الذاكرة الأوروبية والتفرد الأمريكي بقيادة الناتو

الذاكرة الأوروبية والتفرد الأمريكي بقيادة الناتو

احتفل الناتو بالذكرى 75 لتأسيسه الشهر الجاري، حيث تأسس في الرابع من نيسان/أبريل عام 1949 في واشنطن. وكان تأسيسه رد فعل على سياسات الاتحاد السوفييتي السابق آنذاك. وبعد أن كان عدد أعضائه 12 دولة بات العدد اليوم 32 دولة. ومن المفارقة أن الحرب في أوكرانيا كانت أبرز عامل عزز من وحدة الحلف، وركّز وجوده في شرق أوروبا، بعد أن أصابه الوهن والضعف وعصفت الخلافات بين أعضائه، الى الحد الذي دفع الرئيس الفرنسي ماكرون لوصفه بأنه في حالة موت سريري. ومع ذلك لا يمكن القول بأن أعضاءه باتوا اليوم على قلب رجل واحد، فعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا عززت من وحدته، لكنها من أبرز الخلافات بين الأعضاء.
ففي الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول الأوروبية لتسريع ضم أوكرانيا إلى الحلف، تقف كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بالضد من ذلك. كما أن مسألة مساهمة الحلفاء في ميزانية الحلف مسألة شائكة، خاصة بعد أن هدد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالتخلي عن حماية الدول التي لا تحترم التزاماتها المالية، ورفع نسبة موازنتها الدفاعية. وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة للحصول على دعم أوروبا حيال موقفها في المحيط الهادئ، يتنصل الأوروبيون من هذه المسألة قائلين إن هذه ليست مهمة الحلف. فما الذي يدفع أوروبا للقبول بقيادة الولايات المتحدة للناتو وليس أحد دولها؟
يقينا لقد أنعشت حرب أوكرانيا حلف الناتو، ولكنها في الوقت نفسه كشفت عيوبه ونقاط ضعفه، ولعل أبرزها أزمة الثقة بين الحلفاء، من هنا سمعنا الأمين العام للحلف يتحدث عن أهمية العلاقة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حيث إنه منذ التأسيس كان هنالك تعاون وثيق بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث ضفتا الأطلسي وهو أمر مهم لا يمكن تجاوزه. لكن الرئيس السابق ترامب عكّر بعض الشيء هذه الصلة، واليوم هنالك تخوّف عند الجميع من عودته، ويقينا أن هذا الأمر لا بد أنه موجود حاليا في خلفية الاجتماعات في ما يقوله المتداخلون أثناء إلقاء خطاباتهم. ولكنّ هناك سعيا قويا جدا لدى الحلفاء جميعهم، إلى أن يكون التكاتف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية مستمرا، وإلا لا يعود هناك من معنى للناتو. ومن المؤكد أن هنالك خللا في إيقاع الناتو، وتوجد عملية شد حبال فيه حول المناصب الحساسة، التي يطالب الأوروبيون بأن يكون شاغليها منهم وليس من الأمريكيين. فمنذ عام 2017 في ولاية ترامب، واليوم بسبب التخوف من عودته الى سدة الحكم مرة أخرى، دفعهم لمطالبة الإدارة الأمريكية بالتعامل معهم كشركاء وليس كحلفاء. حتى تصريحات الأمين العام للحلف تفيد بأنه على الإدارة الأمريكية أن يكون لها ثلاثون حليفا وصديقا يكونون شركاء معها. وهذا تذكير بالعقيدة الأطلسية التي تم التوافق عليها في السنة الماضية، وهي وجود الحلف في كامل الدول الأوروبية وفي المحيطين الهندي والهادئ.

أنعشت حرب أوكرانيا حلف الناتو، ولكنها في الوقت نفسه كشفت عيوبه ونقاط ضعفه، ولعل أبرزها أزمة الثقة بين الحلفاء

وعلى الرغم من أن أمين عام الحلف الأطلسي السابق والحالي هم من أوروبا، لكن الأوروبيين يحتجون على الولايات المتحدة التي تعترض على المرشح الجديد، الذي هو رئيس الحكومة الهولندية الأسبق، بسبب أن هولندا من الدول التي تطالب بنوع من الاستقلالية الاستراتيجية حيال الإدارة الأمريكية. كما أنهم يقولون بأن عملية صنع القرار الاستراتيجي وصنع القرار العسكري ما زالا يصدران من أماكن هي بيد الأمريكيين. بالتالي يصر الأوروبيون على الوصول إلى بعض المناصب الحساسة، وليس فقط التدريبات والمساعدات الإنسانية، ولكن أيضا مناصب مهمة في صنع القرار، خاصة أنهم أحد ركائز هذا الحلف، من منطلق أن الدفاع الأوروبي من خلال صندوقه، ومن خلال وحداته الخاصة، ومن خلال كل الخطط الموضوعة يمكنه أن يقدم المزيد حسب قولهم. وهنا يبرز الدور الذي تلعبه فرنسا في هذا الاتجاه، حيث تسعى إلى وضع توجه جديد وهو دفاع أوروبي يكون نواة للحلف الأطلسي، من منطلق أن البند 24 يسمح للمفوضية الأوروبية بتعميق وتكريس الصناعات الحربية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتكريس الأمن الأوروبي. كما أن فرنسا طالبت ودفعت باستحداث ما يُعرف بصندوق الدفاع الأوروبي، كذلك طرحت مقترح توسيع المظلة النووية الفرنسية على كامل التراب الأطلسي، بما في ذلك كل الدول الأوروبية. لكن الولايات المتحدة ترفض هذه التحركات جملة وتفصيلا، حتى إنها رفضت بشكل قاطع ما اقترحه وزير الخارجية الإيطالي بشأن تشكيل قوة مسلحة أوروبية بحتة، وكذلك ألمانيا التي لا تدعم البحث الجاد عن بدائل لحلف الناتو على غرار الطرح الفرنسي. وهنا يظهر العجز الأوروبي في الدفاع عن أمنهم القومي عندما يكون مزاج ساكن البيت الأبيض، يمكن أن يقلب موازين القوى داخل الحلف، وقد سمعنا ترامب يهدد دولا في الحلف بأنه سيسمح لروسيا بمهاجمتها لأنها لا تدفع ما يتوجب عليها دفعه في موازنة الدفاع. فالمعضلة الكبرى أن دوائر القرار في البلدان الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو ما زالت تتخوف من التاريخ. ولحد الآن لم يستطع الأوروبيون أن يضعوا جانبا ثقل الذاكرة التاريخية. فالكل في أوروبا لا يريد لبلد كفرنسا أو ألمانيا أو بولندا أن يأخذ زمام الأمور في الحلف الأطلسي، أو على الأقل زمام الدفاع الأوروبي خوفا من تكرار ما حصل في السابق. من هنا نرى الكل يطالب بأن تبقى أمريكا هي ضابط الإيقاع في هذا المجال، بل إن بعض الأوروبيين راحوا يشيعون فكرة قوامها أن الدول الأوروبية يصعب عليها أن تحمي نفسها بالكامل إذا لم يكن هنالك تعاون قوي مع الولايات المتحدة. ويقولون إن روسيا والصين تنظران الى الغرب كوحدة كاملة، لذلك هم يقولون بأن من مصلحة أوروبا أن تتعاون مع الولايات المتحدة، كما أن من مصلحة الأخيرة أن تتعاون مع أوروبا أيضا، وأن لا يذهب كل منهما في طريق مستقل.
لكن مع ذلك شهد العام الحالي مبادرة جميع الدول الأوروبية إلى تقوية الصناعات الحربية لديها، وفي بروكسل بات يُسمع عن ما يُعرف باقتصاد الحرب الأخضر. ويعني أن جل الدول الأوروبية ذهبت إلى تقوية ميزانياتها الدفاعية، وتم افتتاح عدد من مصانع الذخائر الحربية في كامل أنحاء أوروبا. كما بُدء بتطوير برامج البحوث لتصنيع الأسلحة، إضافة الى أن الاتحاد الأوروبي شرع بالبحث عن سُبل لتمويل هذه المشاريع، فكان الخيار الأول هو استغلال الأرباح للأموال المجمدة الروسية الموجودة في أنحاء دول الاتحاد الأوروبي لتغطية النفقات. وثانيها هو تغيير قوانين الاقتراض والاستثمار للبنك الأوروبي، كي يُقدّم الأموال اللازمة لدول الاتحاد لتمكينها من تمويل الصناعات الحربية. ومع كل ذلك تبقى أوروبا هي الشريك الضعيف في الناتو، لأنها لا تزال تعتمد على المظلة الاستراتيجية الأمريكية، ولم تتطور كي تصبح قطبا جيوسياسيا دفاعيا يتمتع بقدراته الذاتية.