أين أوروبا من الحرب في غزة؟

أين أوروبا من الحرب في غزة؟

كيف تراجعت مواقف الدول الأوروبية من إصدار إعلان البندقية 1982 الذي أقر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحق إقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من يونيو / حزيران 1967 ومن الإسهام في الجهود التفاوضية لإحلال السلام في الشرق الأوسط وحل الدولتين بين إسرائيل وفلسطين طوال عقدي التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة إلى المراوحة بين الدعم العسكري والمالي لإسرائيل في حرب تحمل ملامح الإبادة وبين الصمت على أكثر من ثلاثين ألفا من القتلى الفلسطينيين وعلى دمار تشبه مشاهده مشاهد المدن الأوروبية المدمرة في الحرب العالمية الثانية؟
كيف تبدلت دبلوماسية الأوروبيين (في الاتحاد وفيما خص بريطانيا) من إطلاق جهود الوساطة والإعلان عن مبادرات توافقية كلما اشتعلت الأوضاع في غزة أو الضفة الغربية والقدس الشرقية والبحث عن سبل للتهدئة وتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية والمالية إلى الاكتفاء بجولات محدودة ولا طائل من ورائها لبعض وزراء الخارجية والعجز عن طرح مبادرة واحدة لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب والركض وراء موقف الإدارة الأمريكية التي جمدت تمويل وكالة غوث اللاجئين «أونروا» وتجاهل الكارثة الإنسانية مكتملة الأركان التي يعاني منها أهل غزة وأخطار المجاعة وانتشار الأوبئة والمنشآت المدمرة والبيئة التي صارت أشبه بالأرض المحروقة؟
ما الذي حدث للأوروبيين الذين يصنفون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منطقة جوار ذات أهمية استراتيجية كبيرة ودوما ما سعوا إلى حل صراعاتها واحتواء توتراتها حتى وإن أخطأوا الحسابات كما فعلوا في سوريا وليبيا بين 2011 واليوم؟ وما الذي حل بالعقل السياسي لصناع القرار في بروكسل وباريس وبرلين ولندن لكي يتركوا كل هذا القتل والدمار دون تدخل حقيقي لإيقافهما ويصنفون تلويح غير واضح المعالم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية (وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك ووزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون) أقصى ما يمكن أن يقدموه وهم ينتظرون إن من الولايات المتحدة أو من جهود الوساطة التي تقوم بها الأطراف العربية أو من تقلبات موازين القوة والسياسة في إسرائيل وفلسطين أن تأتي بوقف إطلاق النار؟

أوروبا المنسحبة من الحرب في غزة لا تجد بين بيروقراطية اتحادها في بروكسل وبين دبلوماسياتها الكبيرة في باريس وبرلين ولندن من التوافق الفعلي والموارد المتاحة ما يمكنها من إضافة أمور إسرائيل وفلسطين

أغلب الظن أن أوروبا المنسحبة من الحرب في غزة لا تجد بين بيروقراطية اتحادها في بروكسل وبين دبلوماسياتها الكبيرة في باريس وبرلين ولندن من التوافق الفعلي والموارد المتاحة ما يمكنها من إضافة أمور إسرائيل وفلسطين إلى دورها في الحرب الروسية ـ الأوكرانية. تدعم أوروبا أوكرانيا عسكريا وماليا، وتواجه روسيا اقتصاديا وتجاريا متحملة كلفة باهظة فيما خص واردات الطاقة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وتخصص المزيد في موازناتها للإنفاق الدفاعي والتسليح، وتستثمر الكثير من الجهد التفاوضي في تنسيق المواقف المتضاربة بين دول كألمانيا التي تواصل إرسال السلاح والمال إلى أوكرانيا وتعلن عن حتمية احتواء روسيا وبين دول كبولندا والمجر ورومانيا التي تعارض مواصلة التورط في حرب خاسرة تقترب فيها روسيا من تحقيق كافة أهدافها (السيطرة على شبه جزيرة القرم دون منازعة وضم الأراضي ذات الأغلبيات العرقية في شرق أوكرانيا والمنع الفعلي لانضمامها إلى حلف الناتو).
تستحوذ الحرب الروسية-الأوكرانية، إذا، على طاقات وموارد أوروبا وتستنفد جهودها الدبلوماسية في التنسيق بين دولها لمواصلة اتخاذ مواقف جماعية، حتى وإن غاب عن تلك المواقف البحث عن حلول تفاوضية للحرب والضغط على طرفيها للحوار (فقط في هذا السياق يمكن فهم ردود الأفعال الغاضبة التي استدعتها دعوة بابا الفاتيكان إلى التفاوض بين روسيا وأوكرانيا من قبل المسؤولين الأوروبيين، وكأن المطالبة بالحلول السلمية للحروب والصراعات صارت من المحرمات). ولأن الحرب المشتعلة في قارتهم تتصدر قائمة أولوياتهم، لا يريد الأوروبيون التحرك فيما خص الحرب في غزة على نحو يتجاوز حدود دبلوماسية البيانات الرسمية والاهتمام عن بعد وبعض الجولات الإقليمية التي لا تسفر عن شيء يذكر.
من جهة ثانية، يرتبط الانسحاب الأوروبي بما تراه بروكسل وباريس وبرلين ولندن ضرورات عدم الخروج عن محددات الموقف الأمريكي من الحرب، وأهم تلك المحددات هو كون واشنطن لا تعارض استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية (بما في ذلك الاجتياح البري لرفح) وإنما تختلف مع حكومة بنيامين نتنياهو بشأن شروط إدارتها التي ترغب القوة العظمى في تحولها في اتجاه حماية أرواح المدنيين وتوفير ملاذات آمنة لهم قبل اجتياح رفح والحد من الكارثة الإنسانية بإدخال المزيد من المساعدات دون أن يعني ذلك مثلا رفع الحظر المفروض على «الأونروا» أو الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتخفيف إجراءات التفتيش المجحفة للمساعدات التي تمر من معبر رفح إلى القطاع.
يعني ذلك أن الأوروبيين، ومنهم من لا يريدون الابتعاد قيد أنملة عن الموقف الأمريكي كدول وسط وشرق القارة، يتجنبون التورط في غزة لكيلا تتناقض سياساتهم مع الأخ الكبير في واشنطن.
من جهة ثالثة، يمثل الانسحاب الأوروبي حصيلة تقلبات السياسات الداخلية في عديد دول الاتحاد وفي بريطانيا التي تواجه صعود اليمين الشعبوي، وتعاني من نقاشات عقيمة ولكنها خطيرة عن التطرف والعداء للسامية والإسلاموفوبيا، وتبحث عن الحفاظ على التوافق بين مجموعات سكانية متنوعة بها من يرون أن حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها يتجاوز كل اعتبار آخر وبين صفوفها من يدافعون عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ويرون الصهيونية كإيديولوجية عنصرية واستيطانية عدوانية لا تستحق الدعم.
وبين هذا وذاك، ومع حضور المصالح المالية والسياسية القريبة من جماعات الضغط الصديقة لإسرائيل من جهة وتداعيات التاريخ الخاص لاضطهاد النازيين لليهود الأوروبيين التي تدفع ألمانيا إلى الانحياز الكامل لحرب إسرائيل الظالمة في غزة من جهة أخرى، تبتعد أوروبا خوفا على استقرار مجتمعاتها وسلمها الأهلي وتجنبا لأزمات هوية حادة ليس سوى لليمين الشعبوي أن يوظفها ويستفيد منها.