مع دخول القرن الـ21 وابتكار تقنيات حديثة للتنقيب واستخراج الغاز الطبيعي والبترول من أعماق سحيقة تحت مياه البحار، برزت إلى دائرة الضوء منطقة شرق البحر المتوسط لاحتوائها على مكامن غاز تحتوي على احتياطات هائلة تقدر قيمتها بمئات المليارات من الدولارات، حتى إن البعض شبهها بمنطقة الخليج العربي بداية السبعينيات.
لكن تداخل الحدود البحرية بين مصر وإٍسرائيل وقبرص ولبنان وتركيا واليونان، خلّف صراعًا خفيًا وتسابقًا للفوز بهذا الكنز الجديد، خاصة أن إسرائيل وقبرص بدأتا بالفعل في بسط نفوذهما واستغلال بعض الحقول، خاصة أن هناك خلافًا بين لبنان وإسرائيل، وبين الشطرين اليوناني والتركي من قبرص، مما يهدد بإغراق المنطقة في صراع جيوإستراتيجي، خاصة مع اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز فيها، ومع وجود قوى كبرى ذات أطماع في هذه الموارد، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وروسيا.
وفي الحقيقة يقود اقتسام حقول الغاز في هذه المنطقة إلى نشوء كتلتين تواجه إحداهما الأخرى، فمن جهة هناك إسرائيل وقبرص، وربما اليونان التي لديها علاقات سياسية وعسكرية متينة مع كلتيهما، ومن الجهة الأخرى هناك تركيا وجمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، وربما لبنان. ومن الصعب التكهن حاليًا بما إذا كانت هذه المواجهة ستبلغ حد الاشتباك المسلح السافر، أم سيكون بالإمكان تسوية النزاع بالطرق الدبلوماسية. إلا أن من المستبعد أن تنجح إسرائيل في تنظيم استخراج الغاز من قاع البحر الأبيض المتوسط طالما تحتفظ تركيا بسفن حربية في المنطقة، متأهبة لعمليات حازمة.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن التقارب التاريخي والعلاقات الممتدة بين مصر واليونان منذ عام 300 قبل الميلاد حتى الآن، والتي تعد من أقدم العلاقات بين بلدين في التاريخ، فإن الفترة الحالية تشهد تناغمًا غير مسبوق بين القاهرة وأثينا فيما يخص المجال الاقتصادي البحري – والسياسي والعسكري، فالمعادلات السياسية والعسكرية لليونان وقبرص فرضت عليهم التعاون مع قوة بحجم مصر، لمواجهة الصلف التركي الذي نصبّ نفسه شرطيًا لشرق المتوسط.
أعلنت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عن وجود احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي بمنطقة شرق المتوسط تصل لـ122 تريليون قدم مكعب
أولا- تحالفات متناقضة في شرق المتوسط
في مارس 2010، أعلنت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عن وجود احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي بمنطقة شرق المتوسط تصل لـ122 تريليون قدم مكعب، وبناء عليه توجهت إسرائيل علي الفور نحو قبرص لترسيم الحدود البحرية بينهما، وعقدت قبرص اتفاقًا مبدئيًا مع إسرائيل في 2010 دون الرجوع لمصر، حسب بنود الاتفاقية التي أبرمتها قبرص مع مصر في 2004 التي تلزم أي طرف بالرجوع للطرف الآخر في أي اتفاق مع دولة أخرى، لكن مصر احتوت الموقف مرة أخرى، وعقدت اجتماعات ضمت رؤساء الدولة الثلاثة مصر اليونان وقبرص نتج عنه إعلان القاهرة 2014 وإعلان نيقوسيا في أبريل 2015 والذي أوضح صراحةً تأكيد ثوابت اتفاقية 2004 مرة أخرى والتي تعد طردًا لإسرائيل من أي اكتشافات مستقبلية في المنطقة القبرصية، وهنا تأتى أهمية الرسالة التي بعثت بها القاهرة” بهذا الشأن لكل الأطراف، وفى مقدمتها تركيا وإسرائيل.
يشهد شرق المتوسط الآن صراعًا على منابع ومصادر الطاقة فيه بين ثلاث قوى رئيسية “مصر وتركيا وإسرائيل”، فالجانب التركي لم يوفق في تكوين أي تحالف في شرق المتوسط، نظرًا للتوتر القائم بينه وبين قبرص في الجزء الشمالي لها الذي احتله تركيا في سبعينيات القرن الماضي ويرفض الاعتراف بأحقية قبرص في المنطقة الاقتصادية الخاصة لها.
وحذر الجانب التركي شركات النفط من مغبة التنقيب عن مصادر الطاقة في تلك المياه، وشهد التوتر الجيوسياسي بينهما ذروته بعد توقيع القاهرة وأثينا ونيقوسيا اتفاقًا تاريخيًا تمحور بعد إعلان القاهرة في 2014 وصولًا لإعلان نيقوسيا 2015 في أبريل الماضي، مضت للتعاون في مجالات التنقيب عن الغاز في المتوسط ولإعادة ترسيم الحدود البحرية بين الثلاث دول التي من المتوقع أنها ستعتمد اتفاقية البحار التي ستضيق الخناق علي أنقرة وستحرمها من منطقتها الاقتصادية الخاصة قرب اليونان.
ومن ناحية أخرى، فإن الاكتشاف المصري الضخم للغاز سيعزز التعاون المشترك، الذي يرمي في “أجندته الضمنية” إلى مواجهة التصعيد التركي مع الدول الثلاث، سياسيًا وأمنيًا مع مصر، واقتصاديًا وعسكريًا مع “قبرص اليونانية”، بما يجعل هذا التحالف يضمن مصالح أطرافه في مواجهة أية تهديدات محتملة أيا كان مصدرها، خاصة بعد أن دخلت المواجهة الدولية مع تركيا، التي تبلورت في القاهرة بعد توقيع مصر وقبرص واليونان “إعلان القاهرة”، مرحلة “التهديد بالحرب”، بإعلان أنقرة تفويض الحكومة التركية قواتها البحرية بتطبيق قواعد الاشتباكات، لمواجهة التوتر المتزايد بين الدول الساحلية التي تشمل تركيا وقبرص اليونانية ومصر، بسبب مشروعات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي شرق البحر المتوسط.
كما ينبغي الالتفات إلى أن إسرائيل التي تسعى للسطو على حقوق الغير في غاز البحر المتوسط، قد استبقت لقاء القاهرة بتحذير قبرص وتوجيه التهديدات بشأن ترسيم الحدود البحرية التي تريد إسرائيل أن تحددها على هواها ودون التزام بالمواثيق الدولية، وبالتعدي على حقوق الآخرين، خاصة أن “القمة الثلاثية” بين رؤساء مصر واليونان وقبرص ترقبتها إسرائيل عن كثب بعد صعود العلاقات القبرصية – المصرية إلى أعلى المستويات، خاصة بعد إعلان نيقوسيا عن قرب التوصل إلى اتفاق حول غاز البحر المتوسط التي تشارك إسرائيل في السيطرة عليه بمنطقة أفروديت القبرصية.
إعلان القاهرة 2014 وإعلان نيقوسيا في أبريل 2015 أوضح صراحةً تأكيد ثوابت اتفاقية 2004 مرة أخرى والتي تعد طردًا لإسرائيل من أي اكتشافات مستقبلية
ثانيًا- شرق المتوسط بين إسرائيل وتركيا واليونان
رغم الانفتاح التركي على اليونان الذي تمثل بزيارة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد أوغلو إلى أثينا، فإن الخلافات التركية – اليونانية حول السيادة على الجرف القاري لبعض الجزر في بحر إيجة، وحول خطوط الملاحة في البحر لا تزال تشكل قنابل موقوتة. كانت إسرائيل حتى وقت قريب تحيّد نفسها عن هذه القضايا، وكان بما لديها من نفوذ على الإدارات الأمريكية تعطل دور اللوبي اليوناني – الأمريكي في أي محاولة تستهدف المصالح التركية. إلا أن إسرائيل الآن بانتقالها من التحالف مع تركيا إلى التحالف مع اليونان، من المرجح أن تبادر إلى نقل بارودة اللوبي اليهودي الأمريكي من الكتف التركية إلى الكتف اليونانية.
تدرك إسرائيل الآن أن علاقاتها مع تركيا لن تعود إلى ما كانت عليه رغم الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي بذلتها وتبذلها الولايات المتحدة. فقد انقطع حبل الوصال بينهما حتى قبل عملية القرصنة البحرية التي قامت بها إسرائيل ضد أسطول الحرية الذي نقل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة. ولم تعد إسرائيل تجد في تركيا الحليف الاستراتيجي الذي كانت تعتمد عليه، ولذلك فإنها بحاجة إلى حليف إستراتيجي بديل في شرق المتوسط. فكان هذا الحليف هو اليونان.
من هنا، فإن اليونان التي تحتاج إلى الدعم الإسرائيلي المباشر وعبر اللوبي اليهودي الأمريكي، تحتاج في الوقت ذاته إلى المحافظة على علاقاتها مع العالم العربي، وتحتاج كذلك إلى عدم إثارة غضب تركيا واستدراجها إلى ردود فعل معادية. ولكن في الوقت الذي تغرق فيه اليونان في أزمة الديون والعجز المالي، فإنها لا تستطيع أن ترفض اليد التي تمتد لمساعدتها. وبعد أن تبين لأثينا أن المساعدات والقروض التي حصلت عليها من المجموعة الأوربية، وحتى من البنك الدولي ليست كافية لإخراجها من مأزقها المالي، فإنها تمد يدها إلى إسرائيل التي تقدم نفسها على أنها مفتاح للكثير من البيوتات المالية الدولية التي يمكن تشجيعها على مد يد العون لليونان.
وقد تعهد بنيامين نتنياهو للرئيس اليوناني جورج بابندريو بأن يوجه حركة السياحة الإسرائيلية من تركيا إلى اليونان. وبذلك يوجه ضربة إلى الاقتصاد التركي ويقدم عرضًا مغريًا للاقتصاد اليوناني. وحسب التقديرات الإسرائيلية الرسمية فإن حجم السياح الإسرائيليين إلى الخارج يبلغ نحو 400 ألف شخص سنويا، وفى الوقت الذي تعانى فيه المنشآت السياحية اليونانية من الركود بسبب الاضطرابات التي رافقت الاحتجاج على سياسة التقشف التي قررتها الحكومة، فإن تدفق السياح الإسرائيليين إلى هذه المنشآت يشكل ورقة إغراء شديدة.
وسواء صحت هذه الحسابات أو لم تصحّ، فإن إسرائيل بتوجهها نحو اليونان تعلن عمليا اليأس من إصلاح العلاقات مع تركيا. وأن اليونان بتجاوبها مع إسرائيل تعلن استعدادها للتحالف مع الشيطان إذا كان هذا التحالف يخرجها من محنتها المالية المعقدة والخطيرة.
عندما كان التحالف بين أنقرة وتل أبيب في عصره الذهبي، كان هذا التحالف يشكل قوة دفع لليونان باتجاه العالم العربي. وكان العالم العربي يقابل هذا الاندفاع بمثله. وأحيانا بأحسن منه، ويعكس ذلك الموقف العربي من القضية القبرصية.
ولكن بانفراط عقد هذا التحالف، تغيرت الحسابات وتبدلت المعادلات. فالحرارة العاطفية التي أشعلت من جديد لهيب العلاقات التركية العربية، تشكل هاجسا مقلقا في اليونان من احتمال خسارة الحليف العربي. وربما يكون هذا الهاجس وراء سياسة الأذرع الممدودة والقلوب المفتوحة التي اتسم بها لقاء نتنياهو بابندريو في أثينا.
ومهما يكن من أمر، فإن لعبة التحولات في شرق المتوسط بين الثلاثي الإسرائيلي التركي اليوناني، تتسم بكثير من الخطورة. ولكن حتى الآن، لا اليونان تبدو مستعدة للتضحية بالحليف العربي، ولا العرب مستعدون للتخلي عن اليونان، ولا إسرائيل قادرة على تحمّل خسارة الاثنين التركي واليوناني فوق عدائها للعربي. ولكن قد لا يكون الانفتاح الإسرائيلي المفاجئ على أثينا سوى محاولة إضافية من المحاولات العديدة التي قامت بها تل أبيب للضغط على أنقرة ولحملها على إعادة النظر في مواقفها الجديدة منها. وهو ما تعمل عليه جاهدة أيضا الإدارة الأمريكية التي تعتبر التحالف التركي الإسرائيلي حجر الرحى، وأحد أهم الأسس التي تقوم عليها إستراتيجيتها في المنطقة.
قد يكون من السذاجة فصل تحرك الأسطول الروسي نحو شرق المتوسط عن هذه التحولات. فقد طالب الكرملين من سوريا توسيع قاعدة الخدمات في مرفأ طرطوس التي تقدم لقِطَع البحرية الروسية في شرق المتوسط.
وهو أمر تنظر إليه الولايات المتحدة بقلق، وتتعامل معه إسرائيل بقلق أكبر، كذلك كان التحالف التركي – الإسرائيلي – الأمريكي يشكل مظلة عسكرية ثلاثية في شرق المتوسط، ألا أن انفكاك هذا التحالف، وتعزيز الحضور الروسي من شأنه أن يرسم صورة جديدة للواقع في المنطقة. فقد توقفت المناورات البحرية والجوية الأمريكية الإسرائيلية التركية المشتركة في شرق المتوسط وكان من مهمة نتنياهو في أثينا حثّ اليونان على أن تحل محل تركيا في هذه المناورات. وإذا حدث ذلك فإن معناه دخول المنطقة مرحلة جديدة من الصراعات المتداخلة والمتشابكة من شأنها أن تفرز تحالفات سياسية إقليمية جديدة، يبدو فيها الطرف العربي، مرة جديدة مع الأسف الشديد، الطرف الأضعف.
ينبغي الالتفات إلى أن إسرائيل استبقت لقاء القاهرة بتحذير قبرص وتوجيه التهديدات بشأن ترسيم الحدود البحرية التي تريد إسرائيل أن تحددها على هواها ودون التزام بالمواثيق الدولية
ثالثًا- تعزيز التعاون العسكري مع الحلفاء الجدد في المتوسط
قبيل إعلان الحكومة المصرية وشركة إيني الإيطالية عن الاكتشاف الضخم في منطقة امتياز شروق الخاصة، بدأت القوات المسلحة المصرية في تحديث شامل لجميع أفرع قواتها، فطالت التحديثات القوات الجوية، وتم إبرام صفقات قوية مع الجانب الفرنسي والروسي، تم علي إثرها إدخال أفضل المقاتلات متعددة المهام بين السيادة الجوية والقصف الجراحي التكتيكي ومهام إخماد أعتى الدفاعات الجوية ـ مقاتلات رافال الفرنسية لأسراب القوات الجوية المصرية، كما سيتم توريد مقاتلات ميغ 29 الروسية بواقع 40 مقاتلة، وهي من أفضل المقاتلات الاعتراضية في العالم، ناهيك عن التعاقد مع الجانب الروسي على توريد مروحيات كاموف التمساح الهجومية الثقيلة، والاهتمام بالنسخة البحرية منها.
وكان للقوات البحرية أيضًا نصيب، فتم إدخال أقوى مدمرة في الشرق الأوسط “تحيا مصر” من طراز “فريم” للخدمة في ألوية المدمرات بالبحرية المصرية، ناهيك عن توريد زوارق أمريكية شبحية هجومية ثقيلة بمدي صواريخ يصل لـ260 كلم من طراز إمباسدور، وأخيرًا الحصول على سفينة الصواريخ الروسية ـ إر32 مولينيا.
كما أتمت البحرية المصرية أقوي صفقة في تاريخها “حاملة الطائرات وسفينة الإنزال البرمائية الفرنسية ميسترال”، التي تعد إضافة قوية للبحرية المصرية، وستعزز تربعها علي عرش شرق المتوسط كأكبر قوة، حيث يبلغ حجم الأسطول البحري المصري 3 أضعاف الأسطول الإسرائيلي، كما تتفوق البحرية المصرية علي التركية كمًا وكيفًا، فتحتل البحرية المصرية المرتبة السابعة عالميًا، بينما التركية تحتل المرتبة الـ 22.
الاهتمام بتحديث البحرية المصرية خاصة وتزويدها بأفضل تسليح يؤكد محوريين هامين، أن اكتشافات الطاقة في المياه الإقليمية المصرية تمت من فترة ليست بالبعيدة – على أقصى تقدير العام الماضي، كما أن الوضع المتوتر جيوي سياسيًا في شرق المتوسط والذي وصل ذروته بعد التحالف بين مصر واليونان وقبرص، يفرض علي القوات البحرية المصرية الاستعداد الكامل لمواجهة أي سيناريوهات، قادمة ما بين النزاع الإقليمي المحتمل أن تبدأه تركيا لأنها لم توقع على قانون البحار 1982 الذي في حال تطبيقه رسميًا بين “مصر و اليونان وقبرص” سيحرم تركيا من مياهها الإقليمية ابتداءً من أقرب جزيرة يونانية لها وصولًا لسواحل قبرص.
لكن تبقى احتماليات النزاع الإقليمي في الحدود البحرية الجديدة شرق المتوسط متساوية لاحتمالات تعرض منشآت الغاز المصرية والقبرصية واليونانية لهجمات إرهابية، وقد أورد نص إعلان نيقوسيا 2015 اهتمامه بهذا الجانب، حيث رمي إلي تعزيز التعاون بين الثلاث قوى “مصر اليونان قبرص” في مجال مكافحة الإرهاب والاستعداد له، والمراقب الجيد، سيرى أن استهداف مقر شركة “إيني” في ليبيا بعد الإعلان عن الاكتشاف له دلالات كثيرة، ليس من التنظيمات الإرهابية، بل ممن يديرها ويمولها ويوظفها لتحقيق أجنداته في المنطقة، مما يتطلب تواجد مكثف للبحرية المصرية وتعزيز التعاون العسكري مع الحلفاء الجدد في المتوسط بمناورات عسكرية وتبادل الخبرات وتعاون استخباراتي معلوماتي قادر على إحباط اللحاق الضرر بالتحالف ومنشآته الحيوية في المتوسط مستقبلًا، والأهم قادر على كبح جماح الاستفزازات التركية بحق جيرانها في المتوسط، ولعل في بدء مناورات “آليكساندربوليس” التي أجرتها وحدات من البحرية المصرية واليونانية قبالة المتوسط ـ العام الماضي ـ رسالة تنبأ بجدية أجندة التحالف الجديد.
إن اليونان التي تحتاج إلى الدعم الإسرائيلي تحتاج أيضًا المحافظة على علاقاتها مع العالم العربي، وتحتاج كذلك إلى عدم إثارة غضب تركيا واستدراجها إلى ردود فعل معادية
رابعًا- مصالح القوى الكبرى
أن اكتشافات الطاقة، في شرق البحر المتوسط، تأثر على مصالح كل من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، الأمر الذي يهدد بتأجيج الصراع في المنطقة، حيث أن قوة العلاقات الروسية مع كل من إسرائيل وقبرص، والتي تعد موسكو الداعم الأكبر لإسرائيل من النفط الخام، كما تُقدر أصول الشركات والأفراد الروسيين في قبرص بنحو 31 مليار دولار عام 2013.
ويُضاف إلى ذلك القرض الروسي لقبرص، والذي أُعيدت هيكلته أخيرًا والمقدر بنحو 3,3 مليار دولار، وتوقيع شركة غاز بروم الروسية في فبراير 2013 على اتفاق لمدة 20 عامًا لشراء الغاز الطبيعي المُسال من حقلي “تمار وداليت” الإسرائيليين، وإبرام شركة “سيوز نفط غاز” الروسية اتفاق تنمية مشترك مع نظام بشار الأسد لاكتشاف مصادر وتأسيس مشروعات تنمية نفطية في المناطق الاقتصادية السورية الخالصة لمدة 25 عامًا بقيمة تبلغ نحو 90 مليون دولار.
وقد أسست روسيا لوجود بحري دائم لها في شرق المتوسط، إذ يوجد لها 16 سفينة و3 مروحيات بحرية وحاملة طائرات، مما يعني استعدادها لمواجهة أخطار محتملة على مصالحها في هذه المنطقة.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية إلى دور شركات البترول الأمريكية لا سيما “نوبل للطاقة” في اكتشاف وإنتاج المصادر الهيدروكربونية في شرق المتوسط، قد أدى بالمصلحة الأمريكية لتحقيق أمن الطاقة في هذه المنطقة، وكذلك أمن البلدان التي تحظى بعلاقة وثيقة معها (إسرائيل والأردن ومصر)، خاصةً في ظل انتقال الصراع إلى سوريا، وتدفق اللاجئين وأنشطة الجماعات الإرهابية.
ولعبت الولايات المتحدة دورًا مهمًا، في إحياء المفاوضات بين قادة اليونان القبرصيين والجماعات التركية القبرصية، بهدف إيجاد تسوية شاملة لمشكلة انقسام الجزيرة القبرصية، حيث يأمل المسئولون الأمريكيون بأن توفر الطاقة حافزًا قويًا لإجراء تقدم في هذه المحادثات بين الجانبين، وأن تسهم في تحقيق المصالحة بين إسرائيل وتركيا، هذا بالإضافة إلى الانتباه الأمريكي لخطورة التواجد الروسي في شرق المتوسط، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تعزز من وجودها هناك.
كما تسعى واشنطن لإنشاء تحالف إقليمي جديد يضم مصر وإسرائيل وتركيا واليونان لتصدير الغاز عبر إنشاء أنابيب إلى دول الاتحاد الأوربي، في إطار محاولات فك اعتماد أوربا تدريجا على صادرات الغاز الروسي، لكن المشروع يصطدم بكثير من الخلافات في منطقة ساخنة وغير مستقرة، وهو لا يزال يبحث عن اتفاقات وضمانات دولية قبل أن يتدفق غاز الشرق الأوسط إلى أوربا.
وتسعى واشنطن لربط مصالح حلفائها المتنافرين لتحقيق تلك الأهداف. وتأتي في إطار ذلك اتفاقات الغاز الإسرائيلي التي تسعى واشنطن من خلالها لخلق مصالح اقتصادية مشتركة بين إسرائيل والدول العربية، حيث وقع الأردن في سبتمبر 2014 اتفاقا مع إسرائيل لشراء الغاز من حقل ليفاثيان على مدى 15 عاما، بقيمة 18 مليار دولار، بعد اتفاق أصغر مع شركة حقل تمارا الإسرائيلي، ومن المتوقع أن يصل الغاز من حقل تمارا إلى الأردن مطلع عام 2016 بعد إنجاز خط الأنابيب.
وتطمح أن تؤدي تلك المصالح الاقتصادية مستقبلًا إلى اتفاقات سياسية، تشمل إعادة النظر في الجغرافيا الاقتصادية للمنطقة، بما فيها ممرات آمنة وخطوط أنابيب للنفط والغاز تربط بين إسرائيل وفلسطين ومصر والأردن في المرحلة الأولى وقد تمتد إلى دول أخرى في المنطقة في مرحلة لاحقة.
وهو ما عبر عنه نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والرؤية الأمريكية لتحالف بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان حول “خريطة الطاقة لشرق المتوسط”، وأشار إلى ثلاثة متغيرات أساسية في شرق المتوسط: حلف طاقوي إقليمي جديد يشمل مصر وإسرائيل وقبرص وتركيا واليونان، لتصدير الغاز إلى أوربا عبر تشييد أنابيب إلى تركيا واليونان ومن ثم دول السوق الأوربية، ثم التوصل إلى حل للمشكلة القبرصية من خلال توحيد الجزيرة على أساس إدارتين منفصلتين (يونانية وتركية)، والإشارة إلى استعداد الرئيس التركي أردوغان للقبول بتوحيدها على رغم اعتراضات الجيش على هذه الخطوة. فقد انتهت الأخطار التي دعت إلى احتلال الجزء الشمالي من الجزيرة عام 1974، بخاصة المخاوف من تهديد اليونان للمصالح التركية في الجزيرة، وإمكان التوصل إلى حلول وسطية إيجابية تتجاوز المخاوف القديمة. وأخيرًا، اهتمام أردوغان بتطوير مصادر الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، لحاجة تركيا الاقتصادية. واعتبر بايدن أن إيصال الغاز الشرق المتوسطي إلى الأسواق الأوربية، جزء مهم في محاولة واشنطن فك اعتماد أوربا تدريجًا على صادرات الغاز الروسي. وقال: أولًا: تتفهم تركيا تمامًا أن ليس من مصلحتها بعد الآن وجود جنودها في قبرص. احتلت تركيا الجزء الشمالي من الجزيرة في 1974 لاعتقاد في حينه بأن اليونان كانت وراء الانقلاب العسكري القبرصي للإضرار بالمصالح التركية في قبرص.
ثانيًا: انفصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن الطرف الأساسي الذي لديه مصلحة في استمرار الاحتلال وهو الجيش.
أتمت البحرية المصرية أقوي صفقة في تاريخها “حاملة الطائرات وسفينة الإنزال البرمائية الفرنسية ميسترال”، التي تعزز تربعها علي عرش شرق المتوسط
ثالثًا: التزم بالاجتماع معي في أنقرة لدرس إمكان تحقيق أمرين، أولهما الوصول إلى حل يقول انه سيوافق عليه، أي جزيرة لمجتمعين ومنطقتين إداريتين (bi-communal bi-zonal island)، وثانيهما أنه بدأ يشعر، وهنا أفضل أن يسأل هو شخصيًا حول هذا الأمر (…) أن هناك مصلحة كبرى لتركيا في الاستفادة من الغاز في شرق المتوسط، ما سيحرر تركيا واليونان من الاعتماد على استيراد الغاز الروسي عبر الأنابيب. فهذه هي الطريقة التي تستعمل فيها روسيا هذا المورد كسلاح.
حيث اجتمع جو بايدن أخيرًا مع كل من القبارصة اليونانيين ومع الإسرائيليين والأتراك. وقال: “هناك فرص جديدة مفيدة بدأت تتضح، الأمور تتغير. فسخرية الأقدار أن اكتشافات حوض غاز الليفانت قد تشكل المحرك لإنهاء الأوضاع الصعبة في قبرص”. وحذر في الوقت ذاته من «الخوض كثيرًا في مشكلات الماضي”، داعيًا للتطلع إلى المستقبل.
لكن، رغم الكلام المتفائل لبايدن، تستمر تركيا في استعمال العصا بدلًا من الجزرة في تعاملها مع محاولات قبرص اكتشاف البترول في مياهها. فقد أرسلت أخيرًا رسالة تعلم فيها جيرانها أنها ستبدأ بين 20 الجاري و30 كانون الثاني (ديسمبر)، إجراء مسح سيزمي في مياه جنوب قبرص. وتشمل هذه المنطقة القطع رقم (1) و(2) و(3) و(8) و(9) من المنطقة الاقتصادية الخالصة للمياه القبرصية. يذكر أن قبرص أعلنت سابقًا أنها ستبدأ الحفر في المنطقة ذاتها وخلال الفترة ذاتها. وبالفعل، بادر “الكونسورتيوم” المكون من شركة “إيني” و”كوغاز” الحفر في الوقت المحدد، وسيستمر في الحفر رغم التحذيرات التركية. ويتوقع إن تستمر هذه «المناوشات» على رغم تفاؤل بايدن، وإلى حين التوصل إلى اتفاق نهائي حول هذا الأمر.
واضح أيضًا، إن القبارصة اليونانيين سيفكرون مليًا بخطورة الاعتماد على خط أنابيب لتصدير الغاز يمر عبر الأراضي التركية، لأنه سيكون تحت رحمة أنقرة في احترام رسوم الترانزيت أو السماح بالإمدادات للوصول إلى السوق الأوربية، آخذين في الاعتبار العلاقات التاريخية المتأزمة بين نيقوسيا وأنقرة، ولا تشجعها على ذلك التجربة الصعبة لتصدير الغاز الروسي عبر أوكرانيا، أو تصدير الغاز العراقي من إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي عبر خط الأنابيب العراقي- التركي.
ويفترض إن يشكل تصدير الغاز المصري والإسرائيلي مع الغاز القبرصي في الأنبوب ذاته، رادعًا لأنقرة في منع الصادرات أو في زيادة تعرفة الترانزيت. لكن تجاربها الأخيرة مع إسرائيل، خصوصًا أثناء عدوانها على غزة، أدى إلى توتير العلاقات بين البلدين، كما إن انحياز أنقرة إلى حركة الإخوان المسلمون أغضب مصر. من ثم، يصبح من الضروري قيام المسئولين في الدول المصدرة الثلاث بالتفكير جديًا في أخطار عبور صادراتهم الغازية عبر تركيا التي أصبحت عنصرًا أساسًا في مشكلات الشرق الأوسط، قبل اتخاذ قرار حول هذه المخططات نظرًا إلى تكاليف تشييد الأنابيب، وأهم من ذلك، الاعتماد الكبير للاقتصاد على ريع الغاز. وستدرس الدول المصدرة ضمانات قد تقدمها لها أنقرة في الالتزام بالاتفاقات، والالتزامات الأميركية في ضمانها، إذا كانت واشنطن مستعدة لذلك.
أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوربي فإنه يرتبط بمنطقة شرق المتوسط لعدة أسباب، منها اشتراك كل من اليونان وقبرص في عضويته، وكون تركيا عضوا مرشحا للانضمام إليه.
وعلى الرغم من أن تنمية مصادر الغاز في شرق المتوسط، يمكن أن يتيح فرصًا للتوسع الاقتصادي لقبرص واليونان، بيد أن عدم التيقن من الاستثمار في البنية الأساسية الضرورية (خطوط الأنابيب أو الغاز الطبيعي المُسال)، وتزايد إنتاج الغاز في أماكن أخرى، والتقلبات في أسواق الطاقة العالمية، يقلل من احتمالية أن يوفر شرق المتوسط الغاز لأوربا في المستقبل القريب.
كما أن التهديدات الأمنية تؤثر على الاتحاد الأوربي أيضًا، حيث تسببت الغارات التركية على المناطق الاقتصادية الخالصة القبرصية في إعاقة المحادثات التركية للانضمام للاتحاد الأوروبي. ومن ثم فإن المصلحة المباشرة للاتحاد الأوربي تكمن في تحقيق الاستقرار السياسي في منطقة شرق المتوسط التي تجاورها مباشرة.
إلا أن كل من قبرص واليونان تضغط على الاتحاد الأوربي لتمويل خط أنابيب غاز من حقول الغاز الإسرائيلية والقبرصية إلى أوربا عبر قبرص، ووفقًا لموقع “والا” الإخباري الإسرائيلي، فإنه خلال اجتماع عقده وزيرا الطاقة في قبرص واليونان مع مسئول عن قطاع الطاقة في الاتحاد الأوربي، ديسمبر 2014، طلبا من الأخير الدفع بمشروع طموح يتم في إطاره مد أنبوب لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى إيطاليا، وكانت الفكرة قد بحثت بين كبار المسئولين الإسرائيليين واليونانيين في عام 2012، لكن تم رفض المشروع بسبب تكلفته الباهظة.
وأخيرًا، فإنه على الرغم من أن تطوير وحماية دول شرق المتوسط لمصالحها النفطية قد زاد من آمال شعوب هذه البلدان، فإنه قد يؤدي إلى تفاعلات بحرية غير آمنة، حيث من الممكن أن يحدث هجوم إرهابي على مؤسسات الطاقة البحرية، كما أن التوترات الجيوسياسية وتاريخ الصراع المسلح بهذه المنطقة وتزايد القوات البحرية يُسهل من إمكانية حدوث مواجهة بحرية، وهو ما يجعل إدارة الصراع يمثل أولوية لكل من دول شرق المتوسط والمجتمع الدولي كافة.
وحيث يشكل عبور أنابيب عبر دول مجاورة، خطرًا على سلامة الإمدادات، والتجارب الشرق الأوسطية مليئة بالتجارب السلبية، بحيث توقف تشييدها. فهل محاولة أمريكا تأسيس تحالفات جديدة، كفيلة بغض النظر عن الأخطار المحتملة؟ وما الضمانات، بخاصة على ضوء التجربة الأوكرانية؟ وهل تستطيع كميات الغاز الشرق الأوسطية المحدودة، التعويض عن الإمدادات الروسية ؟ وهل ستوافق أوربا على الاعتماد على غاز من منطقة غير مستقرة؟
شريف شعبان مبروك
المركز العربي للبحوث والدراسات