فاتورة الغذاء تعمق مخاوف المصريين في رمضان

فاتورة الغذاء تعمق مخاوف المصريين في رمضان

القاهرة – في الوقت الذي كانت الأسواق والمتاجر المصرية تتزيّن لاستقبال الزبائن قبيل حلول شهر رمضان، جاء قرار الحكومة بتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية ليحمل انتكاسة جديدة للأب محروس رزق الذي يعجز عن شراء الحد الأدنى من مستلزماته كالعادة في الشهر الكريم، وسط تشاؤم يطارده من قفزات جديدة في الأسعار بعد خطوة الحكومة بتعويم الجنيه.

وما أن سمع الأب، الذي يعمل موظفا إداريا بإحدى المدارس الحكومية في القاهرة، بقرار تحرير سعر صرف الجنيه، هرول إلى السوق المجاورة لمنزله في حي المطرية الشعبي، حتى صُدم من أسعار الكثير من السلع الأساسية، مثل الأرز والزيت والسكر والخضروات، وكل أنواع البروتين.

واعتقد رزق أنه سيذهب إلى السوق لشراء احتياجات منزله بسعر معقول قبل القفزات الجديدة على وقع التعويم، لكنه لم يستطع، فكل شيء يفوق قدراته المادية، فاكتفى بالقليل، وبدت على ملامح الرجل الخمسيني مشاعر القلق من إخفاقه في إسعاد أسرته.

وقال لـ”العرب” إنه عندما يقوم بجولة في بعض الأسواق لاستكشاف الواقع على الأرض قبل حلول رمضان، كان يشعر بإحباط لا يستطيع إخفاءه، وينتظر شهر الصيام لينزل بنفسه لشراء احتياجات أسرته في حدود المتاح، لكن الغلاء الذي تفشى في أسعار السلع هذا العام غيّر كل شيء.

وبدت نبرة رزق معبرة عن حال الكثير من الأسر المصرية التي كانت تنتمي للطبقة المتوسطة وتستطيع تدبير جزء كبيرا من احتياجاتها، لكنها تآكلت مع مرور الوقت وأصبحت من الفقراء أو قريبة منهم، فلا الرواتب تكفي التكاليف البسيطة للعائلة، ولا الأسعار مرشح لها أن تهبط بما يسمح بشراء كميات قليلة.

يكفي التجول لدقائق قليلة في الأسواق الشعبية الشهيرة في أحد أحياء القاهرة لاكتشاف انعكاس الغلاء على تقسيم أسعار السلع، إذ يتم أحيانا بيع هياكل الدواجن لمن يعجز عن شراء دجاجة، وقال ممدوح إبراهيم صاحب أحد المحال “لم يعد أحد يخجل من شراء هياكل الدجاجة لتناول الحد الأدنى من البروتين”.

وأضاف البائع لـ”العرب” أن معدلات بيع اللحوم انخفضت لمستويات قياسية بما يخالف توقعات الأيام التي تسبق رمضان كل عام، والكثير من المواطنين يبحثون عن بدائل أقل تكلفة، والمشكلة أن مصداقية الحكومة في الشارع تتراجع، ما يضع الباعة في مواجهة مع الناس، فالحكومة تتحدث عن انخفاض في الأسعار لكن المواطن يلاحظ أنها في ارتفاع مستمر، ما أصاب الفقراء بألم اضطرهم إلى تعديل أولوياتهم.

ومن كان يشتري ما يكفي احتياجاته حتى منتصف شهر رمضان، يضطر لخفض التكلفة إلى الحد الأدنى، بما يساعده على تجاوز الأيام الأولى من الصيام على الأقل، مع أن المصريين اعتادوا استقبال هذا الشهر بالمزيد من الإنفاق على الطعام دون ارتكان للأزمات، لكن مع محدودية الخيارات المتاحة أمامهم فرضوا التقشف على أنفسهم.

ويمكن بسهولة اكتشاف بعض الأنماط الاستهلاكية الإجبارية للمعيشة عند المصريين في الوقت الراهن، على أمل التكيف مع الأزمة الاقتصادية وما سيجلبه تحرير سعر الصرف من تداعيات على الأسعار، حيث باتت النسبة الأكبر من الناس تعتمد على التخلي عن الضروريات والتركيز على السلع والخدمات ذات الأولوية القصوى.

وينذر الانكماش في أولويات الأسر ووصلوها إلى أدنى درجة من الانفاق، بظهور جيل من الشباب على عدواة مع المجتمع بعد أن عاش ما يمكن وصفه بـ”الحرمان القاسي”، ما يؤثر على اتجاهاته ومشاعره، حيث يكبر البعض ولديه شعور بالحقد والنظر بعداء إلى الأسرة الميسورة، وفق كلام عادل بركات الباحث والخبير في العلاقات الاجتماعية والمحاضر في التنمية البشرية بالقاهرة.

تخفيض الإنفاق بلا جدوى
النسبة الأكبر من الناس باتت تعتمد على التخلي عن الضروريات والتركيز على السلع والخدمات ذات الأولوية القصوى

مظاهر التقشف غير المحدود عند الكثير من المصريين، تشير إلى أنهم باتوا مضطرين للتوقف عن شراء اللحوم والدواجن بعد وصول أسعارها لمستويات مرتفعة للغاية، فمن كان يشتري كيلوغراما من كل سلعة يكتفي بنصف الكمية أو أقل، وهناك من زهدوا فيها، هكذا الحال بالنسبة إلى سلع عدة أصبحت موجهة لطبقة معينة.

وبينما اعتادت الكثير من الأسر على شراء مستلزمات رمضان، وخاصة الياميش (فواكه مجففة ومكسرات)، كل عام قبل حلول شهر الصيام، بدا الأمر مختلفا هذا العام بعد أن ارتفعت أسعارها كثيرا، حتى في الأسواق الشعبية المفترض أن روادها من البسطاء ومتوسطي الدخل، لكن لديهم أولويات أهم من الياميش.

وقال عادل بركات لـ”العرب” إن خطورة الأزمة تكمن في انعكاسها سلبا على مزاج الناس، فتجارب التقشف السابقة التي اضطر لها المصريون في أوقات صعبة، كان حولها توافق مجتمعي وتكاتف بين الغني والفقير، لكن الآن بات التقشف وسيلة أخيرة لمواجهة انفلات السوق وغياب حلول الحكومة المنتجة.

وفشلت رهانات المصريين على المقاطعة، على أمل تدخل الحكومة لوقف الغلاء بمساعدة الشارع، واكتفت بحلول سطحية، وتبادلت الاتهامات مع تجار تراهم السبب الرئيسي في الأزمة، بينما يتمسك الناس بأن الحكومة تركتهم فريسة سهلة في ظل أوضاع اقتصادية قاسية، لحفنة من الجشعين الذين لا يهابون القانون.

منافذ حكومية لا تكفي
لا الرواتب تكفي التكاليف البسيطة للعائلة، ولا الأسعار مرشح لها أن تهبط بما يسمح بشراء كميات قليلة

رصدت “العرب” قيام الحكومة مؤخرا بالتوسع في زيادة أعداد منافذ بيع السلع الثابتة والمتحركة في أحياء مختلفة، وجرى طرح المنتجات بأسعار مخفضة نسبيا، بما يشي بتنامي شعورها أن الناس ضاقوا ذرعا من صعوبة توفير الطعام بما يناسب قدراتهم، والبديل الوحيد هو في التدخل الفوري لتقديم سلع غذائية بأسعار زهيدة مع ارتفاع معدل الغلاء والتضخم بنسب فاقت قدرات غالبية المواطنين.

ولم تعد تملك الأم صباح مصطفى، وهي ربة أسرة مكونة من خمسة أبناء وزوج، إلا اللجوء إلى منافذ الحكومة لشراء بعض السلع الضرورية بتخفيضات، معقبة “رغم تهاوي قيمة الجنيه، فمن المهم توفير كل جنيه، هذا ليس خيارا بل إجبارا”.

وأصبحت مصطفى تشتري القليل من السلع: “من كان يشتري كيلوغرام اللحم يقبل بالنصف وربما الربع، نحن نعيش ظرفا بالغ القسوة، والسلع التي نشتريها اليوم بسعر يرتفع سعرها في اليوم التالي، والكارثة أننا محاصرون بأعباء لا طاقة لنا على تحملها”.

وتتذكر الأم في حديثها مع “العرب” الوقت الذي كانت تتدبر فيه احتياجات شهر رمضان قبله بفترة طويلة كي لا تنفذ كميات السلع، “كنت أشتري الدجاج والأرز والزيت والياميش لأقوم بتخزينها، الآن بالكاد أكتفي باحتياجاتي الرئيسية وبلا رفاهيات، نعم توجد أطعمة لا غنى عنها، لكن نتأقلم مع الغلاء في ظل توقعنا أن الأسوأ لم يأت بعد”.

وبات شراء سبعة كيلوغرامات من اللحوم يساوي تقريبا نص الحد الأدنى للأجور الذي رفعه الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل أيام إلى 6 آلاف جنيه (حوالي 120 دولارا)، ما يجعل اقتناء هذه السلعة أمرا صعبا على نسبة كبيرة من المصريين، وكل وجبة تحتاج إلى أموال لا يستطيع محدودو ومتوسطو الدخل توفيرها، إذا أضيف لوجبة اللحم بعضا من الأرز والخضروات.

وتزداد خطورة الأزمة مع وجود أكثر من نصف المصريين تحت خط الفقر، ومع ذلك لم تخش الحكومة تحريك الأسعار وخفض قيمة الجنيه أو التدخل لضبط إيقاع الأمور، وهي تُدرك خطورة انفجار الغضب مع عجز الناس عن تدبير احتياجاتهم.

وأكد عادل بركات لـ”العرب” أن أكثر ما يثير مخاوف البسطاء أن يتلاقى ارتفاع أسعار الطعام وخياراتهم لتوفير الغذاء الضروري شبه منعدمة، وسط انخفاض قيمة التكافل الاجتماعي على وقع الغلاء وضغوط الأزمة الاقتصادية التي طالت الجميع.

تكافل اجتماعي خاص
الانكماش في أولويات الأسر ووصلوها إلى أدنى درجة من الانفاق ينذر بظهور جيل من الشباب على عدواة مع المجتمع

اعتاد مصريون ميسورو الحال توزيع مواد غذائية على غير المقتدرين كل عام قبل رمضان، لكن الوضع الاقتصادي الحالي أثر سلبا على معدلات التكافل، ما مثل انتكاسة جديدة لمن كانوا يتحصلون سنويا على كميات مناسبة من المساعدات في رمضان، تكفي بعض احتياجاتهم.

وأقام متابعون توقعاتهم بحدوث انخفاض ملحوظ في نسب المساعدات الخيرية هذا العام على عدم وجود أفق عاجل لحل الأزمة واستمرار معدلات الغلاء في الارتفاع، فالظروف الاقتصادية السيئة لم تعد تفرق بين البسطاء ومتوسطي الدخل والميسورين.

كما أن جهود برامج الحماية الاجتماعية الحكومية لم تعد كافية لتوفير احتياجات البسطاء وردم الهوة مع سوء الأوضاع المعيشية، فالناس يعانون في المأكل والمشرب والملبس والمواصلات ومصروفات التعليم والصحة، ومهما كانت هناك مظلة رعاية من الدولة، فالأوضاع قاسية على شريحة كبيرة من المواطنين.

ولم تكن هناك أزمة مثل تلك الموجودة حاليا خلال شهر رمضان الماضي، إذ كان الدعم التمويني من الحقوق المكتسبة التي لا يجوز الاقتراب منها يسد ثغرات عديدة، لكن الحكومة رفعت أسعار السلع التموينية ومنعت صرف بعضها، وأصبحت السوق الحرة المنفلتة طريقا واحدا أمام كل الفئات.

ولدى الحكومة رؤية مغايرة لتوفير السلع الضرورية للطبقات الكادحة، فهي ترفض استمرارها بالطريقة التي يريدها البسطاء، كأن تصرفها على بطاقات التموين، وترغب في تغيير هذا النهج من خلال منافذ البيع بسعر مخفض، وتوزيع كراتين من أحزاب قريبة من السلطة، ونشر عربات سلع تابعة للجيش والشرطة.

ويرتبط جزء كبير من الأزمة الحالية بقناعة الحكومة أن الغالبية الكاسحة من المصريين ليسوا دعاة ثورة ولا تحريض على الغضب، لقلة الحيلة واعتيادهم على ذلك وبإمكانهم تدبير أمورهم بما يبعدهم عن الصدام مع أجهزة الدولة، وربما يكون هذا التقدير هو الذي جعل الحكومة لا تتدخل بصرامة لضبط السوق والقضاء على أباطرة الأزمات.

وبعيدا عن الخيارات التي تمتلكها كل أسرة لتمرير هذه الفترة بأقل الخسائر ودون تأثر طعامها في رمضان بما يصل بهم إلى حد الحرمان، صارت الحكومة مطالبة بتحمل المسؤولية وعليها أن تتخلى عن النظرة الضيقة للأزمة، لأن الواقع على الأرض وخلف الكواليس ينذر بعواقب وخيمة، وتكفي ملامح القلق التي تكتسي وجوه الناس في الأسواق، للتأكد من الخطورة التي ينطوي عليها تفاقم الأزمات.

العرب