في مقال يعود لثمانينات القرن الماضي، يقترح الكاتب والروائي الأمريكي الشهير غور فيدال حلفاً بين أمريكا والاتحاد السوفييتي وذلك في فترة تصاعد موجة «المحافظين الجدد» واليمين المسيحي الأمريكي الذي كان يعمل بقوة على تعزيز النزاع بين الطرفين وصولاً إلى حرب نووية تمهد لعودة المسيح من جديد.
وفي تبنيده لاقتراحه استعاد فيدال وهو الكاتب الملحد واليساري فكرة الشاعر البريطاني كبلنغ عن «عبء الرجل الأبيض» في نشر «الحضارة الغربية» في العالم، في مواجهة النفوذ المتصاعد للجنس الأصفر الممثل في الصين واليابان.
كانت دعاية المحافظين الجدد الرسمية آنذاك تصوّر الاتحاد السوفييتي باعتباره مركز المحور الشيطاني في العالم الذي يجب أن يندحر ليسود السلام في العالم، في الوقت الذي كان فيه الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل غورباتشيف يطلق مرحلة جديدة لبعث الروح في بنى هذا الاتحاد رافعاً شعارات البناء والشفافية، مفرجاً عن مئات المساجين السياسيين والمنشقين وأطلق المجال لحرية التعبير، وكانت النتيجة أن الكثير من الشعوب قررت الاستقلال عن الاتحاد الذي كانت مرغمة على البقاء فيه بالقوة.
مع استلام فلاديمير بوتين للسلطة عام 2000 طرأ تغيّر كبير على مسار روسيا باتجاه دكتاتورية مقنّعة بالانتخابات داخليا، واستعادة «أملاك» الإمبراطورية الروسية خارجيا، وعبر ذلك محاولة فرض وضعية الدولة الشريكة في إدارة العالم، غير أن طرقها العنيفة في فرض مصالحها السياسية والعسكرية في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا جعلها عرضة لعقوبات اقتصادية ومالية من أوروبا وأمريكا مستمرة حتى الآن، ومقابل المشاكسات العسكرية الجوية والبحرية من موسكو لبلدان حلف الأطلسي (الناتو) تستمر خطط الحلف بالتوسع في الجبل الأسود (مونتينيغرو)، وجورجيا وأوكرانيا.
مع المفاجأة الكبرى التي فجّرها تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بدأ توسعه باحتلال مدينة الرقّة السورية ثم فتحه مدينة «الموصل» وانتشاره السريع نحو بغداد، برزت فرصة تاريخية سارعت روسيا لانتهازها، تعرض فيها خدمات قوّاتها العسكرية الكبيرة العدد، ونفوذ حلفها الاستراتيجي مع إيران، وبالتالي، امتدادات نفوذها على العراق وسوريا واليمن ولبنان (مراكز انتشار «الكولونيالية» الإيرانية)، وهو ما أثمر في أيلول/سبتمبر الماضي عن بدء تمركزها وانتشارها وعملياتها العسكرية المكثفة في سوريا.
تقوم الاستراتيجية العسكرية الروسية على مبادئ رئيسية بينها الإبقاء على اتصال مساحات بلدها الشاسعة بالبحار مهما كلّف ذلك من تضحيات، ولهذا السبب فإن استراتيجيتها السياسية مرتبطة بالجغرافيا بشكل وثيق، وكونها محاطة بالكثير من البلدان المسلمة السنّية، التي خاضت معها عبر العقود العديد من الحروب (بما فيها تركيا)، وانتهاء بتجربتها الكارثية في أفغانستان (والشيشان)، فقد طوّرت النخبة السياسية الروسية اتجاهاً تاريخياً قارّاً مضادّا للإسلام السنّي وتعبيراته السياسية، وهذا ما يفسّر الكثير من السلوكيات والقرارات السياسية الروسية في العراق وايران وسوريا وغيرها من البلدان.
مع صعود الثورات العربية حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا المراهنة على نمط معتدل من الإسلام السنّي تشكل تركيا وإندونيسيا وماليزيا نماذج ناجحة له، غير أن انقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وحالة الفوضى التي آلت إليها ليبيا، وصولاً إلى انتشار التنظيمات السنّية المسلحة، وبعضها لا يخفي عداءه الشديد للغرب، وغير ذلك من أحداث أعادت تشغيل ميكانيزمات الفكر الاستشراقي ضد الإسلام السنّي، سواء الممثل بأشكال دوله التقليدية كالسعودية، أو بتعبيراته السياسية كالإخوان المسلمين، أو بأشكاله الجهادية العنيفة كتنظيم «الدولة الإسلامية»، بحيث صار من المعتاد في وسائل الإعلام الجماهيرية وبين النخب السياسية الغربية ترديد مصطلحات عمومية فاقعة مثل «الإسلام الراديكالي»، و»الإرهاب الإسلامي»، وبحيث لم يعد التفريق وارداً بين الإرهاب والإسلام والمسلمين في مزيج لخلطة ديماغوجية قابلة للتعليب والتصنيع والاستثمار الشعبوي، على غرار ما يفعل دونالد ترامب ومارين لوبين وغيرهما.
خلاصة القول إن الغرب، ممثلا بأمريكا وأوروبا، قد يكون قد وجد أساساً عميقاً لتحالف طويل الأمد مع روسيا، يلبّس فيه المسلمون والإسلام السنّي عموماً عباءة الإرهاب ويستخدم ذلك لابتزاز دول الخليج الغنية، وإدخالها في حروب لها وعليها، ويحيل ما بقي من المنطقة خراباً!
صحيفة القدس العربي