التوافق الإيراني الأمريكي في أحداث غزة

التوافق الإيراني الأمريكي في أحداث غزة

تعتمد السياسة الإيرانية على ملاحظة وقراءة التطورات القائمة في منطقة الشرق الاوسط واستغلال انشغال المجتمع الدولي بالعديد من الأزمات والصراعات السياسية لتعيد تقويم فعالية دورها والاستفادة من جميع المخاضات التي تشهدها المنطقة ولتأسس لها دوراً حيوياً يكون علامة على عودتها للتأثير في طبيعة الأحداث والتوازنات السياسية وتعزيز موقعها الذي تسعى إليه في أن تكون دولة ذات صبغة نووية وتمتلك سلاحاً يمثل الردع الكامل لحماية أمنها القومي ونظامها السياسي، وهي أهداف يعلن عنها دائما المسؤولين الإيرانيين ولا يخفون حقيقة التوجه القائم على إتباع سياسة إظهار الامكانيات التي من الممكن أن تحقق لهم ريادة ومكانة في المحيط الإقليمي والدولي.
من هنا جاء تصريح رئيس الطاقة الذرية الإيراني السابق ( علي أكبر صالحي) بتاريخ العاشر من شباط، 2024 في مقابلة متلفزة رداً على سؤال حول قدرة إيران على صنع الأسلحة النووية قائلاً ( أن إيران لديها كل أجزاء السلاح النووي في مكانها ولكنها مفككة، وتمتلك كل قدرات العلوم والتكنولوجيا)، وهذا يؤكد السلوك الإيراني في ادامة زخم الفعالية النووية تصعيد العمل في إنجاز البرنامج النووي واستخدامه كأداة فعالة في حماية المشروع السياسي الإيراني واستمراره بالتمدد والنفوذ وتحقيق الغاليات والأهداف من تصدير الثورة الإيرانية والتباهي بالوصول إلى مديات وإمكانيات عالية في تخصيب اليورانيوم وبنسبه عالية توصل إلى صناعة القنبلة الذرية، ثم تأكيد القول أن إيران لم يعد يفصلها عن تصنيع السلاح النووي إلا اتخاذ القرار السياسي والتوجه العام في إدارة وتوسيع دائرة التأثير الميداني للنظام.
وهذا ما آثار حفيظة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي أبداه ( روفائيل غروسي) في كلمته أمام القمة العالمية لرؤساء الحكومات في دبي بتاريخ 13 شباط 2024 بقوله (أن إيران غير مستجيبة وغير متعاونة وليست مستعدة للشفافية الكاملة بشأن أنشطتها النووية).
إن التصعيد في الكلام الذي تختاره إيران إنما يعود لأسباب عديدة منها أنها تريد أن تشير الى قدراتها النووية وأن بإمكانها أن تواجه جميع الاحتمالات التي من الممكن أن يتعرض لها وجودها، وهي محاولة واضحة للحفاظ على ديمومة نظامها السياسي ومواجهة أي تطورات تعيق مراحل تنفيذ مشروعها في المنطقة او تستهدف برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة التي بدأت تعلن عنه وبشكل يتوافق والطموحات والغايات الإيرانية، وجاء اعلان القيادات العسكرية في الحرس الثوري الإيراني بتاريخ 13شباط 2024 عن إطلاق صاروخين بالستين من طراز ( فتاح) وبمدى 1700 كم بواسطة سفينة عبر البحر، ليشير إلى قدرة النظام الإيراني على تنويع استخدام أسلحته المتطورة عبر البر والبحر وبأساليب متعددة، ويمكن لنا أن نعيد الاشاره إلى حديث محمد سلامي قائد الحرس الثوري الإيراني عندما أراد أن يؤكد الإمكانية الميدانية في الوصول إلى الممرات والمضايق المائية المهمة بقوله ( يمكن لسفننا العابرة للمحيطات ان تتواجد في أي مكان في المحيطات، وعندما نتمكن من إطلاق الصواريخ منها، فلا يوجد مكان أمن لأي قوة تريد زعزعة أمننا).
يُعد الأمن القومي أكثر مسألة يهتم بها النظام الإيراني ، ولقد حقق النظام نجاحات واضحة على الصعيد الأمني في الآونة الأخيرة، إذ أحرزت طهران تقدماً كبيراً في البرامج الرئيسية مثل تطوير الصواريخ والطائرات بدون طيار والتخصيب النووي، وذلك بالرغم من الجهود الدولية لتقييدها ومنها اتفاق الإدارة الأمريكية غير الرسمي في بداية عام 2023 الذي طالب إيران بالقليل من ضبط النفس مقابل تخفيف الضغوط الاقتصادية عليها وهي كما يبدو ورقة ضغط توليها إيران اهتمامات جيداً، ثم إخراج النظام من العزلة الاستراتيجية، ويتمثل مصدر القلق الأكبر في المدى الذي قد يكون فيه النظام على استعداد للتقدم في برنامجه النووي، الذي حقق تقدماً أثار قلق الأوساط الأوربية والغرببة والوكالة الدولية وأصبح أكثر ضبابية دون مواجهة أي عواقب.
وقد تعتقد بعض الشخصيات الإيرانية أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة نووية متقدمة واستغلال انشغال العالم في حروب في غزة وأوكرانيا، بينما تركز واشنطن على انتخاباتها الرئاسية المقبلة ولا ترغب في توسيع رقعة تصعيد المواجهة، ولذلك من الأفق السياسي أن تستعد الولايات المتحدة وحلفاؤها لأسوأ الاحتمالات التي يتجاوز فيها البرنامج النووي الإيراني العتبة النووية، لا سيما وأنه من غير المرجح أن تؤثر العقوبات الاقتصادية على النظام وسط ما يحققه من نجاح اقتصادي في استثمار تصدير الطاقة إلى الصين او التغلب على العقوبات أساليب مختلفة.
يتبادل المسؤولون الإيرانيون التصريحات والأقاويل ضمن سياسة تبادل الأدوار والتي تلقى اهتمام وتوجيه مباشر من المرشد الأعلى علي خامنئي وتعتبر توجيهاً للجميع في حالة أي تطورات سياسية ميدانية في المنطقة، وإلا فإن النظام الإيراني ملتزم بسياسة ضبط مستوى التصعيد منذ السابع من تشرين الأول 2023 وبقواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وعندما بدأت الفصائل المسلحة والمليشيات المرتبطة بفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني بتوسيع فعالياتها وعملياتها تجاه الأماكن والقواعد الأمريكية في العراق وسوريا تصعيد المواجهة بمقتل ثلاثة جنود في القاعدة الأمريكية ( برج 22) التي رأى أنها بدأت تهدد مصالحه ومكتسباته التي حصل عليها من خلال العلاقة التفاوضية المستمرة مع الإدارة الأمريكية عبر الوساطة العربية، أرسل ( إسماعيل قاأني) قائد فيلق القدس للعراق والتقى بعدد من رؤوساء الفصائل المسلحة في نهاية شهر كانون ثاني 2024 وطلب إليهم إيقاف العمليات العسكرية تجاه المصالح والقواعد الأمريكية داخل الأراضي السورية العراقية،
وتم تنفيذ التوجيه منذ الرابع من شباط 2024 حيث لم تقع أي هجمات على القوات الأمريكية في سوريا والعراق مقارنة مع أكثر من عشرين هجوماً خلال الأسابيع الماضية.
يسعى النظام الإيراني في سياسته تجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى ابقاء حالة التوازن في العلاقات ومنع أي تأثير من الممكن أن يحدث ويؤثر على سير وفعالية السياسة المتبعة في عدم التصعيد والتمسك بما تحقق لإيران ومنذ الأحداث التي انطلقت في قطاع غزة والذي بدأت فيه إيران بزيادة فعالية برنامجها النووي وضاعفت مخزونها من المواد الانشطارية بواقع (22) مرة منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام في أيار 2015 ولايزال مستمراً بواقع (7) كغم شهرياً وبدرجة نقاء 60٪ وبغياب مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعدم قدرتهم على تحديث معلوماتهم فيما يتعلق بإنتاج أجهزة الطرد المركزي والماء الثقيل مما اعاق عملية التحقق والمراقبة والرصد التي أقرتها خطة العمل الشاملة المشتركة.
واستندت إيران على حالة التفاهم بينها وبين الإدارة الأمريكية والتي برزت باعلانها أن إيران ليس لديها علاقة بـطوفان الأقصى كما حرصت إيران على عدم التدخل المباشر في الأحداث الميدانية التي يعيشها قطاع غزة والاكتفاء بشعارات التأييد المعنوي.
لا تريد إيران أن تخسر ما جنته من صفقتها مع واشنطن التي بواسطتها استطاعت الحصول على 10 مليارات من الأموال المجمدة، وتعمل على عقد صفقات مماثلة معها للحصول على مزيد من الأموال وتحقيق حالة من الانفراج السياسي ، كما أنها تزيد من عملية تخصيب اليورانيوم بما يمكنها من كسب أوراق جديدة عند التفاوض مستقبلاً مع أمريكا والدول الأوربية بخصوص البرنامج النووي او اي تطورات تتعلق بأزمات دولية واقليمية، وبدأت بإنتاج مواد تدخل في الصناعات العسكرية الباليستية وصواريخ الكروز والطائرات المسيرة.
إن التوافق الأميركي الإيراني الذي جعلهما يوظفانه لتحقيق المصالح المشتركة يوضح أن سياسة الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط على رغم فشلها في بعض الجوانب الذي يعكس عدم قراءة حقيقية لواقع المنطقة، فإنه في الجانب الخاص بإيران يؤكد أنها توظفها من أجل التأثير في توازن القوى الإقليمي حتى في مواجهة حلفاء واشنطن التقليديين، بما يسمح لإيران بهامش الحركة والتأثير لمناوأة صعود القوى الإقليمية الأخرى على نحو يظل يهدد مصالحها.
عمل النظام الإيراني على توظيف الأحداث الميدانية في غزة والذي منحته فرصة كبيرة للعمل بإتجاه تصعيد وتائر التقدم في المجالين النووي والعسكري والاستعداد لأي احتمالات مستقبلية، وهذا ما يمكن قراءته في التصريح الاخير لرئيس منظمة الطاقة الذرية الإيراني محمد سلامي حول استمرارية العمل بمنظومة البرنامج النووي فأنه يؤكد على قدرة إيران بالتغلب على العقوبات الدولية بقوله ( رغم العقوبات فإن القطاع النووي الإيراني يعد من بين الخمسة الأوائل في العالم بتوسعه في إنتاج الماء الثقيل عالي الجودة).

وحدة الدراسات الايرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتبجة