بعد ساعات من وقوع العملية الإرهابية داخل قاعة “كروكوس سيتي” بالقرب من موسكو، في 22 مارس الجاري (2024)، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من 150 من المدنيين وإصابة المئات حتى الآن، في واحدة من أسوأ الهجمات التي تشهدها روسيا منذ سنوات، أعلن تنظيم داعش الإرهابي عبر تطبيق تلغرام مسئوليته عن الهجوم الإرهابي، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول أسباب قيام فرع خراسان تحديداً بتنفيذ العملية وليس فرع القوقاز، التي تدخل روسيا ضمن نطاق عملياته جغرافياً، والأهداف التي يسعى داعش إلى تحقيقها عبر ذلك.
هيكلة قديمة
دخل تنظيم داعش في إعادة هيكلة تنظيمية منذ مقتل أبي الحسن الهاشمي القرشي في أكتوبر 2022، وهو الزعيم الثالث للتنظيم. ومع تولي أبي سارة العراقي مسئولية الولايات البعيدة في عهد زعيم التنظيم الرابع أبي الحسن الحسيني القرشي، قام بإعادة هيكلة ما يسمى بالولايات البعيدة، وهي الولايات التي تقع خارج نطاق الأفرع المركزية (سوريا والعراق)، بالإضافة إلى تشكيل مستوى أعلى يسمى المكاتب الإدارية التي تشرف على أفرع التنظيم، حيث أقر أبو سارة العراقي 9 مكاتب إدارية تشرف على 16 فرع للتنظيم، ولكل مكتب أمير يكون حلقة الوصل -من الجانب الإداري- بين مركز التنظيم وفروعه، على أن يتم التواصل بين المركز وأمراء المكاتب مرتين في الشهر.
وفي هذا السياق، تم دمج أفرع وفصل أخرى كما حدث بفصل فرع التنظيم في موزمبيق عن فرع التنظيم في وسط أفريقيا، ودمج فرع القوقاز مع فرع خراسان تحت إشراف مكتب واحد، حيث تم دمج مكتب الصديق المسئول عن ولاية خراسان (أفغانستان) والدول الحدودية وكذلك ولاية شرق آسيا (الفلبين وإندونيسيا والهند وباكستان) مع مكتب الفاروق المسئول جغرافياً عن تركيا والدول الحدودية معها والقريبة منها والقوقاز وروسيا، وتكليف شهاب المهاجر – المعروف أيضاً باسم ثناء الله غفاري – بتولي مسئولية المكتب بمنصب أمير، بالإضافة لكونه مسئول تنظيم خراسان.
ومع تصاعد حدة العمليات الإرهابية للتنظيم في أفغانستان وباكستان وإيران، كلف شهاب المهاجر بمسئولية مكتب الصديق ليتسع نطاق عمليات التنظيم الجغرافية لتشمل أفغانستان والفلبين وإندونيسيا والهند وباكستان وتركيا والدول الحدودية معها ودول القوقاز وروسيا، وهو ما يفسر أسباب قيام تنظيم خراسان بتنفيذ العملية الإرهابية في روسيا، وليس فرع التنظيم في القوقاز.
هل العملية مُفاجِئة أم متوقعة؟
تأتي العملية الإرهابية الأخيرة في موسكو استكمالاً لنشاط متنامٍ لتنظيم داعش داخل الأراضي الروسية، وهو عكس ما يتم تداوله من أن العملية كانت مُفاجِئة بالنسبة لأجهزة الأمن الروسية. فقد كان لافتاً أن المكتب الإعلامي للجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب أعلن، في 3 مارس الجاري، قتل 6 عناصر من أتباع تنظيم داعش خلال عملية لمكافحة الإرهاب في مدينة كارابولاك بجمهورية إنجوشيا، وهي كيان اتحادي وإحدى الجمهوريات الفيدرالية في روسيا. وقال المكتب الإعلامي في هذا الصدد: “نتيجة لعملية مكافحة الإرهاب التي نفذها مقر عمليات اللجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب في جمهورية إنجوشيا، تم تحييد 6 قُطّاع طرق في أحد المباني السكنية في مدينة كارابولاك”، مضيفاً أنه “تم التعرف على هوياتهم، وبحسب المعلومات الأوّلية فإنهم من أتباع تنظيم داعش، وكان 3 منهم، بمن فيهم زعيم العصابة، على قائمة المطلوبين الفيدرالية”. وأضافت اللجنة أن “المسلحين، الذين تمت تصفيتهم، متورطون في أعمال إرهابية، بما فيها الهجوم على مركز لشرطة المرور وقتل 3 من ضباط الشرطة في مارس 2023، وأنه خلال تفتيش موقع الاشتباك، تم العثور على أسلحة وذخائر وقنابل يدوية وعبوة ناسفة”، مؤكداً عدم وقوع إصابات بين رجال الأمن أو المدنيين.
وفي 7 مارس الجاري، أعلنت أجهزة الأمن في روسيا أنها قتلت مسلحين من تنظيم داعش، كانوا يخططون لـ”هجوم إرهابي” على كنيس في موسكو. وقال جهاز الأمن الفدرالي إن خلية للتنظيم المتطرف في كالوغا، جنوب غربي موسكو، كانت تخطط لإطلاق النار على مصلّين يهود في كنيس في العاصمة. ونقلت وكالة “تاس” للأنباء عن جهاز الأمن قوله في بيان: “خلال اعتقالهم أبدى الإرهابيون مقاومة مسلحة لضباط جهاز الأمن الفدرالي الروس ونتيجة لذلك تم تحييدهم بإطلاق النار في المقابل”. وأضاف البيان: “عثر على أسلحة نارية وذخائر إضافة إلى مكونات لتصنيع عبوات يدوية متفجرة وتم ضبطها”، وكشف أن المسلحين أعضاء في الفرع الأفغاني لتنظيم داعش من دون أن يحدد جنسياتهم.
وفي اليوم نفسه، 7 مارس الجاري، أصدرت السفارة الأمريكية في موسكو تحذيراً لمواطنيها من الذهاب للمسارح والتجمعات، وهى مؤشرات في مجملها تؤكد أن قيام تنظيم داعش خراسان بعملية في روسيا كان احتمالاً مرجحاً بشكل كبير، على نحو قد يعرض أجهزة الأمن الروسية لانتقادات وضغوط شديدة في الفترة القادمة.
مغزى التوقيت
تطرح العملية الإرهابية الأخيرة في موسكو دلالات عديدة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- عملية انتقامية: تأتي العملية الإرهابية بعد نجاح القوات الروسية، بالتعاون مع حكومة مالي، في القضاء على أكثر مناطق التنظيم نفوذاً، بالإضافة إلى تعاون القوات الروسية مع دول منطقة الساحل الأفريقي في محاربة التنظيم، حيث كان لهذا التعاون الروسي مع دول الساحل وخصوصاً مالي وبوركينافاسو والنيجر دور أساسي في تحجيم نشاط التنظيم، على نحو يمكن القول معه إن العملية الأخيرة في موسكو، مثلت، في جانب منها، رداً على نجاح الدور الروسي في مكافحة التنظيم بمنطقة الساحل الأفريقي.
2- رسالة سياسية: جاءت العملية بعد أيام من انتهاء الانتخابات الرئاسية الروسية وإعلان فوز الرئيس بوتين، حيث يسعى التنظيم لتوجيه رسالة مباشرة تفيد بأنه باتت لديه القدرة على تنفيذ عملية كبرى في قلب العاصمة الروسية وقبل بدء الولاية الجديدة للرئيس الروسي.
3- إظهار النفوذ والسيطرة: يسعى التنظيم عبر العملية الأخيرة في موسكو إلى إثبات النفوذ بعد سنتين من التراجع الحاد في نشاطه داخل دول الارتكاز المختلفة، مع توقف هذا النشاط خارج نطاق أفرع التنظيم في أفريقيا وآسيا، حيث يحاول التنظيم عبر ذلك تأكيد قدرته على الوصول إلى أوروبا.
4- إثبات القيادة: يبذل شهاب المهاجر جهوداً حثيثة من أجل إثبات قدرته على تولي مسئولية مكتب داعش، وهو هدف يكتسب أهمية خاصة بالنسبة له، لا سيما أنه أحد المرشحين لتولي مسئولية إدارة الولايات البعيدة، بل إنه أحد المرشحين الثلاثة الأقوى في التنظيم لتولي الخلافة، نظراً لكونه عربياً عراقياً مولوداً في أفغانستان، وهو ما يجعله يجمع بين العديد من العوامل الموضوعية للترقي في بنية التنظيم في ظل رحيل الرعيل الأول المؤسس أو ما يطلق عليهم (الزرقاويين)، حيث يعتبر شهاب المهاجر واحداً من العناصر القديمة في التنظيم، ووصفة التنظيم في بيان رسمي بكونه قائداً عسكرياً متمرساً وواحداً من “الأسود الحضرية” لداعش في كابول والذي شارك في عمليات حرب العصابات والتخطيط لهجمات انتحارية معقدة، وهو ما يشير إلى أن العملية، في قسم منها، كان لها طابع شخصي يحقق مصالح ذاتية لقائد داعش خراسان.
ختاماً، يمكن القول إن العملية الإرهابية التي وقعت في موسكو سوف تكون إحدى العمليات التي ستدفع التنظيم ومسار مكافحة الإرهاب بشكلٍ عام نحو مسار مختلف عما يجري في المرحلة الحالية.