النتائج التي أسفرت عنها انتخابات مجلسي النواب وخبراء القيادة التي شهدتها إيران مطلع مارس (آذار) الجاري لم تخرج أو تغاير التوقعات بإعادة تأكيد سيطرة الجماعات والقوى الموالية للنظام عليها، وأن الصراع سيكون محصوراً ومقتصراً على أي من هذه الجماعات التي ستكون متقدمة على الأخرى، وأي منها، المتشددون أم الأكثر تشدداً، ستكون لها الكلمة الفصل في رسم المسار الذي ستكون عليه السلطة التشريعية، والطابع العام الذي سيحكم توجهات خبراء القيادة خلال المرحلة المقبلة.
إلا أن هذه النتائج حملت كثيراً من المؤشرات التي تعزز الاعتقاد وتكرسه بأن المشهد السياسي الإيراني ذاهب وبسرعة باتجاه ترسيخ الانقسام العمودي بين أكثرية شعبية وسياسية معارضة ورافضة لسياسات النظام ومنظومة السلطة وآلية إدارتها للبلاد، وأقلية أيديولوجية ومصلحية ترى أن المرحلة باتت تتطلب منها القيام بالخطوة الحاسمة لتثبيت المسار الذي يحقق إستراتيجيتها ومشروعها لمستقبل وطبيعية النظام السياسي.
ولعل الموقف الذي اتخذه الرئيس الأسبق للجمهورية محمد خاتمي، الذي يعتبر الأب أو المرشد الروحي للقوى المعارضة، بعدم مشاركته في عملية الاقتراع، يمثل المؤشر الأبرز على هذا الانقسام ووصول الأمور إلى نقطة الافتراق الواضح بين هذه الأكثرية والأقلية، فهو حدث أو موقف لا يمكن اعتباره عادياً، ولن يكون عرضياً أو خالياً من الدلالات.
فخاتمي، وفي أشد حالات الخلاف السياسي مع السلطة أو الدولة العميقة، لم يذهب إلى خيار التصعيد أو المواجهة، وأصر على الاحتفاظ أو التمسك بما بقي من مساحات حوار أو نوافذ سياسية، وعدم إقفال جميع قنوات التواصل أو إيصال رسائل حول إمكان تراجع الطرف الآخر عن المسار الذي يسعى إلى فرضه على العملية السياسية، وتغيير صورة إيران المرتجاة أو المطلوبة التي قامت من أجلها الثورة، وتأسست عليها الجمهورية الجديدة على أنقاض الملكية المطلقة.
وعزوف خاتمي أو امتناعه من المشاركة في الاقتراع يمكن أن يكون تطوراً طبيعياً لمسار اعتراضي أكثر وضوحاً ويتجاوز الخطاب الإصلاحي أو المشروع الذي يحمله، وبدأه هذا الرجل ما بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009 وما شابها من علامات استفهام حول التلاعب بنتائجها لمصلحة عودة محمود أحمدي نجاد لقيادة السلطة التنفيذية، على حساب مرشح القوى الإصلاحية والتغييرية مير حسين موسوي.
وإصرار خاتمي على المشاركة في كل عمليات الاقتراع التي جرت ما بعد عام 2009، وموقفه الداعي إلى عدم المقاطعة، وتصديه لكل موجات الضغوط التي مارستها عليه الأحزاب والفعالية السياسية الإصلاحية لإعلان المقاطعة وتحريم المشاركة، هو موقف حاول من خلاله، مستخدماً ما لديه من رمزية، المحافظة على الخيط الأخير الذي يربط بين النظام والجمهور الإيراني، وترك باب الحوار مفتوحاً بين النظام وهذه الأحزاب والقوى الشعبية المعترضة.
وعدم مشاركة خاتمي في عملية الاقتراع يمكن وصفه بأنه “نصف موقف”، لأن هذه المقاطعة جاءت تعبيراً عن خيار شخصي ولم تقترن بالدعوة العامة إلى هذه المقاطعة، وهو السقف الذي التزمت به أيضاً الجبهة الإصلاحية التي أعلنت بشكل موارب هذه المقاطعة، من خلال إعلانها عدم امتلاكها أي مرشح أو لائحة انتخابية في العاصمة طهران، أو سائر الدوائر الانتخابية في كل إيران، وأنها تترك قرار المشاركة أو المقاطعة لتقدير كل مواطن، وكيف يرى المصلحة في ذلك.
اقرأ المزيد
النظام الإيراني وقصة خاتمي التي لا تنتهي
ماذا تقول لنا نتائج الانتخابات البرلمانية في إيران والأحواز؟
مفاجآت انتخابات إيران… المحافظون أيضا يفشلون
هذا “النصف موقف” من المفترض به أن يتحول إلى جرس إنذار لدى دوائر منظومة السلطة والدولة العميقة، لأنه جاء نتيجة جدل كبير وواسع داخل وبين القوى الإصلاحية، بين حسم الموقف والذهاب إلى الخيار النهائي الذي لا ترغب فيه بعد أن تولدت لديها قناعة باستحالة إحداث تغيير في موقف منظومة السلطة ودفعها إلى العودة للرشد الجمهوري والديمقراطي، وبين توجه بقيادة خاتمي بضرورة الحفاظ على ما بقي من إمكان تواصل، وعدم تقديم ورقة مجانية لهذه المنظومة ومساعدتها في تحقيق مشروعها.
وبالتالي فإن ما بعد هذه الانتخابات سيكون مختلفاً عما سبقه، وإن الباب بات أمام القوى المعترضة والتغييرية مفتوحاً على كل الاحتمالات والمواقف والسياسيات، لكن ما دون الدخول في الفوضى، ولن يكون خاتمي في موقف المتفرج لأن مقاطعته تعني أنه قطع الخطوة النهائية والأخيرة للانتقال إلى الضفة الأخرى المواجهة للنظام والسلطة، وهي خطوة لم تكن لتحصل لو لم تتولد لديه قناعة بأن الطرف الآخر قد أسقط كل إمكانات التفاهم، وأقفل كل نوافذ التواصل والحوار.
هذا الموقف، وعلى رغم الصعوبات التي قد يحملها لخاتمي والقوى الإصلاحية في علاقتها مع منظومة السلطة، شكلت في الوقت نفسه رسالة واضحة لتيار داخل المعسكر الإصلاحي أو المعتدل، بأن محاولات إمساك العصا من الوسط عبر الدعوة إلى تبني إستراتيجية “المشاركة الاعتراضية” لن توصل إلى أية نتائج، بخاصة أن خاتمي والجماعات الإصلاحية التي تلتزم أو تقترب من توجهاتها، وتعمل تحت مظلة أبويته، قد اعتمدت هذه الإستراتيجية خلال الانتخابات الماضية والمرحلة السابقة، ولم تحقق أية نتيجة في مقابل الموقف المتشدد لمنظومة السلطة والدولة العميقة التي رفضت أية حلول وسطية، أو إمكان القبول بالشراكة مع القوى الأخرى في سبيل تحقيق أهدافها في استخلاص السلطة والدولة على طريق تحقيق مشروعها ورؤيتها لمستقبل النظام.
خروج خاتمي من دائرة الوسط الإصلاحي والانتقال إلى الدائرة الحسم في الموقف الذي يقارب إعلان الطلاق بين خطابه الموصول بالمبادئ والشعارات المثالية للثورة ومرحلة التأسيس، وبين خطاب النظام الأيديولوجي والساعي إلى تحويل البعد الديمقراطي والجمهوري للنظام إلى مجرد تنويع شكلي على الهدف النهائي لمشروعه السلطوي، على رغم أن هذا الخروج جاء متأخراً، إلا أنه قد يؤسس لآليات جديدة في العمل السياسي قد تلجأ إليها الأكثرية الشعبية والحزبية المعترضة، لا مكان فيها للوسطية أو تدوير الزوايا.