مع تصاعد التنافس الأميركي – الصيني – الروسي.. من يفوز بأفريقيا؟

مع تصاعد التنافس الأميركي – الصيني – الروسي.. من يفوز بأفريقيا؟

التنافس الثلاثي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا يشتد على أفريقيا لما تملكه من بعد إستراتيجي. كل طرف يسعى لتقديم مزايا تشجع الدول الأفريقية على الانحياز له. وفيما تقوم الصين بمشاريع ذات بعد إستراتيجي خاصة على مستوى البنى التحتية، تلعب روسيا ورقة الدعم العسكري لاسيما للدول المتحررة حديثا من فرنسا. وتحاول واشنطن تغيير إستراتيجيتها للحفاظ على نفوذها.

تنفتح القارة الأفريقية في الوقت الراهن على أدوار متنافسة من جانب العديد من القوى الدولية الكبرى والصاعدة، والتي تحركها الرغبة الجامحة في إيجاد موطئ قدم لها بالقارة الأفريقية، إلى الحد الذي دفع البعض للقول إن القارة أضحت في الوقت الراهن ميدانا لما يمكن تسميته “الحرب الباردة الجديدة”، حيث تتنافس في هذا الميدان كل من أميركا والصين وروسيا تنافسا يتجاوز النفوذ الجيوسياسي والدبلوماسية والاقتصاد على اختلاف أشكاله إلى الوجود العسكري من خلال القواعد العسكرية ومبيعات الأسلحة.

تناول كتاب “قارة المستقبل: كيف يمكن فهم حالة أفريقيا” الأوضاع الداخلية في القارة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا خاصة في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل والجنوب. وخصص الكتاب ثلاثة من فصوله الثمانية لتحليل أدوار أميركا والصين وروسيا داخل القارة، باعتبار هذه الدول من أكثر القوى حضورا في الساحة الأفريقية.

وحرر الكتاب أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا، جامعة القاهرة د. أحمد أمل، وصدر عن مركز إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية بأبوظبي، وساهم فيه عدد من المتخصصين في الشأن الأفريقي.

تغلغل صيني

تكشف الباحثة في العلاقات الدولية جهاد عمر الخطيب في دراستها ضمن الكتاب حجم الهيمنة الصينية في أفريقيا على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية والقوى الناعمة سواء الثقافية أو الإعلامية أو التعليمية.

وللصين حضور قوي في أفريقيا حتى أن الكثير من المراقبين ذهبوا إلى القول بأن بكين أضحت القوة الأجنبية الأكثر هيمنة على القارة.

وتشير الخطيب إلى أن بكين تنتهج ما يمكن تسميته بسياسة “الانخراط الانتقائي” مع الدول الأفريقية، ليس فقط على أساس ما تزخر به تلك الدول من نفط أو موارد طبيعية أخرى، وإنما أيضا من خلال استهداف الدول التي تواجه عقوبات غربية (أميركا والاتحاد الأوروبي) أو الدول المنبوذة، وأبرزها زيمبابوي في فترة حكم روبرت موجابي، والسودان تحت حكم عمر البشير منذ أواخر الثمانينات وطيلة حقبة التسعينات وما تلاها حتى سقوط النظام.

وتوفر بكين بديلا مناسبا لتلك الدول من أجل عقد شراكات وتدفق الاستثمارات والقروض عوضا عن حالة العزلة المفروضة عليها. كذلك يتسم الأداء الصيني في أفريقيا بالقدرة العالية على تحمل المخاطر، ولذا فهو أسبق في الحضور -مقارنة بالاستثمارات الغربية- في عدد من الدول الأفريقية خلال مرحلة “ما بعد الصراع” وإعادة الإعمار، وأبرزها أنغولا والكونغو الديمقراطية وسيراليون وجنوب السودان، والسبب أن الصين تنظر إلى التحديات الأمنية والسياسية في أي دولة أفريقية باعتبارها فرصا يمكن أن تخلق منها أرباحا سياسية واقتصادية.

وتنتقي الصين قطاعات بعينها تشهد عزوفا من قبل المستثمرين الغربيين، وأهمها قطاع البنية التحتية، حتى أصبحت لاعبا رئيسيا في هذا القطاع رغم أن أرباحه غير مجزية في الأجل القصير، لكن تبقى له مكاسبه المالية على المدى الطويل، فضلا عن تحقيقه مكاسب أخرى بصورة عاجلة.

وتضيف الخطيب أنه منذ عام 2009 حتى اللحظة الراهنة حافظت الصين على موقعها كأكبر شريك تجاري لأفريقيا.

ووفقا للتقديرات الصينية الرسمية تستمر معدلات التبادل التجاري بين الجانبين في الارتفاع حتى أصبحت نسبة التجارة الأفريقية مع الصين تمثل ما يربو على 21 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية للدول الأفريقية، وقد تعززت معدلات التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، ويتجلى ذلك في القفزة الهائلة التي حققتها التجارة بين الجانبين اللذين وصلا إلى أعلى قيمة في عام 2022 (282 مليار دولار) بزيادة قدرها 14.5 في المئة عن العام السابق 2021.

وأخيرا بلغ حجم التجارة بين الصين وأفريقيا نحو 113.5 مليار دولار خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023 بزيادة نسبتها 16.4 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها من العام السابق.

◙ عنصر جديد في إستراتيجية روسيا بالقارة الأفريقية، يتلخص في توتير أعصاب الغرب بإقحام نفسها في مجاله الحيوي

وتلفت الكاتبة إلى أن القارة الأفريقية كان لها النصيب الأكبر من إسهامات بكين في عمليات حفظ السلام الأممية، وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن ما يربو على 80 في المئة من قوات حفظ السلام العسكرية الصينية متمركزة في أفريقيا.

كما أن 75 في المئة من إجمالي المساهمات المالية التي تقدمها الصين في عمليات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة موجهة إلى عمليات قوات حفظ السلام المتمركزة في أفريقيا، فضلا عن ذلك دشنت الصين نحو 10 مشروعات في مجال الأمن والسلم في إطار الخطة الثلاثية الأولى لـ”رؤية التعاون الصيني – الأفريقي 2035″ التي أعلنها الرئيس الصيني شي جينبينغ إبان افتتاح المؤتمر الوزاري الثامن لمنتدى “فوكاك” في نوفمبر 2021.

وتستهدف المشروعات الصينية في هذا الشأن تقديم الدعم العسكري والتقني للاتحاد الأفريقي، ودعم جهود الدول الأفريقية لتعزيز الأمن الإقليمي ومحاربة الإرهاب، إلى جانب إجراء تدريبات مشتركة بين قوات حفظ السلام الصينية والأفريقية، والتعاون في مجال مراقبة الأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة.

وتنامت الصادرات الصينية من الأسلحة إلى الدول الأفريقية بشكل ملحوظ على مدار العقدين الماضيين، واستطاعت بكين أن تخلق أسواقا لأسلحتها في عدد من الدول الأفريقية، ولا يتوقف الأمر عند تعزيز الصين صادراتها من الأسلحة فحسب، بل يتجاوزه إلى تعزيز التدريبات العسكرية المشتركة، والانتشار الواسع لشركات الأمن الصينية الخاصة والتي تمنح بكين موطئ قدم في القارة.

منافسة روسية

تناولت التأثير الروسي في القارة الأفريقية بالتحليل آية النويهي، الباحثة المتخصصة في الشؤون الأفريقية، التي ترى أن ممارسة روسيا لمظاهر الحضور في القارة الأفريقية لا تعد هدفا في ذاته، بل هي عامل مساعد لتحقيق هدفين مهمين للسياسة الخارجية الروسية، أولهما: تحقيق مكاسب داخلية على مستوى الاقتصاد والهيمنة وإبراز المكانة، وثانيهما: تحقيق مكاسب إقليمية ودولية من خلال دعم ومساندة الحلفاء وإحياء الشراكات القديمة وتشكيل خارطة من العلاقات الجديدة تخدم المصالح الروسية في المقام الأول.

وتوقفت النويهي في دراستها عند أبعاد الدور الروسي مركزة على أهم القضايا ذات الأولوية المصاحبة لهذا الدور، ومنها الهيمنة على قطاع الطاقة، والتوسع في مبيعات الأسلحة وتعزيز المكانة الاقتصادية في مجال الثروات الطبيعية، والاستفادة من الفرص التي تتيحها الأزمات الداخلية للدول الأفريقية، واحتلال مكانة مؤثرة في قضايا بناء السلام في أفريقيا وتبوّؤ مكانة مركزية بين مصدري الغذاء.

كما استعرضت الأدوات والوسائل التي استعانت بها روسيا لتيسير مهمتها في بسط النفوذ وتعزيز الهيمنة وكسب الحلفاء، كالأدوات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والتنموية.

وترى النويهي أن الوجود الروسي في القارة الأفريقية يعد بمنزلة ورقة رابحة قد تمكن الدول الأفريقية من مساومة القوى الغربية بشأن قضاياها؛ فمثلا، اتبعت الكثير من الدول الأفريقية سياسة عدم الانحياز بدلا من وضع نفسها في المعسكر الغربي والروسي. وبدلا من ذلك يبدو أن المزاج السائد هو رغبة أفريقيا في تأكيد نفسها على المستوى الدولي، من خلال تجنب التحول إلى مجرد “مفعول به” في المنافسة العالمية بين القوى العظمى.

وفي هذا السياق أجرت دولة جنوب أفريقيا مناورة بحرية تحت اسم “موسي 2” مع روسيا والصين في فبراير 2023، وهو تكرار للتدريبات نفسها من عام 2019.

ويظهر عنصر جديد في إستراتيجية روسيا في القارة الأفريقية يتلخص في محاولاتها توتير أعصاب الغرب من خلال إقحام نفسها في مجاله الحيوي، وصرف الأنظار بعيدا عن أوكرانيا، خاصة أن أوروبا سوف تصبح عرضة بشكل متزايد للهجرة من أفريقيا وعدم الاستقرار الأمني فيها.

ومن خلال الوجود الروسي في القارة تستطيع روسيا استغلال ضعف أوروبا. وإذا لزم الأمر فستحض على أزمات يمكن لروسيا من خلالها اكتساب النفوذ وأوراق المساومة مع أوروبا والغرب الأوسع. ورغم أن نوايا روسيا تظل غير مؤكدة، فإن الزعماء الأفارقة يتمتعون بالقدرة على إملاء شروط التعاون، ويصرون على المعاملة بالمثل وتحقيق تقدم ملموس لمواطنيهم.

وتخلص النويهي إلى أنه على الرغم من الجهود التي تبذلها روسيا للتمدد في القارة الأفريقية؛ إلا أن هناك تباينا بين المتحقق والمأمول.

هيمنة أميركية

تحلل ياسمين أيمن، الباحثة في العلوم السياسية ومنسقة بإدارة العلاقات الخارجية في البرلمان العربي، أبعاد الدور الأميركي في أفريقيا، مؤكدة أن استمرار أميركا في النظر إلى القارة الأفريقية كوسيلة للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في إطار سباقها مع بكين وموسكو داخل القارة، دون أن يتم التعامل مع دول القارة كشريك حقيقي، يحمل تداعيات سلبية.

وبالرغم من أن الإستراتيجية أكدت رغبة واشنطن في بناء شراكة حقيقية، فإن ذلك لم يترجم بشكل حقيقي على أرض الواقع، وهو ما قد يكون ذا عواقب وخيمة على العلاقات الأميركية – الأفريقية على غرار ما حدث مع فرنسا، التي اتهمتها بعض دول الساحل الأفريقي بالتعامل معها بنظرة استعلائية وعدم بذل الجهد لتحقيق تنمية ملموسة، مما كان سببا في زيادة الرغبة في التخلص من الوجود الفرنسي من قبل بوركينا فاسو ومالي والنيجر.

وترى أنه بعد أن هيمنت أميركا على قيادة النظام العالمي لنحو ثلاثة عقود منذ نهاية الحرب الباردة، بدا أن هذا الوضع قد تغير مع النشاط الملحوظ من جانب كل من الصين وروسيا داخل مختلف أنحاء العالم، وبدأت الإدارات الأميركية منذ فترة ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما في التركيز على ظاهرة التنافس مع القوى العظمي، لاسيما موسكو وبكين.

وتتزايد تخوفات إدارة الرئيس الحالي جو بايدن من دور الصين بصورة بارزة بسبب رغبتها في تغيير قواعد النظام الدولي، وفقا لآراء المسؤولين الأميركيين؛ حيث صرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في خطاب له بشأن إستراتيجية واشنطن حيال بكين بأن “الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية إعادة تشكيل النظام الدولي، وأنها على نحو متزايد تلجأ إلى القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك”.

وفي السياق ذاته، وتحديدا في 12 أكتوبر من عام 2022، أصدرت الإدارة الأميركية إستراتيجية الأمن القومي لعام 2022، والتي أكد الرئيس بايدن في مقدمتها أن واشنطن ستتغلب على المنافسين الجيوسياسيين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، وستستخدم في سبيل ذلك كافة الأدوات والوسائل المتاحة لديها، بما في ذلك تعزيز التعاون مع الحلفاء في مختلف المناطق.

العرب