نشرت بلومبيرج الأسبوع الماضي تقريرا ينقل عن مسؤولين عسكريين أميركيين وغربيين قولهم إن إيران بدأت بسحب قواتها من سوريا إثر الخسائر البشرية الكبيرة التي تلقتها مؤخرا. ووفقا للخبر نفسه، فإن المصدر الأميركي أشار إلى أن ارتفاع عدد قتلى الجانب الإيراني قد يكون السبب الأساسي الذي دفع إيران لسحب قواتها من سوريا.
ونقل التقرير نفسه عن صحيفة وول ستريت جورنال بأن تقديرات شهر أكتوبر الماضي كانت تشير إلى أن هناك أكثر من 7 آلاف عضو في الحرس الثوري بالإضافة إلى متطوعين آخرين يقاتلون في سوريا إلى جانب النظام، علما أنه وفي نهاية شهر أكتوبر، أشار الجنرال جوزيف دنفورد رئيس هيئة الأركان المشتركة في شهادة له إلى أن هناك أيضا 2000 جندي إيران يقودون القتال لإنقاذ الأسد. أما المعلومات الجديدة (الأميركية والغربية المصدر) فهي تشير كدلالة على انخفاض العدد إلى أن هناك اليوم حوالي 700 عنصر من الحرس الثوري في سوريا فقط (عدد المستشارين العسكريين الإيرانيين لدى النظام السوري ليس من ضمنهم).
الجزء الصحيح من هذا الخبر هو أن خسائر إيران كانت قد تعاظمت وبشكل متسارع خلال الأشهر الثلاثة الماضية وتحديدا بعدما زادت عدد قواتها بالتزامن مع بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا. وفي هذا السياق، يشير تقرير -على سبيل المثال لا الحصر – وثّقه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ونشر في «السورية نت» إلى مقتل 100 مقاتل إيراني في سوريا منذ أكتوبر الماضي وحتى 15 ديسمبر 2015 موثقين بالأسماء والتواريخ ومصدر المعلومة.
أما الجزء غير الصحيح من خبر بلومبيرج المسرّب فهو ذاك المتعلق بسحب إيران لقواتها من سوريا، والغريب في هذا الصدد أن موضوعه قد أثير خلف الأبواب المغلقة قبل أن يجد طريقه إلى الصحافة بشهر كامل تقريبا. وكما في نص الخبر، فإن مصدر الخبر الأساسي قبل النشر كان أميركيا أيضا، وقد تم إطلاع الجانب السعودي عليه قبل جولة من المفاوضات بشأن سوريا، لكن بعد التحقق منه، تبين أنه غير صحيح وفي أحسن الأحوال غير دقيق، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات عن سبب إصرار الجانب الأميركي على الترويج لمثل هذه المعلومات بشكل متعمد خاصة بعد إعادة تمريره للصحافة.
بمعنى آخر، لقد حاول الأميركي أن يضلل الجانب السعودي بشأن التواجد الإيراني في سوريا، وقد تم استخدام الموضوع للضغط على الأطراف التي تعترض على الدور الإيراني في سوريا خلال المفاوضات الدبلوماسية الجارية في الملف السوري. ومن المعروف أن السعوديين كانوا يثيرون موضوع التواجد الإيراني العسكري في سوريا عند كل اجتماع دولي يتعلق بسوريا، وقد سبب هذا الموقف مشكلة للجانب الأميركي أيضا والذي لم يعلن صراحة في أي وقت من الأوقات منذ اندلاع الثورة السورية وحتى اليوم عن ضرورة انسحاب القوات الإيرانية من سوريا أو عن ضرورة محاربة الميليشيات الشيعية التابعة لإيران فيها.
وبمعرفة هذا السياق، يصبح من السهل إدراك أن الهدف الحقيقي لهذا التسريب هو التضليل في محاولة لتليين مواقف الدول المعترضة على دور طهران وميليشياتها كما على سكوت الدول الغربية وعلى رأسهم أميركا على هذا الدور.
والحقيقة أن استغلال واقع سقوط عدد كبير من القتلى الإيرانيين مؤخرا في سوريا من أجل الترويج لانسحاب إيراني «لم يحصل في حقيقة الأمر» مردود عليه، أما دلالة ذلك فهي عكسية، بمعنى أن سقوط هذا العدد الكبير من الإيرانيين هو دليل على زيادة حجم قواتهم المتواجدة في سوريا وليس العكس.
وحتى لو تجاهلنا هذه الحقيقة، فإن متطلبات العمل العسكري الروسي تشير صراحة إلى ضرورة وجود قوات على الأرض، وبما أن ميليشيا الأسد غير قادرة على لعب هذا الدور بمفردها، فإن الجانب الإيراني هو من يغطي النقص الحاصل عبر ميليشياته الشيعية المستقدمة من دول مختلفة وعبر قواته أيضاً بما فيها الحرس والباسيج والجيش، ولذلك فمن غير المنطقي افتراض سحب هذه القوات فيما لا تزال الحملة الروسية جارية.
أما النقطة الثالثة التي يمكننا أن نفند من خلالها هذا الخبر، فهي تتعلق بالحل السياسي. إذا من المعروف أن المعارك على الأرض تشتد عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات وليس العكس، ولذلك فسيكون من الغباء أن نصدق أن الإيراني سحب قواته عند جلوسه إلى طاولة المفاوضات سواء بشكل مباشر أو من خلال الروس. كما أن المنطق يفترض أن إيران لن تسحب أي شيء قبل حصول أحد أمرين، إما ضمان مصالحها وما تريد تحقيقه من خلال المسار السياسي هناك، وإما فشلها بشكل تام ونهائي، وأي منهما لم يحصل بشكل ناجز إلى الآن.
علي حسين باكير
صحيفة العرب القطرية