مثلت الغارة الإسرائيلية التي شنت على مجمع السفارة الإيرانية بدمشق آخر الصفعات المدوية التي وجهتها إسرائيل لإيران في مضمار الضربات المتبادلة بين الطرفين، ففي يناير، أدت غارة أخرى في حي المزة غرب دمشق حيث تقع المصالح الإيرانية في سوريا، إلى مقتل خمسة من كبار الحرس الثوري الإيراني والعديد من أفراد الأمن السوريين. لكن لم يتم الكشف عن هويات الضحايا حينذاك. كما شن الطيران الإسرائيلي غارات مماثلة على العاصمة دمشق ومدينة حلب الشمالية يوم الجمعة 29 مارس الماضي، التي قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إنها أسفرت عن مقتل 53 شخصا، بينهم 38 عسكريا سوريا وسبعة أعضاء من جماعة حزب الله اللبنانية وثمانية إيرانيين.
لكن هجوم الأول من أبريل كان الأقوى والأكثر تأثيرا من بين الضربات التي تلقاها الحرس الثوري الإيراني منذ اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، في غارة أمريكية بطائرة من دون طيار قرب مطار بغداد عام 2020. وقد تضطر إيران الآن إلى الرد، على الرغم من عدم رغبتها في دخول حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.
أهم الضحايا الذين قتلوا في الضربة الأخيرة كانا العميد محمد رضا زاهدي، ونائبه العميد محمد هادي حاجي رحيمي، وذكرت السيرة الذاتية التي نشرتها قناة «المنار» التابعة لحزب الله أن الجنرال زاهدي كان يعمل في فيلق القدس- ذراع الحرس الثوري الإيراني الذي يشرف على الفصائل المتحالفة معه في جميع أنحاء الشرق الأوسط – من عام 2008 إلى عام 2016 ، ثم قاد عمليات الحرس الثوري بين عامي 2016 – 2019 قبل أن يعود إلى فيلق القدس للعمل في عملياته في لبنان وسوريا حتى مقتله في دمشق. من جانبها لم تعلن إسرائيل رسميا مسؤوليتها عن الهجوم، لكنها زعمت أن الهدف كان «مبنى عسكريا تابعا لقوات القدس». وقال المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي الأدميرال دانييل هاغاري، في تصريح إعلامي: «وفقاً لمعلومات استخباراتنا، هذه ليست قنصلية، وهذه ليست سفارة. هذا مبنى عسكري لقوات القدس متنكر بزي مدني في دمشق». وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن أربعة مسؤولين إسرائيليين لم تذكر أسماءهم اعترفوا بأن إسرائيل نفذت الهجوم. كما تحدث مسؤول حكومي إسرائيلي كبير لوكالة رويترز، شريطة عدم الكشف عن هويته وقال؛ «إن هؤلاء الذين تعرضوا للهجوم كانوا وراء العديد من الهجمات على أصول إسرائيلية وأمريكية، وكانت لديهم خطط لشن هجمات إضافية». وأضاف المسؤول الإسرائيلي «إن السفارة لم تكن هدفا». البيان الرسمي السوري جاء على لسان الناطق باسم وزارة الدفاع السورية الذي صرح عقب الغارة مبينا؛ بأن «الطيران الإسرائيلي استهدف مبنى القنصلية الإيرانية الذي كان على الطريق السريع في حي المزة غربي دمشق، حوالي الساعة 17:00 بالتوقيت المحلي». وأضاف البيان «أن الدفاعات الجوية السورية أسقطت بعض الصواريخ التي أطلقت، لكن بعضها نجح في اختراقها ودمرت المبنى بالكامل، ما أدى إلى مقتل وجرح كل من كان بداخله».
من جانبه صرح السفير الإيراني في دمشق حسين أكبري بالقول؛ «إن الطائرات المقاتلة الإسرائيلية من طراز إف -35 استهدفت بوحشية مكان إقامتي والقسم القنصلي في السفارة، إلى جانب الملحقين العسكريين الإيرانيين». وقال للتلفزيون الإيراني الرسمي» إن ما بين خمسة وسبعة أشخاص قتلوا، بينهم بعض الدبلوماسيين». وفي وقت لاحق، أصدر الحرس الثوري الإيراني بيانا قال فيه إن سبعة من ضباطه قتلوا، بينهم العميد محمد رضا زاهدي، والعميد محمد هادي حاجي رحيمي، اللذان وصفهما بأنهما قادة و»مستشارون عسكريون كبار». الرد الايراني جاء وفق السياقات المتوقعة من شجب وإنكار وتهديد، إذ قالت تصريحات إيرانية رسمية، إنها ستنتقم من إسرائيل ردا على مقتل اثنين من جنرالاتها وخمسة مستشارين عسكريين في مجمع سفارتها في دمشق، وتعهد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي بالانتقام. وقال «إن النظام الصهيوني سيعاقب على أيدي رجالنا الشجعان. وسنجعله يندم على هذه الجريمة وغيرها من الجرائم التي ارتكبها». كما قال المستشار السياسي لخامنئي علي شمخاني، في منشور على موقع إكس، إن الولايات المتحدة «تظل مسؤولة بشكل مباشر، سواء كانت على علم بنية تنفيذ هذا الهجوم أم لا»، وحسب موقع «أكسيوس» الخاص بالشؤون العسكرية الأمريكية، نقلاً عن مسؤول أمريكي، أن واشنطن أبلغت طهران عقب الضربة الأخيرة بأنها «ليس لها أي دور أو معرفة متقدمة بالضربة الإسرائيلية».
العالم نظر إلى هجوم الأول من أبريل على أنه تصعيد خطير. إذ يبدو أن الإسرائيليين يختبرون عزيمة الإيرانيين وحلفائهم ليعرفوا مدى جاهزية إيران للمواجهة
العالم نظر إلى هجوم الأول من أبريل على أنه تصعيد خطير. إذ يبدو أن الإسرائيليين يختبرون عزيمة الإيرانيين وحلفائهم ليعرفوا مدى جاهزية إيران للمواجهة وذلك عبر زيادة الضغط الإسرائيلي على أعدائها في المنطقة. وتسوق إدارة نتنياهو باستمرار معلومة مفادها أن إيران وحزب الله لم يظهرا كل ما لديهما من قوة حتى الآن. وقد أتت الضربة الأخيرة لمعرفة مدى جدية إيران وحلفائها في خوض حرب شاملة، لكن المراقبين يتوقعون زيادة أو استئنافا لهجمات الفصائل الحليفة لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن ضد القوات والمصالح الأمريكية. وفي ما يلي خيارات إيران في الرد على الضربة الأخيرة: والخيار الأول هو استهداف المصالح الأمريكية، إذ حمل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بتصريح رسمي الولايات المتحدة المسؤولية عن الهجوم. وقال تريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في واشنطن العاصمة: «يبدو أن الإيرانيين يحملون الولايات المتحدة مسؤولية ما فعلته إسرائيل بالقدر نفسه الذي تحمل فيه الولايات المتحدة إيران مسؤولية ما تفعله الميليشيات العراقية». وأضاف: «لقد انخرطت إيران بالفعل في صراع بالوكالة على مستوى منخفض مع الولايات المتحدة، من خلال الميليشيات المتحالفة معها في سوريا والعراق، لكن هذا الصراع تراجع منذ مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في الأردن في يناير الماضي. وردت الولايات المتحدة بتنفيذ عشرات الضربات على سبعة مواقع على الأقل في أنحاء العراق وسوريا». وأضاف: «هذا يعني أن الهجوم الإسرائيلي على إيران قد وضع عبئا جديدا على عاتق القوات الأمريكية في الشرق الأوسط». بينما يرى بعض المحللين أن الهجوم على المصالح الأمريكية ردا على العمل الإسرائيلي سيترك إسرائيل دون عقاب، وربما يدفع طهران وواشنطن إلى مواجهة مباشرة، ويقول هؤلاء المحللون أن أيا منهما لا يرغب في ذلك. كما يشير بعض المراقبين إلى إمكانية إيران وحلفائها استهداف الوجود الدبلوماسي الإسرائيلي في العالم، ردا على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق، ليكون الرد من طبيعة الفعل نفسه. وهنا تم تذكر ما حصل في ضربات عام 1992، حيث أدى انفجار قنبلة في السفارة الإسرائيلية في الأرجنتين إلى مقتل 29 شخصا، وقد اتهم حزب الله بتنفيذ الهجوم. وكذلك عمليات استهداف دبلوماسيين إسرائيليين في الهند وجورجيا وتايلند عام 2012 وقد اتهمت أذرع إيرانية بتنفيذ تلك العمليات. لكن الترجيح الأقوى يتجه مؤشره نحو وكيل إيران الأكثر قدرة على محاربة إسرائيل، وهو حزب الله اللبناني، إذ يقال إن حزب الله ما زال يمتلك حوالي 150 ألف صاروخ وذخيرة موجهة بدقة على مقربة من إسرائيل، وقد أثبتت قدرتها على ضرب عمق الأراضي الإسرائيلية، لكن إسرائيل كانت تستعد للحرب مع حزب الله منذ أشهر، حيث قامت بإخلاء أكثر من 40 بلدة في شمالها. ويخوض الجانبان مناوشات اقتصرت على بضعة كيلومترات على كل جانب من الحدود، على الرغم من أن إسرائيل ضربت الشهر الماضي عمقا يصل إلى 100 كيلومتر داخل لبنان. وترى سانام فاكيل مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مركز تشاتام هاوس للأبحاث في لندن، إنه من المرجح أن تستخدم إيران قواتها بالوكالة إلى جانب الجهود الدبلوماسية لعزل إسرائيل، لكن من غير المرجح أن تتصاعد الحرب بشكل كبير. وأضافت: «يمكن تفعيل محور المقاومة»، في إشارة إلى شبكة الفصائل الموالية لإيران في المنطقة. وإنه من غير المرجح أن تقدم إيران وحلفائها على ضربات انتقامية واسعة النطاق، بل ستلجأ إلى سلسلة من الردود المحدودة هنا وهناك. أما بخصوص ضرب الوجود الدبلوماسي الإسرائيلي في دول متفرقة ، فترى فاكيل إنه من غير المرجح أن تهاجم إيران البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في الخارج، مضيفة أن «طهران على الأرجح لا تريد أن تفقد أي امتياز دولي حصلت عليه من هذا الهجوم». في وقت تجد فيه إسرائيل نفسها معزولة بشكل متزايد على المسرح العالمي بسبب سلوكها الإجرامي في غزة. ومع ذلك، فإن عدم القيام بعمل عسكري مباشر «يخلق خطرا كبيرا بالنسبة لإيران، حيث سيكون لدى إسرائيل الوقت والمساحة لتفكيك جبهات محور المقاومة واحدة تلو الأخرى، ربما بدعم مباشر وحتى مشاركة من الإدارة الأمريكية المقبلة».