كانت حرب روسيا على أوكرانيا صعبة جداً في عامها الأول بالنسبة للطرفين، بعد بدئها في 24 فبراير/شباط 2022، إذ اجتاحت القوات الروسية مساحات واسعة من الأراضي الأوكرانية، ولكنها تكبدت خسائر فادحة لم تكن في الحسبان.
وقبل أن ينتهي العام الأول تمكنت كييف من تحرير ما يقرب من نصف الأراضي التي استولت عليها موسكو. وأخذت الحرب منحى جديداً من خلال قصف روسيا المدن الأوكرانية، بما في ذلك العاصمة كييف، بهجمات صاروخية وطائرات مسيرة.
أما العام الثاني، فدار حول صد هجمات روسيا في الشرق، وحملة أوكرانيا في البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، ولكن الأهم من ذلك كله كان يتعلق بالهجوم البري المضاد لأوكرانيا، والذي توقف قبل أن يتمكن من قطع الحدود الروسية الأوكرانية.
أدت الحرب إلى هجرة واسعة ودمار كبير، وبدت وهي تقترب من الذكرى الثانية في 24 فبراير الحالي، أنها تبتعد عن التسوية والحل النهائي، كي تصبح حرب استنزاف طويلة الأمد، تأخذ طابع الكر والفر. حيال هذا الوضع يضطر ملايين من الأوكرانيين إلى التعايش مع الاحتلال الروسي، بعد أن ظهر وكأن الدعم الغربي للحكومة الأوكرانية، من أجل تحرير أراضيها، في تراجع متواصل، وهذا يعود إلى عدة أسباب.
أسباب تراجع أوكرانيا
السبب الأول هو أن الاهتمام العالمي بالحرب على أوكرانيا انخفض بسرعة بعد هجمات حركة “حماس” على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بما في ذلك التسليح، والدعم المالي الأميركي السخي، الذي توجه القسم الأكبر منه إلى إسرائيل.
السبب الثاني هو، فشل كل الهجمات العسكرية الأوكرانية في تحقيق الأهداف، التي وضعتها من أجل إخراج الروس من الجنوب، كما كان مقرراً في الربيع الماضي، والذي استدعى تقديم أسلحة غربية جديدة، خصوصاً على مستوى سلاح المدرعات.
والنتيجة البارزة هي عدم قدرة الجيش الأوكراني، على تحقيق اختراقات عسكرية ذات قيمة على الجبهات كافة، تشبه تلك التي حققها في خريف عام 2022، والتي حرر فيها مساحات واسعة من الأراضي.
فشلت أوكرانيا في اختراق ما يسمى “خط سوروفيكين” الروسي
الفشل الأكبر الذي واجهته القوات الأوكرانية عام 2023 هو عدم تحقيق الأهداف التي تم وضعها كاختراق ما يسمى “خط سوروفيكين” الروسي، نسبة إلى الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي قاد الهجوم على أوكرانيا في الربع الأخير من 2022.
فشلت القوات الأوكرانية في تحرير مقاطعة زابوريجيا وميليتوبول، ولم تتمكن من قطع الطرق التي تربط روسيا براً بشبه جزيرة القرم، إلى جانب إخفاق العمليات البحرية الأوكرانية، في إخراج القوات البحرية الروسية من المعادلة.
لو نجحت تلك الهجمات، كان من الممكن أن تؤدي إلى وضع شبه جزيرة القرم تحت الحصار، وعلى الرغم من صعوبة هذا الهدف فإنه كان قابلاً للتحقيق. ويعود السبب الرئيسي للفشل هو أن الوحدات الأوكرانية المكلفة قيادة الهجوم، لم يكن لديها الوقت الكافي للتدريب والتحضير.
وحسب تقارير عسكرية غربية، فإن القوات الأوكرانية حتى قبل مايو/ أيار 2023، لم تكن مدربة بصورة كافية على العمليات الهجومية، ولم يكن لديها الوقت الكافي للتدريب على الأسلحة الغربية المتطورة التي تلقتها، بينما كانت القوات الروسية تعمل على تعزيز مواقعها الدفاعية.
وخلصت التقارير إلى أنه على الرغم من نجاح الجنود الأوكرانيين في كثير من الأحيان في الاستيلاء على مواقع العدو، فإنهم نادراً ما كانوا قادرين على استغلال الخروق والإنجازات التي حققوها أو تعزيز مكاسبهم بسرعة. وعوضاً عن ذلك، كان عليهم التوقف والتخطيط، مما أعطى القوات الروسية الوقت لإعادة تنظيم صفوفها.
والسبب الثالث هو تغيير روسيا من تكتيكاتها العسكرية التي كانت تقوم على الهجوم، وتحولت إلى الدفاع عن الأراضي التي استولت عليها، فقامت بتحصينها، وتوقفت عن شن هجمات برية لاحتلال مزيد من الأراضي، وصارت تعتمد الهجمات عن طريق الطائرات المسيّرة، التي تزودها بها إيران وهي فعالة، ومنخفضة التكلفة.
غيّرت روسيا من أهدافها السياسية أيضاً، ولم تعد مصرة على إسقاط الحكم في كييف، وتركت هذا الأمر معلقاً على نتائج الحرب، وتفاعلاتها الداخلية، في ظل وجود خلافات داخل القيادة الأوكرانية بين الرئيس فولوديمير زيلينسكي وبعض القيادات العسكرية المؤثرة، والتي انتهت بعزله قائد الجيش فاليري زالوجني.
ستجرى زيادة 170 ألف عسكري للجيش الروسي (Getty)
تقارير دولية
روسيا تزيد عديد جيشها: تأهب لمواجهة طويلة؟
واستطاع زيلينسكي أن ينجح في ذلك، رغم أن زالوجني معروف بأنه صاحب الانتصارات التي حصلت ضد الروس، ومصدر الخلاف هو إصرار الأخير على تعبئة نصف مليون جندي لزجّهم في المعركة، وهذا ما رفضه الرئيس. يبدو أن داعمي زيلينسكي اليوم غير متحمسين للذهاب أبعد من ذلك، ولذلك يبدو الوضع الحالي مرشحاً للاستمرار، إلى نهاية العام الحالي على الأقل.
وهذا أمر يريح الغرب وروسيا، ولا يزعج زيلينسكي كثيراً. لكن الوضع ليس ثابتاً إلى حدود الركون إلى هذه النتيجة نهائياً، ذلك أن التسليح وتدريب قوات أوكرانية بأعداد كبيرة في بلدان أوروبا، بالإضافة إلى أن الخسائر التي سيتكبدها كل جانب في الأشهر القليلة المقبلة، ستحدد المسار طويل المدى للصراع.
بالنسبة للولايات المتحدة، لم تعد الأولوية للحرب في أوكرانيا، بل باتت حرب إسرائيل هي الشاغل الأساسي في التمويل والتسليح، ولا يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية تمتلك الوقت الكافي في ظل الاستعدادات للحملة الانتخابية الرئاسية، من أجل إشعال جبهة أوكرانيا على نطاق واسع.
ولا يتوقف الأمر عند أجندة الإدارة الأميركية فقط، بل يبدو واضحاً أنه ليس لدى واشنطن نيّة فعلية لحسم النزاع نهائياً لصالح أوكرانيا، ومن جهة هي غير متضررة من بقائه على الصيغة الحالية، ومن جهة أخرى تريد له أن يشكل عامل استنزاف مستمر لروسيا، يشغلها عن التفرغ لمواجهة التحديات الأخرى.
الواضح هو أن واشنطن ستغذي النزاع بما يبقي النار تحت الرماد، من دون التفريط بمساعدة أوكرانيا، كي لا تخسر الرهان على المديين القصير والمتوسط، وطالما أنه لا يحقق أي من الطرفين تقدماً كبيراً، سينظر إلى الوضع الراهن على أنه مستقر، ومن ثم فهو لا يتطلب دعماً عسكرياً كبيراً، أو تدخلا سياسياً عاجلاً.
ومن الملاحظ، أن حلفاء أوكرانيا لم يعودوا يتحدثون عن عدم جواز تغيير الحدود بالقوة. بعد أن صاروا متأكدين من أن روسيا التي تكبدت خسائر كبيرة، لم تعد تشكل تهديداً مستداماً لحلف شمال الأطلسي.
وفي هذه الحالة لا تجد الولايات المتحدة نفسها مستعجلة من أجل وضع تدابير الردع في أوروبا إلى أجل غير مسمى، وهذا من شأنه أن يريح واشنطن، ويسمح لها بنشر القوة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من أجل مواجهة خطر الصراع حول تايوان، الذي يتفاقم مع الصين منذ بداية حرب روسيا على أوكرانيا.
يبدو حلفاء أوكرانيا أمام خيار حاسم، إما دعم أوكرانيا أو منح روسيا اليد العليا
خيارات محدودة
وفي كل الأحوال يبدو حلفاء أوكرانيا أمام خيار حاسم، إما دعم أوكرانيا حتى تتمكن من الدفاع عن أرضها والاستعداد لهجوم عام 2025، أو منح روسيا اليد العليا بطريقة لا رجعة فيها. وسيؤدي نقص الإمدادات والأفراد المدربين إلى إغراق أوكرانيا في صراع استنزاف، ينهكها، ويجبرها على الخضوع لروسيا، في نهاية المطاف.
إذا رجحت كفة الخيار الأول، فإن هذا يرتب على حلفاء أوكرانيا، خلال المدى القريب، تقديم مساعدات مهمة، بما يمكّن كييف من تجديد الهجمات الكبيرة، من أجل إلحاق هزيمة كبيرة بالقوات الروسية، تجبر روسيا على التفاوض لفرض سلام دائم.
غير أن هذه الحسابات قد تؤدي إلى كارثة تلحق بأوكرانيا، وما لا يبعث على التفاؤل هو أن حلفاء أوكرانيا فشلوا على مدى العامين الماضيين في الاستفادة من أفضلية الوقت التي كانت متاحة لهم. مرت الفترة الماضية من الحرب، والولايات المتحدة ودول الأطلسي تشعر بنشوة فشل روسيا في كسب الحرب وإنهائها بالطريقة التي تناسبها، وظنت الغالبية العظمى أن ذلك سينهي التهديد الروسي الفعلي، وتجنب صراع طويل الأمد.
انعكست هذه الحسابات القاصرة على كل مجريات الحرب، من التخطيط إلى التدريب والتسليح. وعوضاً عن السعي إلى توسيع القدرة الصناعية في الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، اعتمد أصدقاء كييف بصورة أساسية على الذخائر الموجودة في المخزونات الوطنية والسوق الدولية وأرسلوها إلى أوكرانيا.
يبدو ميزان القوى العسكرية مختلا لصالح روسيا، ويفيد خبراء عسكريون غربيون أن القوات الأوكرانية كانت تستخدم حوالى 7 آلاف قذيفة مدفعية يومياً خلال هجمات منتصف 2023، وكانت تتسبب في نسبة 80 في المائة من خسائر روسيا. وفي نهاية العام الماضي، وصل عدد القذائف إلى ألفي قذيفة يومياً.
وفي المقابل، ازدادت قدرة المدفعية الروسية، فالقوات الروسية تطلق الآن نحو 10 آلاف قذيفة يومياً. وما لم تتمكن أوكرانيا مرة أخرى من تهيئة ظروف تتيح لها أن تحقق تفوقاً في منطقة معينة، فإن أي عمليات هجومية جديدة ستؤدي إلى خسائر لا يمكن تحملها في صفوف القوات الأوكرانية.
بقاء الوضع على ما هو عليه لفترة طويلة، قد يسمح للقوات الروسية بفتح محاور هجومية جديدة في النصف الثاني من عام 2024. ويمكّنها أيضاً من التركيز على جبهات يمكنها أن تهيئ فيها ظروفاً أكثر ملاءمة في ساحة المعركة، وإلحاق خسائر فادحة بأوكرانيا.
يتجلى ذلك في انسحاب القوات الأوكرانية في الآونة الأخيرة من عدة أجزاء من مدينة أفدييفكا الشرقية في دونيتسك والتي كانت تدافع عنها منذ عقد من الزمن، وذلك بسبب تعرضها لضغوط في عدة نقاط ضعف أخرى على طول خط المواجهة، في وقت تعاني فيه القوات الأوكرانية من نقص القذائف، كما أنها معرضة لضربات جوية متواصلة.