يبدو العالم في وقتنا الحالي شبه منقسم بين المعسكر الغربي والمعسكر المقابل، الذي تمثله أطراف على رأسها روسيا والصين. هذا الانقسام ظهر بجلاء إبان الحرب الأوكرانية، التي تضامنت فيها الدول الأوروبية والولايات المتحدة وغيرها من الدول، التي تحب أن تطلق على نفسها اسم «الديمقراطيات»، مع أوكرانيا لمواجهة ما اعتبرته اعتداء روسيا، ليس فقط على سيادة بلد، وإنما على مجمل قيم «العالم الحر». تعززت هذه الحالة بحديث الغربيين المتكرر عن معسكر الديمقراطية، الذي يدخل في صراع مع معسكر الاستبداد. معسكر الاستبداد هذا تدخل فيه دول ذات مظهر ديمقراطي، فكل ديمقراطية تكون منقوصة ما دام أصحابها مناوؤن للهيمنة الغربية. جعل ذلك كله كثيرا من الكتاب والمحللين يصفون واقع الحال بأنه مشابه لما كان عليه الأمر في منتصف القرن الماضي، إبان احتدام المعارك بين قطبي العالم، موسكو وواشنطن. اليوم أيضا يسعى كل طرف لاستمالة مزيد من الدول إلى صفه. تعلم الدول بالتجربة أن للانحياز المطلق للولايات المتحدة ثمنا. في المقابل، وكما كان الأمر في القرن الماضي، فإنه يتم التعامل مع التقارب، الذي تمثله علاقة بعض الدول بروسيا أو الصين، كونه اصطفافا ضد المصالح الغربية، أو انحيازا للمعسكر المعادي، ما يجعل الدول الأكثر هشاشة في موضع لا تحسد عليه.
الناظر للوضع الجيوبوليتيكي الحالي يلاحظ وجود بعض الشبه بحالة الحرب الباردة، وهو ما ترى فيه أطراف كثيرة فرصة لكسر احتكار التفرد الأمريكي بالقرار الدولي. ترى هذه الأطراف أن هذه الثنائية هي أفضل بكثير من عالم أحادي القطب والرؤى. المناوأة التي تظهرها روسيا ضد المشاريع الغربية في منطقتنا العربية، هي أوضح دليل على أهمية وجود ازدواج في القوة الدولية. روسيا، وإن كانت تتحرك وفق مصلحتها الوطنية، وهو أمر لا غبار عليه، إلا أن انتقادها للرعاية الغربية لتواطؤ «العالم الحر» مع الاحتلال الإسرائيلي، على سبيل المثال، إضافة لمواقفها الأخرى، التي ساعدت على صمود الأنظمة المضادة للنفوذ الفرنسي والغربي في القارة الافريقية، كل ذلك كان يشعر بأهمية وجودها.
الناظر للوضع الجيوبوليتيكي الحالي يلاحظ وجود بعض الشبه بحالة الحرب الباردة، وهو ما ترى فيه أطراف كثيرة فرصة لكسر احتكار التفرد الأمريكي بالقرار الدولي
شبه آخر يتمثل في كوننا نعيش في لحظة الخوف من الحرب الشاملة ذاتها، فالفكرة وراء الحرب الباردة كانت تتمثل في التأكيد على خطورة الصراع العسكري التقليدي بعد توصل كل من الولايات المتحدة وروسيا للقنبلة النووية. كان السلاح النووي قويا لدرجة تكفي، ليس فقط لهزيمة هذه الدولة أو تلك، وإنما لإنهاء العالم والحضارة. هذا كان يجعل هذا السلاح أكثر فعالية من اللازم، وذا وظيفة رادعة أكثر من كونه قابلا للتطبيق الفعلي. على جانب هذه التشابهات يجب أيضا النظر إلى الفروق الكبيرة التي أولها، أن روسيا الحالية ليست في أي حال هي روسيا السوفييتية القوية ذات المشروع الشيوعي، وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة، التي بدأت تفقد الكثير من ملامح قوتها ونفوذها. كان الصراع الفكري حول المنهج الاقتصادي الذي يجب أن يسود في العالم هو أساس الحرب الباردة. الطريف في هذا الأمر، أن انتقادات كل طرف للآخر كانت لا تخلو من صحة، فمن ناحية أدى التطبيق الصارم للمبادئ الشيوعية الممزوجة مع الديكتاتورية الستالينية للكثير من المآسي، التي كان على رأسها المجاعة العظيمة، التي ضربت أجزاء واسعة من الدولة السوفييتية، وعلى رأسها للمفارقة أوكرانيا الحالية. حدثت المجاعة بعد لجوء الحكومة لإجراءات من قبيل نزع ملكيات الأراضي واستهداف الفلاحين، وأدت لمقتل ملايين الناس، الذين وصل بعضهم درجة أكل أوراق الشجر، بل التحول، كما ورد في بعض الروايات، لأكل لحوم البشر.
من ناحية أخرى كان المجتمع الأمريكي المنفتح، الذي بدأ في تجريب الرأسمالية بوجهها الجشع يقع ضحية تخطيطه المالي الذي ظنه ناجحا أيضا، حيث أنتج هذا النظام ما عرف بأزمة «الكساد الكبير»، التي أطلت برأسها في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي تحول بموجبها الآلاف من الأمريكيين لعاطلين عن العمل أو فقراء يترددون على مطابخ الأكل الخيري. كانت أزمة الكساد الكبير كبيرة لدرجة أنها سمحت بانتشار الأفكار الشيوعية، كبديل لما اعتبر أنه فشل ذريع للاقتصاد الحر. الشعب الأمريكي المحبط، لم يكن يعلم حقيقة ما يجري في روسيا الشيوعية، التي كانت تقول دعايتها أنها البلد، الذي يوفر الرعاية الصحية والعمل والسكن والأجور الجيدة لجميع المواطنين. كان ذلك عصر الدعاية بامتياز، ومثلما قام الشيوعيون بالكثير من أجل التبشير بمشروعهم وإظهار المواطنين داخل الاتحاد السوفييتي بمظهر السعداء، كان الأمريكيون بالمقابل يدشّنون دعاية مضادة، من خلال الفنون والسينما ومظاهر القوة الناعمة الأخرى، التي ظهر بها العالم خارج أسوار برلين المنقسمة، كعالم حر تتوفر فيه الفرص المتساوية ويسمح فيه للجميع بالترقي الاجتماعي. صحيح أن هناك دور لا ينكر للدعاية اليوم، وأن هذه الدعاية اكتسبت الكثير من الطرق والآليات الجديدة، التي تدخل فيها وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية وغيرها، إلا أن الأمر كان أكثر كثافة في عصر الحرب الباردة. كان التحكم في المعلومات المنشورة والمتداولة أسهل بكثير. كثير من الناس كانوا لا يعلمون حقيقة ما يحدث خارج حدود بلادهم. أما إذا تعلق الأمر بالمعسكر المقابل، فإن كل المعلومات المتوفرة تكون سلبية، حتى يشعر المواطن بأنه يعيش في أفضل وضع ممكن.
كانت تلك هي أيضا فترة الريبة الكبرى والخوف، وإذا كان الناس يذكرون ما كان يحدث في الاتحاد السوفييتي من استهداف وتصفية، طالت حتى قيادات شيوعية على مستوى رفيع كتروتسكي، فإن الحال في أوج الصراع لم يكن أفضل بكثير في الولايات المتحدة، التي فوجئت باعتماد السوفييت على تسريب المخططات الأمريكية لما كان يعرف بمشروع منهاتن النووي. حفز ذلك السلطات والمجتمع الأمريكي للحديث عن العملاء والجواسيس الموجودين في الداخل والمتوزعين في وظائف استراتيجية. كان المستهدفون بالدرجة الأولى هم الشيوعيون الحاليون أو السابقون. ظهرت حينها عبارات من قبيل إن أي شيوعي هو بالضرورة جاسوس لصالح السوفييت، وإن أي شيوعي يجب أن يتم عقابه أو كما كان يقول الشعار الشهير: «الشيوعي الجيد هو الشيوعي الميت». اللجنة الدستورية الخاصة بالحفاظ على المصالح الأمريكية واللجنة التطهيرية التي قادها العضو في مجلس الشيوخ جوزيف مكارثي، لم تكتف بملاحقة المنتمين للشيوعية، وإنما مضت لملاحقة وعقاب المتهمين بالولاء للشيوعية، أو المتعاطفين معها، وفق ما كانت تراه اللجنة، ما أدى لمعاقبة الآلاف عبر السجن والفصل من الوظيفة دون قرائن كافية. أخذ الأمريكيون الكثير من الوقت قبل أن يكتشفوا أن المتهمين الذين كانت منهم أسماء معروفة ومشهورة في مجال العلم أو الفن، كانوا جميعا بريئين تماما مما نسب إليهم من تهم.
على الرغم من مرور عقود على سقوط جدار برلين، إلا أن الريبة لم تنته، وكذلك المغامرات الجاسوسية، يُتهم اليوم الروس بالتدخل في الانتخابات الأمريكية والتلاعب بها، كما يتهمون بإنشاء علاقة مصلحة مع نافذين أمريكيين. في الجهة الأخرى تواصل الولايات المتحدة استخدام قوتها الناعمة من أجل تطويق الروس وحلفائهم، وإظهار ضعف حججهم واستهانتهم بالحريات، في مقابل رسم صورة لا تخلو من مبالغة للدول الغربية، حيث الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة.