أكدنا مرارا أن الأمن القومى العربى كل لا يتجزأ، وأنه حاصل جمع الأمن الوطنى للدول العربية أعضاء جامعة الدول العربية والشركاء فى النظام الإقليمى العربي، وقد بنى نظام الأمن القومى العربى منذ إنشاء الجامعة عام 1945حيث نصت المادة السادسة من ميثاقها على أنه إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة أو خشى وقوعه فللدولة المعتدى عليها أو المهددة بالاعتداء أن تطلب دعوة مجلس الجامعة للانعقاد لاتخاذ التدابير اللازمة لدفع هذا العدوان.
وقد مثل هذا النص جوهر نظام الضمان الجماعى العربى والذى تطور إلى الدفاع المشترك فى معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى بين الدول العربية عام1950، حيث نصت المادة الثانية فيها على أن: تعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أى دولة أو أكثر منها أو على قداتها اعتداء عليها جميعا، ولذلك وأنه عملا بحق الدفاع الشرعى (الفردى والجماعي) عن كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أوالدول المعتدى عليها وبأن تتخذ جميع التدابير بما فيها القوة المسلحة لرد الاعتداء، ولهذا تم إنشاء لجنة عسكرية دائمة من ممثلى هيئة أركان جيوش الدول العربية لتنظيم خطط الدفاع المشترك كما تم إنشاء مجلس الدفاع المشترك بين الدول العربية هذا فضلا عن إنشاء المجلس الاقتصادى للدفع بالتعاون الاقتصادى إلى مرحلة الاندماج.. وهكذا كان الآباء المؤسسون على وعى تام بالترابط الوثيق فى بناء الأمن القومى بين القدرات العسكرية والتعاون الاقتصادى وأيقنوا منذ البداية بحتمية الحفاظ على الأمن القومى العربى لأنه يضمن وحده وسلامة أراضى كل دولة عربية، وهو ما تجلى فى حرب 1973 ضد إسرائيل.
ومع تطورالنظام الدولى بصورة مجحفة للدول العربية والدول النامية بصورة عامة، انتهى الأمر بعدة تطورات تمس صميم الأمن القومى العربى فمن ناحية تعرضت ثلث الدول العربية للفشل أو وقوفها على أعتاب الفشل، ومن ناحية أخرى تزايد النفوذ العسكرى الأجنبى وخصوصا الأمريكى إما فى شكل احتلال أو قواعد عسكرية بالاتفاق على ثلث الدول العربية، مما أفقدها جزءا من سيادتها الوطنية، وصارت الأراضى السورية والعراقية واليمنية والمياه الإقليمية العربية فى بعض المحاور الإستراتيجية مثل باب المندب مستباحة ومعرضة للمخاطر والتهديدات الأجنبية، ومن ناحية ثالثة، وظفت إيران التوسع المذهبى لزيادة نفوذها فى عدد غير قليل من الدول العربية بصورة تهدد الاستقرار الداخلى وهو حجر الزاوية فى الأمن الوطني، كما بدأت فى الظهور مبادرات أمنية تجب الأمن القومى العربى وتدعو إلى ترتيبات إقليمية تضم إليها إسرائيل وبذلك يتغير مفهوم الوطن العربى المستقر من عام 1945إلى مفهوم غير عربى يهدد بالضرورة أمن واستقرار الأمة العربية، ولقد أظهرت الحرب الإسرائيلية الشرسة وغير العادلة وغير المتكافئة والمدمرة ضد الشعب الفلسطينى فى غزة حقيقة عسكرية ربما كانت متوارية ألا وهى حشد الأساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية فى شرق المتوسط والدعم المالى والعسكرى غير المحدود لإسرائيل، هذا الحشد ليس لحماية إسرائيل فقط وإنما لردع أية محاولات عربية لمساندة الشعب الفلسطينى من محاولة تصفيته وتهجيره، واحتلال إضافى لأراضيه، وربما يكون مهماً النظر إلى هذا الحشد والدعم غير المحدود لإسرائيل فى حربها ضد حماس وهى لاتعدو أن تكون منظمة شبه عسكرية وليست دولة، هذا الحشد والدعم غير المحدود رسالة جلية إلى الدول العربية بأن أمن إسرائيل مرتبط عضوياً بأمن الولايات المتحدة الأمريكية وأمن أوروبا، وأن هذه القوى على أهبة الاستعداد للتخلى عن أية ترتيبات مع الدول العربية فى حالة الاختيار بينها وبين إسرائيل.
الذى نشاهده اليوم فى غزة رسالة للدول العربية والقادة العرب بأن الأمن القومى العربى مسئولية عربية صرفة، وأن مصالح الدول الكبرى المتواجدة فى المنطقة تتعارض بشدة مع مصالح الدول العربية وأن تحويل إيران إلى مصدر التهديد الرئيسى للأمن القومى العربى وتحييد التهديد الإسرائيلى لا يخدم المصالح الوطنية أو القومية العربية، فعلى الرغم من أن إيران تهدد الأمن الوطنى ومن ثم القومى لدول عربية عديدة إلا أن التهديد الرئيسى مازال متمثلا فى إسرائيل وسياساتها التوسعية المعلنة للجميع، فإسرائيل كيان بلا حدود موثقة سوى حدود 1967 وهى لا ترضى بها، والحدود مع مصر والتى لا يمكن أن تتخطاها، بيد أن حدود التوسع الإسرائيلى لا حدود له.
ترتيباً على ما سبق ودرءًا للمخاطر الراهنة والتهديدات المحتملة للأمن القومى العربي، يصير السؤال الملح هو كيف يمكن للدول العربية والقادة العرب رأب الصدع وتكتيل الهمم من أجل حماية الأمة العربية وصيانة مواردها والحفاظ على أمنها؟.
لا شك أن تفعيل وتطوير معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى يشكل الخطوة الاستباقية الحتمية لمواجهة مصادر التهديد سواء تمثلت فى إسرائيل أو دول الجوار غير العربية أو الدول الكبرى الطامعة فى الموارد العربية، كما أن تشكيل جيش عربى فى إطار مجلس الدفاع المشترك على شاكلة جيش الناتو يعد خطوة لا غنى عنها فى حالة تحول التهديدات إلى عدوان عسكري، فإن أضفنا مبادرات عربية نحو التكامل الاقتصادى لاكتملت منظومة الأمن القومى العربي.
د. عبدالمنعم المشاط
صحيفة الأهرام المصرية