على الأرجح، ستتوقف الحرب في غزة خلال أسابيع معدودة. غير أن الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني لن يتوقف، وأغلب الظن أنه سيدخل في مرحلة جديدة بالغة التعقيد وخطيرة التحديات.
فمن جهة، لن تزول المعاناة الإنسانية لأهل غزة مع نهاية الحرب. فالدمار الذي ألحقته آلة الحرب الإسرائيلية بالبنى والمرافق والمنشآت المدنية في القطاع يجعل منه في أجزاء كثيرة مكانا لا يمكن الحياة به. وسيرتب الانهيار الكامل للنشاط الاقتصادي ومحدودية فرص العمل المتاحة أمام السكان (الذين يتوقع أن ترفض إسرائيل دخولهم إلى أراضيها كعمالة يومية) تحول الاعتماد الراهن على المساعدات الإنسانية إلى تبعية شاملة للمساعدات ومقدميها الإقليميين والدوليين.
الدمار الذي ألحقته آلة الحرب الإسرائيلية بالبنى والمرافق والمنشآت المدنية في القطاع يجعل منه في أجزاء كثيرة مكانا لا يمكن الحياة به
والغياب المتوقع للأمن والاستقرار مصحوبا بالرفض الإسرائيلي والغربي المتوقع للتعامل مع حماس والفصائل الأخرى، والتي يرجح بقاؤها على الأرض في غزة بصورة أو أخرى، سيصعبان للغاية من إطلاق جهود إعادة الإعمار. فإذا كان الجانب المصري، وهو سيصير مع استمرار الإغلاق الإسرائيلي لكافة المعابر مع القطاع المنفذ الوحيد لأكثر من مليونين من السكان، لن يمانع في التواصل الأمني والسياسي مع حماس لتسهيل دخول المساعدات وإعادة الإعمار، فإن الرفض الإسرائيلي والغربي سيعنيان تعقيدات بالغة على الحدود وغياب للدعم المالي والاقتصادي الأمريكي والأوروبي والذي دوما ما كان ضروريا لتحسين الأوضاع المعيشية في غزة.
من جهة ثانية، ومع التسليم بكون المعلومات المتوفرة اليوم للعامة لا تسمح بتقدير موضوعي للخسائر البشرية وللخسائر في المعدات العسكرية التي لحقت بحماس والفصائل الأخرى، يظل المرجح هو أن قدرات حماس فيما خص السيطرة على غزة وإدارتها ستتراجع في أعقاب الحرب. وإذا كان الهدف الإسرائيلي المعلن والمتمثل في القضاء على الحركة يتسم بعدم الواقعية العسكرية والسياسية، فإن رفض الدولة العبرية ورفض الغرب التعامل مع حماس سيجعل من عودتها إلى حكم القطاع على النحو الذي مارسته منذ 2006-2007 أمرا مستحيلا. ستبقى لحماس قدرات عسكرية وبعض قدرات الإدارة والحكم بكل تأكيد، غير أن انفرادها بالقطاع وبأحواله لن يسمح به إسرائيليا أو غربيا حتى وإن استدعى هذا وجودا عسكريا مستمرا لإسرائيل (يرفضه اليوم الغرب) أو تشكيلا لقوة دولية على غرار قوات «اليونيفيل» في لبنان (وهو ما ترفضه الحكومة الإسرائيلية).
بين المستحيلين، القضاء على حماس على صعيد وعودتها إلى حكم غزة على صعيد آخر، سيتبلور واقع معقد وخطير في القطاع به إما خليط من الوجود الأمني الإسرائيلي ووجود على الأرض (وتحت الأرض) لحماس والفصائل الأخرى أو به شيء من وجود قوات دولية لمهام أمنية محددة ومعها للاضطلاع بمهام الإدارة والحكم السلطة الوطنية الفلسطينية وسيتعين على الطرفين في هذه الحالة التعايش مع حماس والفصائل الأخرى والبحث عن توافقات أمنية وسياسية. وفي جميع الأحوال، لن يكون الوضع على الأرض في قطاع غزة بالآمن أو المستقر بعد انتهاء الحرب، كما أن المرجح هو أن تتواصل المواجهات العسكرية بين إسرائيل وحماس بشكل من الأشكال في أعقابها (حتى وإن كان كرا وفرا) ما لم يحدث اتفاق على هدنة طويلة المدى.
من جهة ثالثة، ستخرج كافة الأطراف الفلسطينية من حرب غزة خاسرة شعبيا وسياسيا. فحماس، ومع الاعتراف بغياب استطلاعات رأي موثوقة منذ بداية الحرب وإلى اليوم، لن تسلم بعد انتهائها من انتقادات شعبية وتساؤلات مشروعة بشأن حسابات الحركة وأهدافها والعلاقة بينها وبين مصالح الناس، وهي انتقادات وتساؤلات حتما ستطالها بسبب كل خرائط الدماء والدمار والخراب التي لحقت بأهل غزة والمعاناة الإنسانية المتوقع استمرارها لفترة ليست بالقصيرة.
أما السلطة الوطنية في رام الله، فيؤثر عليها بالسلب موقفها من الحرب الذي يراه الناس، في القطاع كما في الضفة الغربية والقدس الشرقية وبين المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل (حدود 1948) وفي المهاجر، متسما بسلبية بالغة وعاجزا حتى عن حماية أهل الضفة والقدس من اعتداءات المستوطنين المتطرفين المتصاعدة. كذلك، تضار السلطة الوطنية سياسيا من جراء الخطاب الإسرائيلي الذي لا يراه بها طرفا مؤهلا لا لإدارة شؤون غزة ولا للتفاوض حول المستقبل السياسي للقضية الفلسطينية، ومن جراء المقولات الغربية التي تطالبها بتحديد الدماء واستعادة الحيوية والشرعية وهو ما يعني إقرارا أمريكيا وأوروبيا بغياب كافة هذه العناصر عن السلطة اليوم. وإذا ما أضفنا إلى الخسارة الشعبية والسياسية للأطراف الفلسطينية حقيقة أن المصالحة بينها تعثرت طوال السنوات الماضية لحسابات ضيقة وذاتية، يصير الضعف الفلسطيني مكونا بنيويا لمرحلة ما بعد الحرب ويستدعي، إذا ما أرادت حماس ورغبت السلطة، عملا سريعا لإنجاز توافق وطني يعيد لحمة الأراضي المحتلة ويتجاوز انقسام غزة-الضفة ويطرح رؤية واضحة المعالم بشأن المستقبل الفلسطيني.
من جهةٍ رابعة، ستجدد الحرب وتداعياتها الأزمة السياسية التي عانت منها إسرائيل قبل 7 أكتوبر / تشرين الأول وستعود إليها هذه المرة على نحو أعنف يجمع بين قضايا الداخل والقضايا المرتبطة بالموقف من فلسطين ومن الشعب الفلسطيني. قبل الحرب كان التنازع حول الفصل بين السلطات في النظام السياسي للدولة العبرية وحماية دولة القانون من قوى اليمين الديني واليمين المتطرف وضمان حرية التعبير عن الرأي هي القضايا المركزية التي تشغل المجتمع.
أما بعد الحرب فسيضاف إلى هذه القضايا الموقف من فلسطين والتي تحفل إسرائيل فيما خصها بقوى متطرفة تريد إلغاء حقها في تقرير المصير وترفض التفاوض مع كل الأطراف الفلسطينية وتحضر بها أيضا قوى تريد العودة إلى التفاوض وقد تقبل بدولة فلسطينية منزوعة السلاح لإنهاء الصراع وتسريع معدلات الدمج الإقليمي والتعاون الأمني بينها وبين الدول العربية. غير أن حسم الأمر لصالح معسكر من المعسكرين لن يكون سهلا، خاصة مع الاستمرار متوسط إلى طويل المدى المتوقع لمسألة الرهائن والتواصل المنتظر للدماء والمواجهات في غزة والتصاعد المنظور في الصراع السياسي حول بنيامين نتنياهو ومستقبله بعد الحرب على خلفية مسؤوليته هو وحكومته عن حدوث هجمات حماس.
ستصنع كافة هذه العناصر سالفة الذكر من غزة ومن عموم الأوضاع في فلسطين وإسرائيل في «اليوم التالي» للحرب برميلا للبارود قابلا لتجدد الاشتعال ما لم تنشط السياسة في السياقين وفي الإطارات الإقليمية والدولية للبحث عن مخارج حقيقية وفي التحليل الأخير لاستعادة عافيتها هي، أي السياسة، بعد المشاهد المروعة للحرب وللمأساة الإنسانية التي صنعتها وبعد خطابات التهديد والوعيد المتلفزة وفورة المشاعر الكارهة للآخر على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.