في غزة ولبنان وغيرهما، تواصل باريس تفضيل المقاربة المتعددة الأطراف التي تضم شركاء إقليميين رئيسيين، على الرغم من أنها تتفهم الدور البالغ الأهمية الذي تلعبه واشنطن في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
في 28 كانون الثاني/يناير، استضافت باريس محادثات بين مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وقطريين ومصريين بشأن صفقة مقترحة لإطلاق سراح المزيد من الرهائن وتطبيق هدنة طويلة المدى. وكان هذا الحدث مثالاً جيداً على دور فرنسا في أزمة غزة وهو: مد الجسور بين الجهات الفاعلة الغربية والشرق أوسطية على الرغم من نفوذها المحدود على أرض الواقع. ومع تطور الحرب بين “حماس” وإسرائيل وغيرها من الأزمات، هل تتمكن فرنسا من أن تصبح إحدى الدول الأوروبية القليلة التي تحجز لنفسها مكاناً في المشهد الدبلوماسي الإقليمي؟
فهم “تأرجح البندول”
تَعرّضَت المقاربة التي اتبعتها فرنسا في التعامل مع أزمة غزة لانتقاداتٍ من كلا الجانبين. فقد استنكر بعض المراقبين المسار الذي يرون أنه يزداد تأييداً لإسرائيل، بينما اتهم آخرون باريس بالخروج من صف الغرب. ومن جانبها، تدعو فرنسا إلى تبني “موقف متوازن” يقوم على ثلاث ركائز هي الأمنية والإنسانية والسياسية.
قبل مطلع هذا القرن، كان المسؤولون الفرنسيون يركزون على إقامة علاقات مميزة مع العالَم العربي، في زمنٍ لم يكن فيه هذا العالَم منقسماً وضعيفاً كما هو الحال اليوم. وقد خضعت هذه السياسة لتدقيق متزايد في أوائل العقد الأول من القرن الحالي في عهد الرئيس جاك شيراك. وعلى الرغم من أنه حافظ على عدة جوانب من نهج التحالف مع العرب (على سبيل المثال، معارضة غزو العراق عام 2003)، إلا أنه سعى أيضاً إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل – وهو الجهد الذي أكد عليه الرئيس نيكولا ساركوزي.
وأدى تضامن فرنسا الثابت مع إسرائيل بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى تأكيد الطبيعة الدائمة لهذا التوجه الاستراتيجي. وما دفعها أيضاً إلى إظهار الدعم السياسي وتنفيذ إجراءات لمكافحة الإرهاب هو واقع كون 41 مواطناً فرنسياً من بين ضحايا الاعتداء، ولا يزال هناك ثلاثة محتجزين من بين الرهائن. وعلى وجه التحديد، ركزت باريس على فرض عقوبات على “حماس”، وشمل ذلك إطلاق مبادرة “الاتحاد الأوروبي” مع إيطاليا وألمانيا لتشكيل نظام أوروبي يستهدف قادة الحركة.
وفي الوقت نفسه، كانت فرنسا أول دولة غربية كبرى تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. ففي “الأمم المتحدة”، صوتت لصالح القرارين البرازيلي والإماراتي بشأن هذا الموضوع، على الرغم من استخدام الولايات المتحدة حق النقض على هذين القرارين. كما وافقت على القرارين الأردني والمصري اللذين تبنتهما “الجمعية العامة للأمم المتحدة”، على عكس بعض الدول الأخرى في “الاتحاد الأوروبي”.
بالإضافة إلى ذلك، شدد المسؤولون الفرنسيون بشكلٍ متزايدٍ على أن اتخاذ خطوات نحو إقامة دولة فلسطينية هو أمرٌ لا بد منه لأي تسوية سياسية في “اليوم التالي” بعد انتهاء حرب غزة. كما أدانوا تصريحات الوزيرين الإسرائيليين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير التي تدعو إلى التهجير القسري للفلسطينيين، وإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في غزة، وبناء 1800 وحدة استيطانية في القدس الشرقية.
وسعت فرنسا إلى الاضطلاع بدورٍ نشطٍ على الجبهة الإنسانية أيضاً. ففي 9 تشرين الثاني/نوفمبر، نظمت المؤتمر الإنساني الدولي الأول لغزة، وزادت بشكلٍ كبيرٍ مساعداتها الأحادية إلى ما مجموعه 100 مليون يورو لعام 2023، من بينها 77 مليون يورو لمؤسسات الأمم المتحدة.
ولتفسير هذا التأرجح الواضح بين تقديم الدعم الكامل لإسرائيل واتباع “نهج أكثر عدالة”، لاحظ بعض المراقبين واقع كَون المجتمعين اليهودي والمسلم في فرنسا من بين أكبر المجتمعات في أوروبا. ومع ذلك، يمكن فهم تصرفات فرنسا أيضاً على أنها بمثابة تكتيك دبلوماسي متعمد يهدف إلى إبقاء القنوات مفتوحة مع أكبر عدد ممكن من الجهات الفاعلة.
التركيز القوي على الشركاء الإقليميين
بهدف ضمان كفاءة عملية صنع السياسات الفرنسية وشرعيتها في الشرق الأوسط وتجنب تغذية سردية “الغرب مقابل بقية العالَم”، لطالما فضلت باريس المبادرات والصيغ التي تشمل الجهات الفاعلة الإقليمية. ففي لبنان، على سبيل المثال، عملت بشكلٍ وثيقٍ مع مصر وقطر والسعودية للتوسط في الأزمات السياسية المتكررة، وغالباً ما تم ذلك بالتشاور مع الولايات المتحدة. وفي أعقاب الانفجار المدمر في مرفأ بيروت عام 2020، دخلت باريس في شراكة مع الرياض لإنشاء آلية إنسانية مشتركة.
ومن المؤكد أن فرنسا انضمت إلى الحلفاء الغربيين في التوقيع على عدة إعلانات مشتركة فور نشوب هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لكنها سرعان ما عادت إلى نمطها المفضل المتمثل في المشاركة الإقليمية. ففي 22 تشرين الثاني/نوفمبر، استقبل الرئيس ماكرون وزراء خارجية دول “الجامعة العربية” ووفداً من “منظمة التعاون الإسلامي”. كما قام ماكرون ووزيرا الخارجية والقوات المسلحة برحلات متعددة إلى المنطقة، وأجروا مكالمات هاتفية مع مختلف القادة، من بينهم الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
وأعطت المساعدات الإنسانية بُعداً ملموساً لعملية التواصل هذه، لا سيما مع الأردن وقطر. ففي كانون الثاني/يناير، رتبت الدوحة وباريس عمليات تسليم أدوية لرهائن غزة، وهو ما يُعد تقدُّماً نادراً تم إحرازه في المحادثات غير المباشرة بين إسرائيل و”حماس”. علاوةً على ذلك، تقوم القوات العسكرية الفرنسية بتنسيق علاج المدنيين الفلسطينيين المصابين مع قطر، بما في ذلك عمليات الإجلاء الطبي إلى الدوحة. وشاركت فرنسا مع الأردن في تنفيذ عمليات مشتركة للإسقاط الجوي، نظراً للقيود الشديدة المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. كما تدعم المستشفى الميداني التابع للمملكة في خان يونس.
علاوةً على ذلك، أكد موقف فرنسا تجاه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في البحر الأحمر على إحجامها عن الانحصار في صيغ غربية علنية. فقد ذُكرت باريس من بين الدول المشارِكة في “عملية حارس الازدهار”، التي تهدف إلى مواجهة التهديدات المتصاعدة ضد الشحن التجاري على طول طرق التجارة الإقليمية الحيوية. إلا أن قواتها لم تشارك في ضربات الدول المتحالفة ضد أهداف الحوثيين في اليمن. وفي الوقت نفسه، دعا الرئيس ماكرون إلى زيادة التعاون في مضيق هرمز والبحر الأحمر خلال قمة “المجلس الأوروبي” في كانون الثاني/يناير، ومن المرجح أن يتم نشر مهمة بحرية تابعة “للاتحاد الأوروبي” قريباً – على الرغم من الأهداف المدروسة التي تعكس الحذر الذي أبدته باريس وروما وغيرهما من عواصم “الاتحاد الأوروبي” الأخرى بشأن هذه القضية.
خيارات للتعاون الفرنسي الأمريكي
بغض النظر عن التحفظات، تدرك فرنسا جيداً أن الولايات المتحدة تحمل مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط. ونظراً لأن الهدنة في غزة قد تكون في متناول اليد، مما قد يفسح المجال لدبلوماسية أوسع نطاقاً في مختلف أنحاء المنطقة، فبإمكان باريس وواشنطن أن توحّدا جهودهما بطرق متعددة.
على سبيل المثال، يبدو أنهما تتفقان على إعادة “السلطة الفلسطينية” إلى غزة وإحياء حل الدولتين على المدى الطويل، على الرغم من خلافاتهما حول وقف إطلاق النار وشكوكهما بشأن اليوم التالي. ومع ذلك، قد لا تنظر واشنطن إلى فرنسا كجهة فاعلة رئيسية في هذه القضايا. وبالتالي، يمكن أن تستفيد باريس من علاقاتها الممتازة مع السعودية، التي ستؤدي عملية صنع القرار التي تتخذها الرياض دوراً رئيسياً في صياغة مستقبل المنطقة. على سبيل المثال، يمكنهما الضغط من أجل إحياء حل الدولتين كجزءٍ من استراتيجية أوسع نطاقاً تهدف إلى مواجهة إيران.
وعلى المدى القصير، بإمكان فرنسا والولايات المتحدة تنسيق جهودهما بشأن لبنان بشكلٍ مفيد للغاية. فهما تتفقان على ضرورة تجنب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله”. وبناءً على ذلك، سعتا إلى إنشاء تسوية مؤقتة جديدة على الحدود، تتضمن انسحاب “حزب الله”، وبعض الترتيبات المرتبطة بالأراضي بين لبنان وإسرائيل، والجهود المبذولة لتعزيز دور “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) والجيش اللبناني.
وفي الواقع، تمتلك باريس عدة أدوات نفوذ في لبنان. أولاً، لديها 700 عنصر من ذوي الخوذات الزرقاء على الأرض كجزءٍ من قوات “اليونيفيل”، وهي الجهة المسؤولة عن القضايا اللبنانية في “مجلس الأمن”. ثانياً، تكثفت مشاركتها الطويلة الأمد في العملية السياسية للبنان منذ انفجار مرفأ بيروت والأزمات اللاحقة. كما أن فرنسا والولايات المتحدة عضوان في المجموعة الخماسية، المؤلفة من خمس دول (من بينها مصر وقطر والسعودية) التي تعمل على تسهيل عملية تعيين رئيس الجمهورية، وهذه العملية لا تزال معلقة بعد مرور نحو عامين على الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وفي المرحلة القادمة، يجب أن يتمثل الهدف في ضمان أن الوساطة التي تقودها الولايات المتحدة تمنح النخب الحاكمة في بيروت حافزاً لملء الفراغ بدلاً من تقديم ذريعة أخرى لتبرير المأزق الراهن. وهذا أمر بالغ الأهمية لأن الرئيس اللبناني الجديد يمكن أن يسهّل تنفيذ الجهود الدبلوماسية الأوسع نطاقاً – وهي فرصة ستضيع إذا سئمت واشنطن من الخدع السياسية في بيروت وقررت إنفاق طاقتها حصرياً على اتفاق حدودي.
وفي دول أخرى، يمكن أن تتعاون فرنسا والولايات المتحدة في صياغة نهاية مهمة التحالف ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” – وتحديداً داخل العراق، حيث لفرنسا أيضاً قوات على الأرض. وقد رحبت باريس بالحوار الأمريكي العراقي حول هذا الموضوع، وأعربت عن استعدادها لزيادة التعاون العسكري الثنائي مع بغداد. كما تدرك أهمية التنسيق بين فرنسا والولايات المتحدة بشأن إدارة المرحلة الانتقالية وإعادة تحديد الأهداف الاستراتيجية في العراق.
ولا تزال معالجة المسألة المتعلقة بالأنشطة النووية الإيرانية في غاية الأهمية أيضاً؛ فهذه الأنشطة لم تتوقف أبداً عن كونها أولويةً بالنسبة للمسؤولين الفرنسيين، الذين لطالما نصحوا بعدم اتباع المقاربة التي تعتبر أن “غياب الصفقة يعني غياب الأزمة”. ومع ذلك، مع اقتراب ولاية الرئيس بايدن الحالية من نهايتها، قد تكون الفرصة الزمنية المتاحة للحليفين محدودة من أجل التعاون بشكلٍ ملحوظٍ في جميع هذه القضايا، لأنه من السابق لأوانه تقييم عواقب السياسة الخارجية الناتجة عن أي تغيير محتمل في الإدارة الأمريكية.