مسلك الإدارات الأمريكية المختلفة إزاء الانتهاكات الاستيطانية والعنصرية والحقوقية التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلية لا ينتهي من مهزلة فاضحة التبرير حتى يدخل في مسرحية مبتذلة الإخراج. ويحدث مراراً أن تنويع المهازل والمسرحيات لا يضيف على سياسات الاحتلال سوى الإمعان أكثر في الإجرام وتشديد الاستهتار بأي وكل مبدأ للمحاسبة والمسؤولية.
الأحدث في هذا الملف ما يتردد على ألسنة الناطقين باسم الخارجية الأمريكية من تأتأة في توصيف العقوبات التي كانت الوزارة تزمع فرضها على كتيبة «نيتساح يهودا» التي كانت تعمل في منطقة رام الله ـ سلفيت، وينتمي غالبية مجنديها إلى عناصر متدينة متشددة أو مستوطنين متطرفين. وهذه الكتيبة مسؤولة عن تصفية المواطن الفلسطيني عمر عبد المجيد أسعد حامل الجنسية الأمريكية، وكان في سن 78 سنة حين قيّده جنود الاحتلال بالسلاسل وعصبوا عينيه واعتدوا عليه بالضرب وتركوه ملقى على الأرض حتى فقد الحياة.
بصدد هذه الجريمة الصريحة بدأت المسرحية الأمريكية من سفارة واشنطن لدى الاحتلال والتي اكتفت بتقديم العزاء وإبداء الاستعداد لتوفير المساعدة القنصلية، ومرّت بموقف خجول من الخارجية الأمريكية لم يتجاوز دعوة الاحتلال إلى تقديم «توضيحات» حول الواقعة، وتُختتم هذه الأيام بإعلان الوزارة أنها تدرس فرض عقوبات على الكتيبة ولكن من دون أن تحجب عنها الحق في استمرار التزوّد بالسلاح والذخائر الأمريكية.
وبالأمس أعلنت الخارجية الأمريكية أن تحقيقاتها أفضت إلى تحميل خمس وحدات عسكرية وأمنية إسرائيلية مسؤولية «انتهاكات جسيمة» لحقوق الإنسان، ولكنها تتريث في فرض العقوبات عليها بالنظر إلى أن الجيش الإسرائيلي «عالج» تلك الانتهاكات كما زعمت الوزارة. وهذا مسرح ركيك الإخراج، لا يختلف كثيراً عن مهزلة رجوع الخارجية الأمريكية عن مساءلة كتيبة «نيتساح يهودا» تحت ذريعة أنها نُقلت خارج الضفة الغربية، متجاهلة أنها تنتشر اليوم في بيت حانون شمال شرق قطاع غزة.
الفاضح أكثر أن وزير الخارجية الأمريكية لجأ بنفسه إلى تحذير المستوطنين من انتهاك حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ولكن وزارته لم تعلن إلا عن فرض عقوبات على 3 إلى 5 مستوطنين، من أصل نحو 500 ألف مستوطن، كما عفت عن تبيان أسماء أولئك المعاقَبين بحجة عدم تعكير صفو الأمن. ولا عجب في هذا من وزير، إذا كان سيد البيت الأبيض ذاته قد أصدر أمراً تنفيذياً حول معاقبة حفنة أخرى من المستوطنين بتهمة ممارسة العنف وتهجير الفلسطينيين وتدمير أملاكهم، فلم تذهب عقوباته أبعد من حظر التبرعات الأمريكية لصالح مشاريعهم الاستيطانية.
وأما أمّ المهازل التي تتكرر إدارة بعد إدارة ورئيساً جمهورياً بعد آخر ديمقراطياً، فهي أن الجهة الأكثر إمعاناً في انتهاك حقوق الإنسان وارتكاباً لجرائم الحرب السافرة الأشنع وممارسة الاستيطان والتمييز العنصري ومنظومات الأبارتايد الأسوأ، فهي حكومات الاحتلال المتعاقبة عموماً وهذه الحكومة الراهنة خصوصاً. وبدل خضوعها للعقوبة والمحاسبة فإنها تتنعم بالأسلحة الأمريكية الأشد فتكاً وبالمساعدات المالية بمئات المليارات.
وهنا لا تكترث الولايات المتحدة حتى بافتضاح تلفيق المهزلة، أو رداءة إخراج المسرح.