إيران والصبر الاستراتيجيّ من الغازيّة إلى سوريا

إيران والصبر الاستراتيجيّ من الغازيّة إلى سوريا

ما خفيَ وراء استيعاب الضّربات الإسرائيلية من قبل الحزب وإيران أعمَق وأشمل. هو الصبر الاستراتيجي الذي يمارسه الحزب وإيران بمواجهة العدوان.

لم يحدُث منذ عام 2006 أن استهدَف سلاح الجوّ الإسرائيليّ منشآت على بُعد 50 كلم عن الحدود. أثناء هذه المعركة المُستمرّة بين الحزب وإسرائيل منذ 8 تشرين الأوّل الماضي، ضربَت إسرائيل في العُمق. لكنّ هذه الاستهدافات كانت لاغتيال قياديين فلسطينيين، مثل نائب رئيس المكتب السّياسيّ لحركة حماس صالح العاروري في الضّاحية، أو محاولة اغتيال معاونه باسل صالح في جدرا قبل أسبوعيْن.

استهدفَت إسرائيل للمرّة الأولى منذ حرب تمّوز منطقة الغازيّة جنوب صيدا، بعيداً عن الخوض في نوعيّة الأهداف، أكانت مخازن أو ورشات تصنيع صواريخ للحزب، كما زعمَ الجيش الإسرائيلي، أم كانت مستودعات للمولّدات والطّاقة الشّمسيّة، كما صرّحَ مالك المستودع المُستهدَف.

المُهمّ أنّ تل أبيب ماضيةٌ في تخطّي كلّ قواعد الاشتباك الضّمنيّة بينها وبين الحزب، والتي يُمكِنُ اعتبارها ساقطة منذ أن استهدَف الحزب مواقع إسرائيليّة خارج نطاق مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، واستهداف إسرائيل للمنازل والأهداف المدنيّة في قرى الشّريط الحدودي.

هي “معركة بين حربيْن” تجري في جنوب لبنان. قد لا تطول هذه “المعركة” وتنزلقُ نحوَ حربٍ واسعة، بحسب ما يقول لـ”أساس” مصدرٌ دبلوماسي غربي كشف أنّ تل أبيب حدّدَت نهاية شهر شباط الجاري كحدّ أقصى للتّوصّل إلى اتفاقِ تهدئة يشملُ إطار ترسيخ الاستقرار على الحدود الجنوبيّة، وإلّا فإنّها ستمضي نحوَ الحلّ العسكريّ.

لئن كانت تل أبيب قد حدّدت كثيراً من المهل خلال الأشهر الماضية، إلّا أنّ هذه المرّة هي “الأكثر جدّيّة، نظراً للضّغط الدّاخليّ على حكومة نتنياهو ورفض القيادة العسكريّة الاستمرار بحربِ استنزافٍ مع الحزب”، على حدّ قول المصدر.

يُؤكّد هذه الجدّيّة الاستطلاع الذي نشرته صحيفة “معاريف العبريّة” والذي يُظهِر أنّ 71% من الإسرائيليين يؤيّدون “إطلاق إجراءات واسعة النّطاق لإبعاد الحزب عن الحدود”.

طموح إيران هو أن تملأ الفراغ الأميركيّ في العراق وسوريا. وهذا يعني تثبيت القبضة الإيرانيّة في منطقة المشرق العربيّ من مياه البحر الأحمر
اللافت أنّ النّسبة عينها من الإسرائيليين، بحسب استطلاعات سابقة، هي التي تُطالب بإقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتُحمّله مسؤوليّة الحرب. هذا يعني أنّ الأخير قد يجد في أيّ عمليّة ضدّ لبنان مُتَنَفّساً سياسيّاً لإعادة “الثّقة” بعد عمليّة طوفان الأقصى التي قامَت بها حركة حماس في مستوطنات غلاف غزّة. كما قد يستفيد نتنياهو من عمليّة كهذه لإبعاد شبَح الانتخابات المُبكّرة التي تُطالب بها المُعارضة الإسرائيليّة وتُظهِرُ استطلاعات الرأيّ تقدّم مُنافسه بيني غانتس بنسبة تسمح له برئاسة أيّ حكومة جديدة.

أهداف إسرائيل

تطمحُ القيادة السّياسيّة والعسكريّة العبريّة إلى تعميق الضّربات في لبنان للأسباب الآتية:

أوّلاً: تُحاول جرّ الحزبِ إلى ردّة فعلٍ تستهدف العمق الإسرائيليّ، مثل مدينة حيفا. وهذا ما تريده كذريعة تُغطّي بها توسعة نطاق الحربِ لمحاولة جرّ إيران والولايات المُتحدة إلى اشتباكٍ مُباشرٍ، تعتقد أنّه سيكون لمصلحة واشنطن وتل أبيب.

ثانياً: في حال لم ينزلق الحزب إلى ما تريده تل أبيب، وهذا الأرجح، تستمرّ إسرائيل بضربِ “بنك الأهداف” من منشآت ومخازن واغتيال قيادات عسكريّة بارزة في الحزب. إذ إنّ الأمين العام للحزب حسن نصرالله صرّحَ في خطابه الأخير أنّ توسعة الحرب هي هدف نتنياهو، وهو ما يعني أنّه لن يُعطي الأخير مُراده.

هذا قد يؤدّي إلى أن تزيد تل أبيب من استهداف العُمق، خصوصاً إن استشعرَت أنّ الحزب لن يردّ على العمق الإسرائيليّ. وهو ما يعني أنّ كلّ ضربةٍ في العُمقِ هي بمنزلة “جسّ نبض” إسرائيلي لردّة فعل الحزب، ولها ما يليها.

ثالثاً: تُحاول تل أبيب أيضاً عبر تعميق الضّربات، مثل غارات الغازيّة، أن تضغط على الحزبِ للقَبول بالحلّ السّياسيّ، الذي يُؤدّي إلى إعلان تل أبيب تراجع الأخير عن الحدود، وبالتّالي إعادة النّازحين من المُستوطنين إلى منازلهم. وهذا يُجنّب نتنياهو أثمان الحرب مع لبنان، ويمنحه ورقةً سياسيّة معنويّة في إطار إعادة بناء الثّقة المفقودة بين المستوطنين والقيادتَيْن السّياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّتين.

تقرأ إيران جيّداً صورة المنطقة بعد حرب غزّة، في حال لم تتوسّع الحرب. عنوان الصّورة هو التّوصّل إلى استقرار طويل الأمد في الشّرق الأوسط
ماذا عن الحزب وإيران؟

على الرّغم من الضّربات الإسرائيليّة في لبنان وسوريا التي تهدف إلى توسعة الحرب، تستمرّ إيران والحزب باتّباع سياسة “الصّبر الاستراتيجيّ”، التي يطمحان من خلالها إلى تحصيل مكاسب سياسيّة في حالة عدم توسّع الحرب، إضافة إلى خطوط التّواصل المفتوحة بين واشنطن وطهران، والتي زادَت وتيرتها بعد استهداف البرج 22 على الحدود السّوريّة – الأردنيّة.

خلال زيارته الأخيرة، أكّد وزير الخارجيّة الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان أمام من التقاهم أنّ بلاده لا تُريد أن تُعطي نتنياهو “ورقة رابحة” عنوانها توسعة الحرب. ما لم يظهر على لسان عبد اللهيان صراحةً هو أنّ بلاده “تمتصّ الضّربات” لأهداف أبعد.

إيران

عنوان هذه الأهداف هو الرّهان الإيرانيّ على انسحاب القوّات الأميركيّة من العراق، وبعدها من سوريا. تعلم إيران جيّداً أنّ دخول الحزب أو دخولها في حربٍ واسعة قد يقلب الخطط الأميركيّة للانسحاب من بلاد الرّافديْن رأساً على عقِب. لذلك كان وزير الخارجيّة الإيرانيّ يؤكّد في لقائه مع نصرالله ضرورة عدم الانزلاق نحوَ حربٍ واسعة.

صورة المنطقة

طموح إيران هو أن تملأ الفراغ الأميركيّ في العراق وسوريا. وهذا يعني تثبيت القبضة الإيرانيّة في منطقة المشرق العربيّ من مياه البحر الأحمر، حيث ميليشيات الحوثيّ، وصولاً إلى البحر المُتوسّط حيث الحزب، مروراً بالعراق وسوريا.

تقرأ إيران جيّداً صورة المنطقة بعد حرب غزّة، في حال لم تتوسّع الحرب. عنوان الصّورة هو التّوصّل إلى استقرار طويل الأمد في الشّرق الأوسط يُمكِن قراءته في سياسة واشنطن، التي لن تُغادر العراق وسوريا من دون إرساء أسس هذا الاستقرار عبر الآتي:

1- الدّفع نحوَ مفاوضات سلام جدّيّة، والاعتراف بدولة فلسطينيّة من قِبَل واشنطن ولندن والدّول الغربيّة. ظهرَت إرهاصات هذه السّياسة مع موافقة حركة حماس على تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينيّة، وكذلك عدم ممانعة الحركة الدّخول تحت مظلّة منظّمة التحرير. وهذا لا يكون من دون موافقة أو مُباركة إيرانيّة.

تمشي إيران والحزب على حدّ سيفِ نتنياهو. كلّ الخيارات مُرّة أمامهما. إن طالَ أمد امتصاص الضّربات، فسيكون رئيس الحكومة الإسرائيليّ حقّق أكثر أهدافه من دون أكلاف باهظة
2- إعادة الحديث عن استكمال مفاوضات الاتفاق الاستراتيجي السّعوديّ – الأميركيّ، الذي يشمل تطبيع العلاقات بين الرّياض وتل أبيب. وقد صرّحَت الرّياض على لسان وزير خارجيّتها الأمير فيصل بن فرحان أنّ ذلكَ لن يكون من دون التزام إسرائيل بإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشّرقيّة.

3- محاولة واشنطن حلّ مسألة الحدود البرّيّة بين لبنان وإسرائيل عاجلاً أم آجلاً.

بكلام آخر، يُمكن القول إنّ التّوصّل إلى اتفاق استراتيجيّ بين المملكة العربيّة السّعوديّة والولايات المُتحدة سيكون هو الضّمانة الأميركيّة للمملكة ودول الخليج العربيّ وإسرائيل أيضاً في حال قرّرت واشنطن في وقتٍ لاحقٍ العودة إلى الاتفاق النّوويّ مع إيران. وهذا ما لن تُمانعه إيران في حال رسّخَت نفوذها في مناطق سيطرة فصائلها.

إقرأ أيضاً: عبد اللهيان لـ”أساس”: نتشاور مع الرّياض لوقف الحرب في غزّة

تمشي إيران والحزب على حدّ سيفِ نتنياهو. كلّ الخيارات مُرّة أمامهما. إن طالَ أمد امتصاص الضّربات، فسيكون رئيس الحكومة الإسرائيليّ حقّق أكثر أهدافه من دون أكلاف باهظة. وفي حال قرّرا الانزلاق نحوَ الحرب الشّاملة فسيكون احتمال خسارة كلّ شيء أكثر ترجيحاً. وللميدان تتمّة.