأسد زائل لا محالة، إن لم يكن عاجلاً ففي زمن قريب، بعد أن فقد كل قدرة له على البقاء فضلاً عن مبرر وجوده. والثانية، أن سورية ما بعد الأسد لن تكون إلا مناطق نفوذ لقوى الخارج ودوله، حتى لو بقيت دولة واحدة تحت نظام فيديرالي أو كونفيديرالي أو مناطق حكم ذاتي على أساس عرقي أو طائفي أو مذهبي.
وليس من دون معنى، في هذا المجال تحديداً، حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غداة تدخّله في سورية، وبلسان الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، عن «حرب مقدسة» تخوضها قواته المسلّحة هناك، ولا كذلك قول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن إحدى مهامه في سورية حماية التركمان فيها، ولا قبل هذا كلّه كلام المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي المتكرر على «جبهة المقاومة والممانعة» التي تشكل سورية ونظام الأسد فيها إحدى الركائز التي لن تتخلى بلاده عنها. والترجمة العملية لهذه السياسات، أن تتولى موسكو حماية الأقليات المسيحية، فيما تحمي اسطنبول الأقلية التركمانية، وتبقى لطهران كما فعلت طوال السنوات الماضية الأقلية العلوية.
هل هذا فقط؟ طبعا لا، فمن شأن هذه الأحلام، إذا ما تحولت الى وقائع، أن تخدم «الحرب الباردة» بين القوى الإقليمية والدولية الصاعدة في المنطقة الى مدى بعيد: تبقى القاعدة العسكرية الروسية في منطقة العلويين، أي على تماس مع حلف شمال الأطلسي في تركيا وقبرص واليونان، بما يتّفق مع الطموحات الروسية والإيرانية في مواجهة الحلف والولايات المتحدة. كما يبقى الأكراد على الحدود مع تركيا على شاكلة ما كانوا شوكة في خاصرتها شمال العراق (إصرار موسكو وطهران على أن يتمثلا في وفد المعارضة الى مؤتمر فيينا/ نيويورك للتسوية)، فيما تبقى الأقليات المسيحية على تعدّد أعراقها ومذاهبها موزّعة في المناطق السنية، أياً كان شكل الحكم في هذه المناطق.
وليس خافياً ما لهذا «التقاسم» المفتعل والمشبوه لمناطق النفوذ في سورية من تداعيات عليها، ولا على «الدويلات» أو أراضي الحكم الذاتي التي تنشأ على أساسها.
كما ليس خافياً، في السياق نفسه، ما وراء تركيز روسيا في غاراتها على الفصائل المعارضة للنظام، وليس على تنظيم «داعش» كما بررت تدخلها في البداية، ولا ما يهدف إليه قصر إيران و «حزب الله» وأتباعهما عملياتهم على المناطق العلوية وذات الأكثرية الشيعية، ولا كذلك تكثيف الجهود العسكرية التركية ضد الفصيل الكردي الذي يتحدث عن الانضمام الى كردستان العراق ويرتبط بعلاقة مباشرة مع «حزب العمال الكردستاني» في تركيا.
ولا ينفصل عن ذلك، أقلّه في الفترة الحالية حيث يجري البحث في التسوية، تمسّك روسيا وإيران ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية وحتى الى ما بعدها. ففي استمراره ونظامه طوال هذه المرحلة، تكمن قدرة الدولتين على وضع نقاط التقاسم وتوزّعها على الخريطة قبل أن يحين موعد تغيير النظام ورحيل الأسد.
لكن، هل تبقى «الحرب الباردة» هذه بين الدول الثلاث باردة فعلاً، والى متى، بينما تزداد وتتصاعد من يوم الى آخر محاولات الاستفزاز، بخاصة بين روسيا وتركيا، وتقوم كلتاهما بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية على الأخرى؟.
لا شك في أن روسيا وتركيا تعملان، كما يبدو حتى الآن، على تجنّب الدخول في حرب ساخنة (أو ربما فاترة فقط) بينهما، فيما تقف إيران على ما يشبه «الحياد الإيجابي» المنحاز قولاً وفعلاً الى جانب حليفتها روسيا، وضد غريمتها في سورية والعراق وعلى مساحة المنطقة كلها – تركيا.
إلا أن ما يبقى بعد ذلك كله، أمران لا يجوز تجاهلهما أو التنكر لهما:
أولاً، مصير سورية العربية التي تتناهشها الدول الثلاث بهذه الشراهة، بعد أن باعها الأسد على مذبح بقائه في الحكم مهما كلف الأمر وأياً كانت النتيجة.
ثانيا، إن الحرب هي الحرب في نهاية المطاف، سواء كانت باردة أو ساخنة أو فاترة، وأن ما يمكن تجنبه أو عدم الانجرار إليه في يوم قد لا يمكن تجنّبه أو عدم الانجرار إليه في يوم آخر.
وقد لا يكون مبالغاً به القول إن ما تمر به سورية، والمنطقة كلها، الآن هو على شفرة هذه السكين.
محمد مشموشي
صحيفة الحياة اللندنية