لماذا يتصاعد التوتر بين تركيا وروسيا؟

لماذا يتصاعد التوتر بين تركيا وروسيا؟

Russian President Vladimir Putin attends a meeting with Turkish President Tayyip Erdogan in Sochi, Russia, September 4, 2023. Sputnik/Sergei Guneev/Pool via REUTERS ATTENTION EDITORS – THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

تشهد العلاقات التركية-الروسية توتراً ملحوظاً على خلفية غياب التوافق بين الطرفين خلال الآونة الأخيرة، وتصاعد الخلاف حول بعض الملفات الشائكة. ولعل هذا ما بدا جلياً في إثارة الحكومة التركية مجدداً قضية شبه جزيرة القرم، في 16 مارس الجاري (2024)، بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لضم روسيا لشبه الجزيرة، حيث جددت الخارجية التركية رفضها الاعتراف بضم روسيا للقرم، مشددة على دعم تركيا لوحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها، ما أثار حفيظة روسيا التي انتقدت هذه التصريحات، وطالبت تركيا بالامتناع عن التدخل في شئونها الداخلية.

كما ظهر الخلاف أيضاً في 11 فبراير الماضي مع إعلان الكرملين تأجيل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا إلى موعد لاحق، وارتبط التأجيل، في جانب منه، باستياء موسكو من التغير الحادث في توجهات السياسة الخارجية التركية، بعد تخليها عن المحافظة على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة، وهو ما يرشح العلاقات بين الطرفين للمزيد من التوتر خلال الفترة القادمة، خاصة بعد أن وافقت أنقرة على انضمام السويد وقبلها فنلندا إلى عضوية حلف الناتو.

دوافع رئيسية
ثمة العديد من العوامل التي تدفع إلى تنامي التوتر بين تركيا وروسيا خلال الآونة الأخيرة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- رفض تركيا تحركات روسيا تجاه أوكرانيا: ترفض تركيا موقف روسيا من قضية شبه جزيرة القرم، وتعارض التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو ما يثير استياء موسكو. فقد أعلنت تركيا رفضها لاستمرار الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، وأكدت المضي قدماً في مراقبة التطورات داخل القرم، وأنها ستضع وضع أتراك تتار القرم على جدول أولوياتها. وتشير بعض التقديرات إلى أن أنقرة تدعم بشكل غير مباشر الحركات الإسلامية المناهضة للتفوذ الروسي في آسيا الوسطي بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي للجزء الموالي لأوكرانيا من تتار القرم.

في المقابل، وعلى الرغم من محاولة أنقرة ممارسة دور الوسيط وإقرار السلام بين موسكو وكييف، إلا أنها رفضت التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وتصاعدت الدعوات التركية مؤخراً لضرورة إنهاء القتال، والحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية.

2- تمرير عضوية السويد وفنلندا بحلف “الناتو”: تصاعد التوتر بين أنقرة وموسكو مؤخراً بعد موافقة البرلمان التركي، في 24 يناير الماضي، على طلب السويد الانضمام لحلف “الناتو” فضلاً عن موافقة سابقة، في 31 مارس 2023، على تمرير مشروع قانون يسمح لفنلندا بالانضمام للحلف. وأثارت موافقة أنقرة على عضوية السويد وفنلندا استياء موسكو، التي تخشى نشر وحدات وإقامة بنية تحتية عسكرية تابعة لـ”الناتو” بالقرب منها. ولذلك فرض التحول الحادث في سياسات تركيا تجاه عضوية السويد وقبلها فنلندا تداعيات عكسية على العلاقات التركية-الروسية، وربما يؤدي إلى صدام بين أنقرة وموسكو.

فوفقاً لتقديرات روسية، فإن الموافقة التركية على عضوية السويد لم تأخذ في الحسبان المصالح الاستراتيجية لموسكو التي تعتبر أن دمج السويد وفنلندا في حلف “الناتو” يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، خاصة لجهة تمكين الحلف من الاقتراب من حدودها وتحييد قسم من قدراتها العسكرية على غرار الأسطول الروسي في بحر البلطيق.

3- التقارب التركي مع الغرب: شهدت العلاقات التركية مع الدول الغربية المناهضة لروسيا تطوراً لافتاً في الآونة الأخيرة، حيث عادت مساحات التوافق بين أنقرة ووشنطن، على نحو كشفت عنه زيارة وزير الخارجية التركي هكان فيدان للولايات المتحدة الأمريكية، في 7 و8 مارس الحالي، لحضور اجتماعات الآلية الاستراتيجية التركية-الأمريكية، التي تقرر تشكيلها خلال لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الأمريكي جو بايدن على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في روما في عام 2021.

كما شهدت العلاقات الدفاعية بين انقرة وواشنطن نقلة كبيرة بعد موافقة الكونجرس الأمريكي على صفقة طائرات F16 المتطورة لتركيا، ورفع القيود والعقوبات التي فرضتها واشنطن في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب على هيئة الصناعات الدفاعية التركية بموجب قانون “مكافحة أعداء أمريكا”.

على صعيد متصل، تصاعدت المخاوف الروسية بعد انضمام تركيا رسمياً في 16 فبراير الماضي إلى مبادرة درع السماء الأوروبية (ESSI) التي تقودها ألمانيا. وتأتي فكرة الدرع الأوروبية التي طرحتها برلين في عام 2022 عشية اندلاع الأزمة الأوكرانية، في إطار محاولة إنشاء نظام صاروخي متكامل قصير ومتوسط وطويل المدى لحماية الأمن الأوروبي من المخاطر الروسية.

4- تجميد حسابات روسية: اتخذت بنوك تركية إجراءات بإغلاق حسابات شركات روسية بالإضافة إلى تشديد الإجراءات المطلوبة من المواطنين الروس الذين يرغبون في الحصول على البطاقات البنكية في تركيا. ويرتبط التحول التركي الأخير بالرغبة في تحسين العلاقات مع الدول الغربية، وتقليص مساحات الخلاف معها، خاصة بعد مرسوم الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 22 ديسمبر الماضي، والذى سمح لوزارة الخزانة الأمريكية باتخاذ تدابير ضد البنوك الأجنبية التي تساعد في إجراء المعاملات مع الأشخاص الخاضعين للعقوبات من روسيا أو تقوم بتسهيل توريد مواد ومعدات معينة إلى المجمع الصناعي العسكري الروسي. وهنا، يمكن فهم استجابة أنقرة لمطالب واشنطن بشأن ضرورة الانضمان للعقوبات الثانوية المفروضة على موسكو من خلال إغلاق حسابات الشركات الروسية في البنوك التركية. ويشار في هذا الصدد إلى أن الشركات الروسية تستخدم تركيا كسلطة عبور للمدفوعات والتسليم عن تجارتها، وخاصة تجارة النفط والغاز التي تواجه صعوبات في تصدير إنتاجها إلى الأسواق العالمية، بسبب العقوبات الغربية على قطاع النفط الروسي. كما فرضت قيود على استخدام البنوك التركية من قبل المواطنين الروس، مما أثر سلباً على حركة التجارة والاستثمار بين البلدين.

5- تكثيف التعاون الدفاعي مع كييف: لا ينفصل التوتر بين أنقرة وموسكو عن التطور الحادث في العلاقات الدفاعية بين أنقرة وكييف، حيث تعمل شركة “بايكار ماكينا” التركية على إكمال بناء مصنع طائرات مسيرة في أوكرانيا بحلول عام 2025، لا سيما وأن الشركة التركية تخطط لاستخدام محركات AI-322F الأوكرانية لإنتاج مسيرات من طراز بيرقدار كيزيليما الأسرع من الصوت. وقد تصاعد القلق الروسي من التعاون العسكري بين أنقرة وكييف، على نحو بدا جلياً في إعلان المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف، في 9 أغسطس 2022، بأنه إذا ما ظهر مصنع لمسيرات “بيرقدار” التركية في أوكرانيا فإن الجيش الروسي سيدمره على الفور في إطار مهمة نزع سلاح أوكرانيا.

6- عرقلة موسكو للتطبيع التركي-السوري: على الرغم من رعاية موسكو على مدى السنوات الثلاث الماضية لقاءات على مستويات مختلفة بين الجانبين التركي والسوري بهدف تطبيع العلاقات، فإن ثمة تحولاً يبدو لافتاً في موقف موسكو ظهر عشية الجولة 21 لاجتماعات “مسار أستانا” للحل السياسي في سوريا التي عُقدت في 26 يناير الماضي، حيث أكدت موسكو على أن إصرار تركيا على عدم الانسحاب من الأراضي السورية يعيق جهود التطبيع، وقال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، في 26 يناير الماضي، على أن الوجود التركي في سوريا “يعيق تطبيع العلاقات بين البلدين”. وثمة تقديرات تركية تشير إلى أن التشدد الروسي تجاه التقارب السوري-التركي في هذا التوقيت يرتبط بالمنظور السلبي لدى القيادة الروسية التي تبدى قلقاً من انعطافة أنقرة تجاه الغرب، وتخليها عن موقفها الحيادي تجاه الأزمة في أوكرانيا.

7- تصاعد التنافس في الملفات الخارجية: يعود التوتر بين موسكو وأنقرة، في قسم منه، إلى سعى كل طرف إلى محاصرة وتحييد حضور الآخر في مناطق النفوذ المشتركة، وكان بارزاً هنا حرص أنقرة على استثمار الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية لتعزيز حضورها في منطقة القوقاز، وخاصة الجمهوريات الناطقة بالتركية، بالإضافة إلى توسيع حضورها الميداني على الساحة السورية، وذلك في مقابل مساعٍ روسية لتعزيز الدور ومزاحمة النفوذ التركي في ليبيا ومناطق غرب أفريقيا.

ارتدادات محتملة
في ضوء التوتر المتصاعد بين أنقرة وموسكو، فإن ثمة تداعيات محتملة على العلاقات الروسية-التركية، في الصدارة منها اتساع مساحة الخلاف بين موسكو وأنقرة، فبينما يتوقع أن تذهب تركيا في استمرار معارضتها للتدخلات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو ما ظهر مؤخراً في تجميد البنوك التركية بعض الحسابات المصرفية الروسية، يرجح أن تتجه موسكو نحو إعاقة التحركات العسكرية التركية المحتملة في الشمال السوري خلال المرحلة المقبلة ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، خاصة أن ثمة غطاءً روسياً لوحدات حماية الشعب الكردية في مناطق منبج وتل رفعت شمال شرق سوريا. كما يتوقع عدم تجاوب موسكو مع دعوات أطلقها الرئيس التركي عشية استقباله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في 8 مارس الجاري، لعقد قمة سلام بين موسكو وكييف، وتحييد أنقرة كوسيط في الأزمة الأوكرانية.

على صعيد متصل، يتوقع أن تحاول موسكو استثمار ورقة الغاز لتعزيز ضغوطها على أنقرة خلال المرحلة المقبلة، لا سيما وأن الأخيرة تعتمد على تلبية نحو 70% من احتياجاتها الغازية من الأولى. كما يرجح أن يسفر التوتر بين الطرفين عن توقف بعض المشروعات المشتركة، وأهمها إنشاء “مركز الغاز” الروسي في تركيا، والذي تعول موسكو على تحويله إلى منصة للإمدادات إلى دول أخرى، ومنها الدول الأوروبية.

ختاماً، يمكن القول إنه رغم الخلافات المتصاعدة بين موسكو وأنقرة حيال عدد واسع من القضايا الإقليمية، إلا أن ذلك لا يعنى وصول العلاقات إلى حد القطيعة، فقد يتجه البلدان إلى ضبط حدود هذه الخلافات، وإعادة صياغة العلاقات وفقاً للمصالح البراجماتية لكليهما، حيث يرتبط البلدان بحجم هائل من العلاقات الاقتصادية، وتُقدر المبادلات التجارية بنحو 62 مليار دولار، تبذل جهود حثيثة من أجل زيادتها إلى 100 مليار دولار.