توجد حاليا أسئلة كثيرة تفرضها حرب غزّة التي يتأكد في كلّ يوم أنّها ستغيّر طبيعة المنطقة على غرار ما غيرها الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. من بين هذه الأسئلة تلك المتعلّقة بمستقبل إسرائيل من جهة وطبيعة علاقتها بالولايات المتحدة ودول المنطقة من جهة أخرى.
يمكن اعتبار حرب غزّة حدثا يساوي في أهمّيته التغيير الذي فرضه الأميركيون في العراق والمنطقة بعدما قررت إدارة جورج بوش الابن في 2003، من حيث تدري أو لا تدري، تقديم هذا البلد العربي المحوري إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران على صحن من فضّة. حصل ذلك عن طريق تسليم الحكم في العراق إلى ميليشيات مذهبيّة عراقيّة تابعة لـ“الحرس الثوري” الإيراني في معظمها. دخلت هذه الميليشيات بغداد على دبابة أميركيّة وراحت بعد ذلك تعتبر نفسها “مقاومة” للوجود الأميركي في العراق.
لا يمرّ يوم، خصوصا في ظلّ حكومة محمد شيّاع السوداني، إلّا ويؤكد العراق أنّه مجرد غطاء للسياسة الإيرانية في المنطقة. لا حاجة إلى الذهاب إلى الهجوم الذي شنته إحدى الميليشيات العراقية على السفارة الأميركية في بغداد أو إلى قصف ميليشيات من “الحشد الشعبي” قواعد أميركية في العراق أو في سوريا… أو حشود “الحشد” على الحدود الأردنيّة. يمكن الذهاب إلى ما هو أعمق من ذلك. ففي القمة العربيّة – الإسلامية التي انعقدت في تشرين الثاني – نوفمبر من العام الماضي في الرياض، اعترض الجانب العراقي على خيار الدولتين بديلا من الاعتراض الإيراني على الدعوة إلى اعتماد هذا الخيار!
◙ أكثر من أي وقت، تظهر الحاجة إلى تغيير في إسرائيل، وهو تغيير تفرضه الحاجة إلى السياسة وإلى صفات قيادية تفتقدها إدارة جو بايدن… وليس إلى المزيد من العنف والدمار
بالمختصر المفيد، اختلف التوازن الإقليمي في المنطقة كلّها في ضوء استيلاء إيران على العراق، بل يمكن الحديث عن اختلال حقيقي في التوازن بعدما اخترقت إيران العالم العربي، أو العوالم العربيّة القائمة، من خلال وجودها في العراق وهيمنتها على القرار فيه. استطاعت “الجمهوريّة الإسلاميّة” التخلص من كلّ صوت عراقي كان يقول إن إيران هي إيران والعراق هو العراق، خصوصا في ضوء كلّ الخدمات التي قدّمها لها رجل الدين العراقي مقتدى الصدر الذي أساء التصرّف بعد فوز مناصريه في الانتخابات النيابيّة الأخيرة في العام 2021. فتح مقتدى الصدر بفضل سوء تصرّفه الأبواب كلّها أمام سيطرة نهائيّة لإيران على العراق عبر “الحشد الشعبي” والحكومة القائمة.
في حرب غزّة، تبدو إيران حاضرة أكثر من أي وقت. يكشف ذلك ما يفعله الحوثيون في البحر الأحمر وما يفعله “حزب الله” في جنوب لبنان مباشرة أو عبر مجموعات من صنعه تعلن مسؤوليتها عن عمليات تستهدف إسرائيل. الأهمّ من ذلك كلّه، أن حرب غزة أوصلت المنطقة كلّها إلى المزيد من اللاتوازن، بما في ذلك العلاقة الأميركيّة – الإسرائيلية.
مهما فعل بنيامين نتنياهو، الذي يعتقد أنّ إطالة الحرب على الشعب الفلسطيني ستكتب له حياة سياسيّة جديدة، لا يمكن الاستخفاف بما فعله اليمين الإسرائيلي من خلال مراهنته على “حماس” لضرب المشروع الوطني الفلسطيني. هناك ما تغيّر في العمق في العلاقة الأميركيّة – الإسرائيليّة بغض النظر عن وجود إدارة حائرة لا تمتلك القدرة على لعب دور قيادي في الشرق الأوسط والخليج وفي إسرائيل نفسها. فقدت إسرائيل قوة الردع التي كانت تتباهى بها بعدما عرّاها “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول – أكتوبر الماضي، أي قبل ما يزيد عن مئة يوم. باتت إسرائيل تخوض حاليا حربا من دون أفق سياسي وهي في حاجة إلى السلاح الأميركي والذخائر الأميركية لمتابعة هذه الحرب التي دمّرت غزّة على رؤوس أهلها، لكنها لم تدمّر “حماس” نهائيا.
لا يكفي الكلام الكبير الصادر عن “بيبي” لتبرير الفشل الإسرائيلي في التعاطي مع الموضوع الفلسطيني ومع قضيّة هي قضيّة شعب موجود على الخريطة السياسيّة للمنطقة أكثر من أي وقت. القضيّة قضيّة شعب وليست قضيّة “حماس” التي لم تهتمّ يوما سوى بالمشروع السياسي للإخوان المسلمين الذي يلتقي في محطات كثيرة مع المشروع التوسّعي الإيراني. قال رئيس الحكومة الإسرائيلية أخيرا في معرض تبرير فشله وفشل إسرائيل “سنستمر في الحرب إلى النهاية، حتّى تحقيق النصر النهائي وتحقيق كل أهدافنا، أي إنهاء ‘حماس’ واستعادة الرهائن والعمل من أجل ألّا تشكل غزة يوما تهديدا لإسرائيل”. مثل هذا الكلام غير الواقعي لا يمكن أن يبرّر الفشل الذي لا مفرّ من تسميته باسمه.
◙ مهما فعل بنيامين نتنياهو الذي يعتقد أنّ إطالة الحرب ستكتب له حياة سياسية جديدة لا يمكن الاستخفاف بما فعله اليمين الإسرائيلي من خلال مراهنته على “حماس” لضرب المشروع الوطني الفلسطيني
يحرج مثل هذا الكلام جو بايدن وإدارته كما يكشف أن إسرائيل غير مهتمة بإقامة علاقات جيدة مع محيطها العربي الذي لا يتحمل ممارساتها في غزّة حيث سقط 24 ألف قتيل فلسطيني في مئة يوم وحيث بات يوجد ما يزيد عن مليون ونصف مليون مهجّر فلسطيني. لكنّ السؤال يبقى ما الذي ستكون عليه المنطقة في مرحلة ما بعد حرب غزّة؟
هل تعيش الملاحة الدولية في البحر الأحمر تحت رحمة الحوثيين في اليمن، أي تحت رحمة إيران التي تريد خنق قناة السويس متذرعة بحرب غزة؟ ماذا عن لبنان هل يتكرس الاحتلال الإيراني للبنان الذي يعبر عنه امتلاك “حزب الله” لقرار الحرب والسلم في البلد؟ ماذا عن التوازن الإقليمي ككل؟
يبدو واضحا أنّ المنطقة ما زالت تعيش في ظلّ آثار الزلزال العراقي الذي وقع في العام 2003 وتداعيات هذا الزلزال. كان ذلك حدثا مفصليا إلى درجة أن إيران صارت في السنة 2024 تفاوض باسم المنطقة فيما إسرائيل تلعق جروحها التي تسببت بها حرب غزّة والإصرار على الاستمرار فيها “إلى النهاية” كما يقول بنيامين نتنياهو مدفوعا بحاجته إلى تفادي استحقاقات داخليّة يمكن أن تودي به إلى السجن!
أكثر من أي وقت، تظهر الحاجة إلى تغيير في إسرائيل، وهو تغيير تفرضه الحاجة إلى السياسة وإلى صفات قيادية تفتقدها إدارة جو بايدن… وليس إلى المزيد من العنف والدمار.