مع دخول الاتفاق النووي بين طهران والقوى العالمية حيّز التنفيذ، فإن السؤال الرئيسي بات يدور حول ما يعنيه ذلك بالنسبة لإيران. لقد احتدم الصراع بين الرؤى المتنافسة حول مستقبل البلاد منذ تم التوصل إلى الاتفاق. كثيرون، في إيران وخارجها، يعتقدون أن من شأن الاتفاق إعادة التوازن إلى الحياة السياسية الداخلية. لم يؤدِّ الاتفاق إلى تعزيز مكانة أولئك الذين دعموه وحسب، بل كان له أثر أكثر جوهرية يتمثل في أنه أفسح المجال لنقاشات جديدة في فضاء داخلي طغت عليه المسألة النووية لأكثر من عقد من الزمن.
إلاّ أن النظام السياسي، مع تعدد مراكز القوى والجهات الوصائية فيه، ينزع بطبيعته نحو الاستمرارية. مع سعي رعاة الاتفاق للتخفيف من حدة تداعياته والمحافظة على توازن القوى، فإن أي محاولة من قبل البلدان الغربية لممارسة ألعاب سياسية داخل النظام الإيراني – على سبيل المثال من خلال محاولة دفعه في باتجاه «الاعتدال» – يمكن أن تحدث أثراً عكسياً. إذا كانت القوى العالمية تأمل بتحقيق تقدم في المجالات التي تثير قلقها وتلك التي تنطوي على مصالح مشتركة، فإن عليها أن تنخرط مع إيران كما هي، وليس مع إيران التي تتمناها. في البداية، وقبل كل شيء، على جميع الأطراف الوفاء بالتزاماتهم بموجب الاتفاق النووي.
يأتي الاتفاق في لحظة حسّاسة؛ فخلال ثمانية عشر شهراً، من المقرر إجراء ثلاثة انتخابات محورية. سيشهد شباط/فبراير 2016 الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس خبراء القيادة، الذي يتمثل تفويضه الرئيسي في اختيار المرشد الأعلى القادم؛ وفي حزيران/يونيو 2017، ستجرى الانتخابات الرئاسية. مع تقدّم المرشد الأعلى بالسن، فإن كثيرين يتساءلون عما إذا كان المجلس القادم (خلال فترته التي تدوم ثماني سنوات) سيختار خلفه، الذي من الممكن أن يعيد صياغة مسار الجمهورية الإسلامية. منافسو الرئيس حسن روحاني قلقون من احتمال أن يتمكن وحلفاؤه من ترجمة إنجازاتهم في السياسة الخارجية إلى انتصارات انتخابية.
تعود التوترات داخل الجمهورية الإسلامية في جزء كبير منها إلى المزج بين السيادة الشعبية والسلطة الدينية. تسعى القوى التي يمثلها رجال الدين إلى المحافظة على هيمنة المرشد الأعلى والهيئات الوصائية الأخرى، في حين أن القوى الجمهورية تسعى إلى منح المؤسسات المنتخبة شعبياً مزيداً من النفوذ. كما أن كلا المعسكرين منقسمين بين البراغماتيين الذين يسعون إلى تحقيق تطور سياسي بشكل تدريجي والراديكاليين الذين إما أنهم يقاومون أي تغيير أو يدعمون إجراء تحوّل ثوري. المرشد الأعلى – قوي لكن ليس مطلق السلطة – يحافظ على الاستقرار من خلال احتواء كلا النزعتين الثيوقراطية والجمهورية. إلاّ أن ارتباطه بالمجموعة الأولى يجعل التوازن المتحقق معقّداً وغير مثالي.
إن هشاشة هذا التوازن تعني أن السياسات تتغير عندما يكون الضغط من القواعد مصحوباً بإجماع كبير بين النخب. المفاوضات حول الملف النووي توضح هذه الحالة. لقد شكل انتخاب روحاني، من جهة، ومطالب الشعب الذي أرهقته العقوبات باستعادة الحياة الطبيعية، من جهة أخرى، محفزاً للعملية، إلاّ أن الاتفاق لم يكن إنجاز رجل واحد. كان المرشد الأعلى علي خامنئي قد أقر المفاوضات الثنائية مع الولايات المتحدة قبل ترشّح روحاني للرئاسة. ومن ثم دعم الجهود الدبلوماسية للرئيس الجديد وحماه من خصومه. لكن نظراً لحرص المرشد الأعلى على عدم المخاطرة، فإن دعمه لم يكن مطلقاً ولم يلغِ حاجة روحاني للتحالف مع مراكز قوى أخرى.
الرئيس، الذي ينتمي إلى المعسكر الجمهوري، أشرك أهم الحلفاء، وهم رجال الدين البراغماتيين، الذين يسيطرون على المؤسسات غير المنتخبة. لقد كان لكل مجموعة قوية يد في هذا الاتفاق، وهو ما عكس قراراً استراتيجياً وطنياً لطي صفحة الأزمة النووية رغم استمرار المخاوف حيال التزام القوى العالمية. ويبدو أن المؤسسة الحاكمة مصممة أيضاً على تنفيذ الاتفاق بقدر التصميم الذي أظهرته على إكمال المفاوضات، وغالباً لنفس السبب، أي إنعاش الاقتصاد عن طريق رفع العقوبات، سواء طبقاً للصيغة التي نص عليها الاتفاق أو بإظهار أن إيران ليست مسؤولة عن فشله.
لقد واجه «روحاني» صعوبات في مجالات أخرى. لقد أُجبر على تجميد أولويات لم يتمكن من حشد إجماع كافٍ لمتابعتها، بما في ذلك إطلاق الليبرالية الإجتماعية والسياسية. غير أن أجندته الاقتصادية، التي تهدف إلى تحفيز النمو بعد بضع سنوات من الركود، من المرجح أن تمضي قدماً، رغم أنها ستلحق الضرر بمصالح قوية حققت مكاسب في ظل نظام العقوبات.
كل شيء يشير إلى أن «روحاني» سيستمر في اتباع نهج حكيم، وعلى الأرجح فإن التغيير سيأتي شاقاً، وبطيئاً ومتواضعاً. رغم أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يمكن أن يحثّوه على التحرّك بسرعة أكبر، لكن ما من سبيل لتسريع العملية الإصلاحية، في حين أن هناك العديد من الوسائل التي يمكن أن تؤدي إلى تقويضها. إن السعي لتمكين الجمهوريين – وهو ما يجري الحديث عنه في دوائر معيّنة بوصفه أحد النتائج الثانوية للاتفاق النووي – لن ينجح، حيث إن العديد من رجال الدين يرون أن ذلك التكتيك حصان رهان من أجل تغيير النظام.
هذا لا يعني منح طهران تفويضاً مطلقاً، سواء محلياً أو إقليمياً، لكن ينبغي معالجة القضايا المثيرة للقلق بحكمة، مع الأخذ بعين الاعتبار مخاوف واهتمامات طهران بنفس القدر الذي تؤخذ به مخاوف واهتمامات خصومها. كما أن ذلك يعني أن الإيرانيين، رغم عدم مثالية نظام حكمهم، وهو ما سيسارع كثيرون للإقرار به، هم الذين ينبغي أن يقرروا مواقف بلادهم دون تدخل خارجي لا مبرر له. إن محاولة صياغة حسابات طهران الإقليمية من خلال جملة من الإجراءات التي تنطوي على استخدام العصا والجزرة يُعدُّ ممارسة معيارية في السياسة الخارجية، إلاّ أن محاولة صياغة عملية صنع القرار نفسها أو الالتفاف عليها مسألة أخرى.
كما تبيّن في الاتفاق النووي والآن في المجال الاقتصادي، فإن الإجماع الداخلي، الذي يتم التوصل إليه من خلال عملية محلية ذات مصداقية، هو الأساس المستقر الوحيد لتحقيق التقدم.
يتمثل الخيار الأفضل للدول الغربية وإيران في الاستمرار في عكس السرديات السلبية الموروثة من عقود من التشكك والعدائية، وذلك من خلال التنفيذ الكامل للاتفاق النووي، وإيجاد قنوات منفصلة وغير مسيّسة لمعالجة القضايا الأخرى التي تُعدُّ مثار قلق أو تنطوي على مصلحة مشتركة؛ وبالتالي، الدفع نحو ترتيبات أمنية إقليمية تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإيرانية والعربية على حد سواء. في النهاية، قد لا تتمكن إيران والغرب من الاتفاق على مجموعة من القضايا، إلاّ أن محاولة اللعب بالنظام الإيراني ستضمن بالتأكيد أنهما لن يتفقا.
مجموعة الأزمات الدولية