ما زالت الحرب التي يشنها جيش الاحتلال في غزة منذ أكثر من خمسة شهور مستمرة مع صمود المقاومين الفلسطينيين في أكبر عملية إبادة يقودها جيش الاحتلال الإسرائيلي، مواصلاً حربا فشلت في تحقيق أدنى أهدافها العسكرية، قياساً بحجم القوات المحشدة والمسنودة بالقوة والتغطية السياسية، من دول العالم المهيمنة على القوة والقرار في العالم ومجلس الأمن الدولي. ووسط هذه الأجواء الحرجة ومع استمرار جهود الحل الدولي والثنائي، بين حركة حماس والكيان الصهيوني، تبرز إلى السطح قضية حل الدولتين، كأحد الحلول التي شكلت موقفاً للسياسات العربية الدبلوماسية، إزاء التعامل مع إسرائيل في التطبيع، أو العودة إلى مسار السلام، وإن تكن سياسات النظام العربي الرسمي قد تجاوزت التطبيع، ولم تعد إسرائيل بحاجة الى انتزاع اعتراف عربي، تحقق لها دون مجهود كبير.
إن حل الدولتين لم يكن بنداً انطوت عليه أي من الاتفاقيات واللقاءات، التي جمعت بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل مباشر منذ محادثات مدريد عام 1991، ولكنه يستند في مرجعتيه التاريخية إلى قرار التقسيم رقم 181 قبل إعلان إسرائيل دولتها اليهودية عام 1947. ومن ثم توالت الحروب والحلول بين الجانبين، وصولاً إلى مبادرات السلام الأخرى منذ اتفاقية كامب ديفيد، التي انهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وانتهاء بالمبادرة العربية للسلام التي اقترحها الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز عام 2002، بشروطها لتحقيق السلام بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وغيرها من حلول توافقية، وقد اعتبرت عربياً آخر صيغة تمكن الدولة الفلسطينية من الوجود والاعتراف وتحقيق الحد الأدنى من التعايش السلمي، كما روجت له المساعي الدولية، خاصة تلك التي تدعم سياسات إسرائيل، كالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية.
حل الدولتين ليس فصلا يقوم على حقوق متساوية، يمكن أن تستوعبه صيغة كونفدرالية تفصل بين طرفين، ولكنه يعني في نهاية المطاف استعادة تاريخية لأرض بكل زخمها التاريخي والديني
وبقيت المبادرة العربية كغيرها من المبادرات مجمدة بين أضابير ملفات القضية الفلسطينية تخرج من وقت لآخر. ومع تشدد حكومة نتنياهو المتطرفة سياسيا وعسكرياً، والضغط العربي والدولي لوقف المجازر في حرب الإبادة الإسرائيلية، وما اتخذته دول عربية مؤثرة في محيط السياسية الإقليمية والدولية من مواقف دبلوماسية، كالمملكة العربية السعودية في ربط موقفها من السلام مع إسرائيل بقبول حل الدولتين. ومع كل ما سبق من صيغ تدخل في إطار التقسيم وإقامة دولتين منذ قرار التقسيم الأممي، كان الموقف الإسرائيلي يعمل باستمرار على نفي صفة الدولة عن أي كيان فلسطيني، إلا في حدود ما أطلق عليها «السلطة الفلسطينية»، وهي حسب التفسير السياسي الإسرائيلي والقانوني أكبر من السلطة وأقل من الدولة. وهو وصف لا يقاربه أي مدخل قانوني أو دستوري، منذ اتفاقية صلح وستفاليا، التي أسست للدولة القومية في أوروبا في القرن السابع عشر. وبمنطوق اتفاقية أوسلو فإن ما ورد من تشكيل سلطة فلسطينية انتقالية ذاتية، في المناطق التي حددتها الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتلك التي ستنسحب منها كقطاع غزة. وما تحمله نصوص الاتفاقيات مع إسرائيل، يشدد دائماً على حماية إسرائيل والاعتراف بدولتها على حدودها الأمنية. إن تقبل إسرائيل بقيام دولة فلسطينية، فإن ذلك يثير فزعاً وجودياً يرتبط بمكوناتها وعقدها التاريخية، ويستدعي وجودها الهامشي بين المجتمعات منذ عصر الشتات، حيث إن الدولة في التصور الإسرائيلي أمر طارئ موقوت أوجدته ظروف قابلة للزوال، لأنها دولة نشأت عن تصورات ومزاعم تاريخية لا وجود لها، منبثقة عن أساطير تلمودية، لا عن تطور سياسي وتاريخي في سياق طبيعي تكوّن الجغرافيا محوراً يحدده الانتماء الأصيل لأصحاب الأرض. فمشروع التوطين الذي قام برعاية بريطانية ضمن نطاق أمني يقوم استراتيجياً على التوسع وضم الأراضي، وتحييد الدول العربية مستخدمة النفوذ الأمريكي على نظم المنطقة.
والدولة الفلسطينية ليس مجرد إعلان سياسي تم في الجزائر عام 1988 ونص على قيام دولة فلسطين في حدودها الطبيعية والجغرافية والقانونية، ولكن ما تعنيه القضية الفلسطينية في السياق السياسي والتاريخي والنضالي للشعب الفلسطيني كشعب، احتلت وانتزعت أراضيه منه لقيام دولة بالإكراه. فإذا كانت إسرائيل قامت كدولة أعلنت عنها الحركة الصهيونية على أرض شعب آخر، يمثل الدولة بالتعريف والوجود، فإن إسرائيل التي قامت على وعود ودعم كاملين من الخارج، فإن للفلسطينيين الحق الدائم في استعادة دولتهم المسلوبة. وهذه القضية (المركزية) كان ثباتها في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي لم تنزع عنها راديكاليتها، رغم التحول الذي طرأ على توجهات السياسات العربية في الأربعين سنة الأخيرة.
وبعد أكثر من ثلاثة عقود، عادت اتفاقية أوسلو تثير جدلاً في السياسة الإسرائيلية، وعلى الرغم من رفضها في وقتها من قبل معظم الفصائل الفلسطينية، إلا أن موقف السلطة (منظمة التحرير الفلسطينية) التي اعتبرتها الاتفاقية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، يصرح القادة الإسرائيليون بأنها كانت خطأ تاريخيا، ويبدو أن وقائع العمليات العسكرية في غزة، وما أحدثه هجوم السابع من أكتوبر الماضي جعل من قرارات وتصريحات حكومة الليكود المتشددة والمناوئة للحلول التي اقترحتها الاتفاقيات، أملا في أن تقود إلى سلام تدريجي دائم مسيطر عليه من قبل الدولتين، بعيدة المنال.
وبعد كل موجات التمدد الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، والخلاف الفلسطيني الفلسطيني القائم على انقسام سياسي وأيديولوجي داخلي، رهينا بالسياسات في الدول العربية، يكون حل الدولتين في ظل وجود سلطتين في الضفة الغربية (السلطة الفلسطينية) وقطاع غزة تحت سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في عزلتها وحصارها المطبق على ما يزيد من سبعة عشر عاما، يبدو معقداً في خضم التطورات التي شهدها الصراع وتصاعد توتراته وتمدد دائرته على مستوى التحالفات والمهددات الإقليمية، بما وسع من الأزمة وزاد عدد الفاعلين في الصراع. فمن ناحية الدولة الراعية (الولايات المتحدة) في إدارتها المختلفة، لم تبد حماساً في تطبيق هذا المقترح إذ أن قيام دولة فلسطينية بالمعايير الأمنية تهديد أمني لوجود دولة إسرائيل المفترضة. ومع أن الإدارات الأمريكية المختلفة تسعى من وقت لآخر لإحياء حل الدولتين، كما يقول الدبلوماسي الأمريكي السابق مارتن إنديك، في مقال في مجلة «فورن بوليسي» هذا الأسبوع، إلا أنها تواجه بتصميم إسرائيل على ضم الضفة الغربية، على الرغم من أن إدارة الرئيس جو بايدن الحالية قد تخطت كل ما هو مقبول في تأييدها لإسرائيل في حربها الأخيرة المستمرة في غزة.
إن حل الدولتين مع تطورات حرب غزة، وعدم فاعلية المبادرات العربية والدولية في إثناء إسرائيل عن التوقف عن مجازرها، ضد الفلسطينيين سيكون من الصعب طرحه، وإن ناورت به الدول العربية. وإذا ما أصرت منظومة الدول العربية على طرح صيغة حل الدولتين، أو المبادرة العربية بعد هذا التطور الكبير في سير الصراع العربي الإسرائيلي، وما سيترتب عليه من اختيارات جديدة، سيصعب من الموقف العربي إزاء أزمتهم السياسية التاريخية. فالموقف الإقليمي الذي يحيط بالعالم العربي ويؤثر بشدة في تحركاته السياسية بدخول إيران على أكثر من محور في الشؤون العربية، ووجودها في أربع دول عربية تختلف مع العرب، في تصورها لحل القضية الفلسطينية. وقد تبرز إلى الوجود صيغة أخرى محمولة على ما تنتهي إليه حرب غزة، ودائماً ما كان التصعيد الذي يعقب المواجهات العنيفة بين الطرفين، يؤدي إلى مناورة أخرى مقترحة سعياً للحل الشامل أو التهدئة.
في هذه المرة فإن الطرف في المعادلة حماس، بكل ما تعنيه سياسياً وأيديولوجياً للنظام السياسي العربي والغرب، فما قامت انطلاقاً من الجهة التي تسيطر عليها، اختلفت ردود الفعل حوله دون أن تنكر حق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، فتدينه أو تؤيد إسرائيل في جرائم الإبادة التي ترتكبها. فالاحتلال لا يملك شرعية تبرر أفعاله، ومن جهة أخرى تصاعد نبرة أن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني حتى تخوض باسمه مواجهات غير محتملة النتائج. والتحدي الأصعب أن حل الدولتين ليس فصلا يقوم على حقوق متساوية، يمكن أن تستوعبه صيغة كونفدرالية تفصل بين طرفين، ولكنه يعني في نهاية المطاف استعادة تاريخية لأرض بكل زخمها التاريخي والديني.