أكد قيام تركيا مؤخراً بإسقاط طائرة روسية من طراز “سو-24” على التعارض الذي طال أمده بين المصالح الجيوسياسية لكلا الجانبين. وبالتالي، فإذا ما وقع المزيد من الحوادث المشابهة، ستتمتع تركيا بمزايا معينة طالما يبقى القتال محدوداً. ومع ذلك، ستواجه تركيا أزمة حادة إذا تصاعد الموقف دون سيطرة.
إن أي اشتباك عسكري مباشر بين البلدين بإمكانه أن يؤدي إلى تأثير دومينو يطرح إشكالية قد يصعب احتواؤها. لكن ما لم تفشل تركيا في التنسيق مع حلفائها أو ما لم يُنظر إليها على أنها الجهة المحرّضة، فإن سيناريو الحرب الشاملة سيدرج “منظمة حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) لا محالة في الحسابات الاستراتيجية، لذلك من المرجح ألا يتجرأ أي من الطرفين باتخاذ مثل هذا الخطر. وبالتالي، ينبغي أن يرتكز تقييم التوازن العسكري على سيناريوهات اشتباك محدودة تشمل قوات صغيرة نسبياً واشتباكات صغيرة معزولة.
هناك ثلاثة سيناريوهات أكثر قبولاً لوقوع نزاع محدود كالآتي:
• اشتتباك الدوريات الجوية المقاتلة التركية في عمليات ضد الطائرات الروسية في حال وقوع المزيد من الانتهاكات للمجال الجوي
• صراع بحري في شرق البحر الأبيض المتوسط
• حرب بالوكالة وأنشطة تخريبية تقوم بها قوات العمليات الخاصة
وباستثناء بروز تصعيد كبير، سيصب التوازن العسكري في كل من هذه السيناريوهات في صالح تركيا، على الرغم من أنها قد تتكبد مع ذلك خسائر فادحة.
التوازن الجوي الروسي- التركي
إن حوالي ثلث الطائرات الروسية ذات الجناح الثابت، والتي يبلغ عددها 35 طائرة تقريباً، المنتشرة في سوريا هي طائرات هجوم من طراز “سو-25″، التي لن تشكل تهديداً بارزاً لطائرات “إف-16” التركية. أما الثلث الآخر فهي قاذفات القنابل التكتيكية “سو-24إم” التي تتمتع بقدرات جو-جو محدودة. وهكذا، فإن التهديد الرئيسي جو-جو سيأتي من الطائرات الروسية “سو-34” و”سو-30″، والتي يبلغ عددها في سوريا 12 طائرة.
وعقب إسقاط طائرة “سو- 24” الشهر الماضي، كُشف علناً بأن روسيا قد نشرت طائرات “سو- 34” (فولباك حسب تصنيف الناتو) [المزودة بمنظومة دفاع ذاتي “جو – جو”] في سوريا. وطائرة “سو-34” هي نسخة مطورة للمقاتلة “سو- 27″ ويمكنها أن تحمل صواريخ متطورة جو-جو خارج مدى الرؤية البصرية مثل الصاروخ من طراز”AA-12“. فهو مصمم لأداء مهام متعددة، ويمكن أن يطرح تحدياً في القتال جو-جو. أما الأمر الذي يطرح تهديداً أكبر فهو حقيقة أن طائرات “سو-30” من سلسلة طائرات فلانكر تتمتع بمزايا حركية تميزها عن العديد من الطائرات الغربية، كما أن قدراتها على المناورة ستضمن مزايا هامة خلال القتال داخل مدى الرؤية البصرية عبر تقديم العديد من الزوايا الفعالة للهجوم.
ومع ذلك، تشير التوجهات الحالية في القتال جو-جو إلى دور أكبر للصواريخ خارج مدى الرؤية البصرية. ونظرياً، قد تتمتع بعض الصواريخ المتطورة جو-جو خارج مدى الرؤية البصرية الروسية بمجال أوسع مقارنة مع ذلك الذي تتمتع به صواريخ متطورة جو-جو متوسطة المدى التي تحملها طائرات “إف-16”. إلا أن قتال الصواريخ خارج مدى الرؤية البصرية يعتمد على عوامل أخرى، بما في ذلك أجهزة الاستشعار والرادارات وتكنولوجيا الصواريخ وأنظمة الاتصالات. وفي هذا الصدد، أصبح الرادار والبصمة الحرارية هامين مثل السرعة والقدرة على المناورة.
وفي إطار سيناريو اشتباك جو-جو ضد الروس، يمكن لسلاح الجو التركي أن يصل إلى أعلى نسب من الإصابات الناجحة في اشتباك بالصواريخ خارج مدى الرؤية البصرية، مع إطلاق صاروخ ” إيه آي إم-120 أمرام” [صواريخ متطورة جو-جو متوسطة المدى ] من طائرات “إف-16” المتقدمة كما فعل في عملية إسقاط الطائرة في تشرين الثاني/ نوفمبر. كما قد تتمتع تركيا بميزة عددية. فمنذ إسقاط الطائرة “سو-24″، خصصت مجموعة مكونة من 18 طائرة من طراز “إف-16” وكلفتها بالقيام بدوريات قتال جوي على طول الحدود السورية. وفي حال وقوع اشتباك، يمكن للقواعد التركية المجاورة تقديم الدعم القوي في وقت قصير جداً. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع الطيارون الأتراك بساعات كبيرة من الطيران وبمهارات قتالية جيدة.
غير أن هذه المزايا تعتمد على فرضية اقتصار هذه الاشتباكات على القوات الروسية في سوريا. وإذا ما قامت موسكو بأعمال استفزازية في المنطقة الخاضعة لسلطة الجيش التركي الثالث، أي المناطق الحدودية مع أرمينيا وجورجيا، ستنقلب هذه الميزة العددية بشكل كبير لتصب بصالح روسيا. ومن خلال إشعال اشتباكات أكثر كثافة على الحدود بين أرمينيا وأذربيجان على سبيل المثال، بإمكان موسكو أن تحاول إنهاك الانتشار التركي بين المناطق الخاضعة لمسؤولية الجيشين الثاني والثالث وتحويل التركيز الاستراتيجي لأنقرة.
أصول الدفاع الجوي الروسي
على الرغم من التفوق العددي، إلا أن الطائرات الروسية في سوريا تعمل الآن تحت مظلة دفاع جوي قوية على نحو متزايد. ففي أعقاب إسقاط طائرة “سو-24″، أوضحت موسكو أنها تنشر نظام الدفاع الصاروخي والجوي “إس-400” بعيد المدى جداً في “قاعدة حميميم الجوية” في اللاذقية. كما ونشرت الطراد الصاروخى “موسكفا” قبالة سواحل شرق المتوسط. وتوفر بطاريات صواريخ “إس-400” قدرات متعددة الأهداف على عمق 200 إلى 300 كيلومتراً داخل المجال الجوي التركي، وتعزز من نطاقات المراقبة بالرادار والكشف الخاصة بروسيا. والأهم من ذلك، تستند الهيكلية الدفاعية الجوية السورية على الأنظمة الروسية، لذلك ممكن أن تندرج المنصات البحرية للدفاع الجوي وأنظمة الدفاع الصاروخية والجوية “إس-400” الروسية ضمن بعض الأنظمة السورية. ومن شأن تكوين مماثل أن يوفر مزايا هجومية ودفاعية غير مسبوقة للروس.
وفق عقيدة تسلسل المعركة الخاصة بـ “القوات الجوية التركية”، تم إيلاء “الكتيبة 151″، ومقرها مرزيفون، إلى البعثات التي تنطوي على قمع دفاعات العدو الجوية، وهي مجهزة بصواريخ “إيه جي إم-88 هارم” [عالية السرعة مضادة للإشعاع] مخصصة لهذا الهدف. ولكن في سيناريو قمع دفاعات العدو الجوية ضد بطاريات “إس-400” في سوريا، لا سيما إذا كانت مدرجة مع غيرها من الأنظمة، قد تكون خسائر الكتيبة كبيرة نوعاً ما. ويؤكد هذا الواقع التحذير الاستراتيجي الصادر في أيلول/ سبتمبر عن القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، الجنرال فيليب بريدلاف، الذي أعرب عن مخاوف بشأن إنشاء الروس لـ “فقاعة” ممنوع الدخول إليها في المنطقة.
وبعبارة أخرى، إن قرار الكرملين بنشر أنظمة دفاع جوي متطورة في سوريا يتجاوز إلى حد بعيد إطار الإشارات السياسية. فهو تحرك عسكري لمواجهة تركيا والمزايا العددية التي يتمتع بها “حلف شمال الأطلسي” في مجال صغير من عمليات جو-جو. وفي الواقع، منذ أن قامت الإصلاحات العسكرية الروسية باستبدال نظام السلك-الفوج في الحقبة السوفيتية بنظام كتيبة جوي عند منعطف القرن، غالباً ما تم دمج وحدات الدفاع الجوي مع وحدات القوات الجوية. وأخيراً وليس آخراً، ترافقت العديد من الانتهاكات الروسية مؤخراً للمجال الجوي التركي على مدى الأشهر القليلة الماضية مع مضايقات رادار الهدف المحصور من قبل الدفاعات الجوية السورية.
الحرب الإلكترونية والأصول البحرية والحرب غير التقليدية
منذ بداية تدخلها في سوريا، ركزت موسكو بشكل خاص على نشر الحرب الإلكترونية والأصول الاستخباراتية. فطائرات المراقبة من طراز “IL-20” و نظام “كراسوخا-4” للحرب الإلكترونية جديرة بالملاحظة خاصة في هذا السياق.
لا بد من الإشارة إلى أن روسيا استخدمت بالفعل نظام “كراسوخا-4” في أوكرانيا، مما تسبب بأضرار كبيرة في معدات العدو. إذ يُعتقد أن النظام قادر على إخفاء جسم ما من كشف الرادار من على بعد 150 إلى 300 كيلومتر، فضلاً عن إلحاق الأضرار برادارات العدو وأنظمة اتصالاته وقمع أقمار التجسس. وفي سيناريو يقوم على الاشتباك المحدود، من المرجح أن تستخدم روسيا هذه الأنظمة للتشويش على الأصول التركية. وإذا اختارت تركيا القضاء على أنظمة “كراسوخا-4” باستخدام صواريخ “هارم”، فسيتعين عليها تنفيذ تلك العملية ضد مظلة مهددة من الدفاع الجوي التي يمكن أن تلحق خسائر كبيرة بطائراتها.
أما في البحر، فيبدو أن ميزان القوى البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط يميل لصالح تركيا إلى حد كبير. فغواصات البحرية التركية، ولاسيما سفنها الثمانية من طراز “بريفيز” و”غور” المجهزة بصواريخ ” بوينغ هاربون” [الأمريكية] الجوالة المضادة للسفن [التي تُطلق من تحت سطح البحر]، ستكون أساسية عند ملاحقة سفن السطح الروسية. كما أن الميزة العددية التي تتمتع بها تركيا في مقاتلات السطح الرئيسية ستشكل أيضاً تحدياً كبيراً جداً للسفن الروسية في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يمتلك البلدان أدوات لإلحاق الخسائر الدموية ببعضهما البعض من خلال وسائل غير تقليدية. فمنذ بدء التدخل، كانت موسكو تعمل على تطوير علاقاتها مع المجموعة الكردية السورية الرئيسية، أي «حزب الاتحاد الديمقراطي»، في حين يتمتع نظام الأسد بسجل سيء السمعة بشن حرب بالوكالة ضد تركيا من خلال دعم «حزب العمال الكردستاني». ومن جهة أنقرة، فعلى الرغم من القبضة الحديدية التي يتمتع بها رمضان قاديروف، الذي يدير جمهورية الشيشان المضطربة التابعة لروسيا نيابة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يزال بإمكان تركيا الرد على أي تهديدات في شمال القوقاز من خلال إعطاء حرية العمل للشيشانيين ولعناصر الجاليات المغتربة المماثلة داخل أراضيها.
تلاشي مرير لاستراتيجية تركيا القائمة على إقامة علاقات مع دول أوراسيا
على الرغم من أن ميزان القوى العسكري التقليدي سيكون لصالح تركيا في حال وقوع اشتباك محدود ضد روسيا لفترة محدودة، إلا أن أي تصعيد كبير من شأنه أن يضع أنقرة في موقف خطر. وبالتالي، يجب أن يكون هذا الخطر من التصعيد الذي لا يمكن السيطرة عليه بمثابة تذكير صارخ بمزايا العضوية في “حلف شمال الأطلسي”. وفي الواقع، يمكن للتطورات الأخيرة أن تشير إلى نهاية مأساوية لفكر تركيا الجيوسياسي القائم على إقامة علاقات مع دول أوراسيا المنتشر في المجتمع التركي الاستراتيجي، والذي افترض لبعض الوقت أن المحور الروسي-التركي قد يكون بديلاً عملياً للعلاقات الدفاعية والأمنية التقليدية مع الغرب. إن هذا الفكر القائم على إقامة علاقات مع دول أوراسيا قد لقي الدعم ليس فقط بين الحركات الاشتراكية في السياسة التركية، بل بين بعض الشخصيات المحافظة أيضاً. لكن في أعقاب حادث إسقاط طائرة “سو-24” وخطاب الكرملين العدائي ضد أنقرة، لن يكون من السهل بعد الآن الدفاع عن مثل هذه الأفكار.
كان كاسابوغلو
معهد واشنطن