يُتَوقّع أن تسيطر تداعيات العدوان الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزّة على مجريات القمّة العربية الـ33، التي تُعقَد اليوم الخميس (16/5/2024)، في البحرين، فالمُصاب في غزّة عظيم، مع سقوط نحو 6% من أهلها بين شهيد وجريح (130 ألفاً تقريباً)، وتدمير نحو 70% من مساكنها، وتهجير 90% من سكّانها، وعدم وضوح ترتيبات اليوم التالي للعدوان، وموقع/دور العرب فيها. مع ذلك، سوف تفرض قضايا عربية أخرى نفسها في القمّة، بحكم الضرورة، مثل الوضع الإنساني المتفاقم في السودان نتيجة الحرب، والفوضى المستمرّة في ليبيا، والموت البطيء لسورية، التي أدار العرب ظهرهم لها بعد التدخّل العسكري الروسي في نهاية 2015، قبل أن تعود إلى دائرة اهتمامهم من بوابة دفع البلاء (مكافحة المُخدّرات وتهريب السلاح، وحلّ أزمة اللجوء… إلخ)، عبر مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، التي أطلقها العاهل الأردني عبد الله الثاني من واشنطن في يوليو/ تمّوز 2021، وأسفرتْ، بعد دخول السعودية على خطّها، عن عودة النظام إلى جامعة الدول العربية، وتشكيل لجنة اتصال عربية لمتابعة تنفيذ بيان اجتماع عمّان في الأول من مايو/ أيّار 2023، بشأن حلّ الأزمة السورية. لكنّ الاهتمام بسورية عاد وتراجع، حتّى قبل “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على غزّة، لأسباب مُختلفة، منها عدم قدرة النظام، أو عدم رغبته، في تنفيذ الجزء المتعلق به من “الصفقة”، وهو كبح تصنيع المُخدّرات وتهريبها، والحدّ من الوجود الإيراني في سورية، واتخاذ خطواتٍ تُساعد في تحريك مسار الحلّ السياسي، مثل استعادة بعض اللاجئين، وإطلاق سراح المُعتقَلين، والكشف عن مصير المفقودين، ما تسبّب بنوع من الإحباط لدى الطرف العربي. الطرف العربي، بدوره، بدا عاجزاً عن تقديم ما كان يطمح النظام إليه من مساعدات اقتصادية عاجلة، تحول دون انهيار الوضع العام في مناطقه نتيجة إفلاس الدولة، ونضوب مواردها كلّها، بعد سنوات من الحرب، وذلك لعدم قدرة الطرف العربي على تجاوز قانون قيصر، وغيره من العقوبات الأميركية المفروضة على سورية. بناء عليه، سيطر الجمود على المسار العربي مع سورية، وتأجّل اجتماع لجنة المتابعة العربية في بغداد، والذي كان مقرّراً في السابع من مايو/ أيار الحالي، نتيجة ما قيل عن انشغالات عربية بسبب حرب غزّة والتحضير لقمّة المنامة.
لكنّ الانطباع السائد أنّ حرب غزّة تُهمّش الموضوع السوري، وتُضعِف من إلحاح الحاجة إلى التعامل معه، هي قراءة معكوسة للواقع، فليس هناك مكان آخر في الإقليم بعد غزّة، بما فيه لبنان، تأثّر بالحرب كما سورية، رغم “هدوء” جبهتها مع إسرائيل. لا، بل يُعدّ “الهدوء” السوري الموصوف أحد أهم نتائج حرب غزّة في الإقليم، إن لم يكن أكثرها أهمّية على الإطلاق، ففي تلك الحرب وجد النظام السوري ضالّته لإعادة تعريف علاقته بـ”محور المقاومة”، وتأكيد نوع من الاستقلالية في قراره عنه، بعد أن ظلّ يعتبر نفسه جزءاً أصيلاً منه. ومن بين كلّ أطراف “محور المقاومة”، من رأسه في إيران إلى ذيله في مليشيات الحشد الولائي في العراق، مروراً بحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، انفرد النظام السوري في تجنّب التورّط عسكرياً في حرب غزّة (إيران تورّطت مُكرهةً). قد يكون غضب النظام السوري من موقف “حماس” المُؤيّد للثورة السورية في بدايتها لعب دوراً في تحديد موقفه من الحرب في غزّة، لكنّ الأمر أبعد من مُجرّد مشاعر غضب لا تصلح لتفسير موقف سياسي بهذه الأهمية، فالنظام الذي التزم الصمت تجاه اتفاقات التطبيع “الإبراهيمية” عامي 2020-2021، وجد في حرب غزّة الفرصة التي كان ينتظرها لإعادة تقديم نفسه شريكاً براغماتياً، متمايزاً عن بقية حلفائه في المحور، وهو مستعدّ، من ثمّ، أن يذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه “واقعية” إيران وحزب الله في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في عام 2022، واستئناف ما انقطع بسبب الثورة (مفاوضات السلام التي كادت تنتج اتفاقاً سورياً إسرائيليا في مارس/ آذار 2011، بشهادة المبعوث الأميركي فريدرك هوف). لكنّ هذا ليس الأكثر أهمّية في القصّة، بل المؤشّرات التي تتزايد على أزمة الثقة المتفاقمة مع إيران، بحسب التسريبات التي أخذت تصدر بشكل مُتواتر عن دوائر في النظام، وتنعكس تبرّماً مُعلناً لدى قاعدته الشعبية من نفوذ إيران وحضورها في سورية.
من غير الواضح ما إذا كانت التغييرات التي يجريها النظام في سورية في بنيته الأمنية والسياسية تهدف إلى توجيه رسائل إلى الخارج باستعداده لتسوية من نوع ما
والواقع أنّ المُؤشّرات ما فتئت تتزايد على وجود أزمة مكتومة في علاقة النظام بحليفه الإيراني، منذ اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في مطار بغداد، قادماً من دمشق، وتعاظمت مع انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى عقب توقيع اتفاق الخامس من مارس/ آذار 2020 بين روسيا وتركيا، والذي “جمّد” حملة عسكرية كان النظام يُعِدُّ لها ضدّ منطقة “خفض التصعيد” الأخيرة في إدلب، ثمّ فتْح الإيرانيين ملف الديون، التي تقدرها طهران بنحو 50 مليار دولار (النظام يرفض هذه الأرقام)، واللغط الذي أحاط بزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق لتحصيلها، وأجّلت من ديسمبر/ كانون الأول 2022 إلى مايو/ أيار 2023، بسبب ما شاع حينها عن خلافات بشأن امتيازاتٍ سعت إيران لانتزاعها في مقابل ديونها، عبر استملاك جزء كبير من أصول الدولة السورية، وتسريب النظام السوري رفضه لها إلى الإعلام. لكن هذه التباينات أخذت، منذ حرب غزّة، تتحوّل إلى شكوك مُعلَنَة، عبّرت عنها صحيفة جمهوري إسلامي الناطقة بلسان المُرشدِ، على خلفية نجاح إسرائيل في استهداف رؤوس الحرس الثوري في سورية، وكان آخرهم مسؤول فيلق القدس في بلاد الشام، اللواء محمد رضا زاهدي، ونائبه. وكانت “رويترز” قد نشرت تقريراً، بعد مقتل مسؤول الدعم اللوجستي في الحرس الثوري الإيراني، العميد رضا موسوي، في هجوم إسرائيلي، أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2023، طاول معقل المليشيات الإيرانية في ضاحية السيدة زينب في جنوب دمشق، نسبته إلى ستّة مصادر إيرانية وسورية، تحدّث عن بدء إيران بسحب الجزء الأكبر من ضبّاطها في سورية، والتكتم على حركة المُتَبقّين منهم “بعد أن لم يتبقَّ مكان آمن لهم في سورية”.
عندما سقط العراق، سقط المشرق العربي، وعندما سقطت سورية مع العراق سقط العرب، كلّ العرب
إلى جانب ظلال الشك التي أخذت تُخيّم على علاقة دمشق بطهران، من غير الواضح ما إذا كانت التغييرات التي يجريها النظام في بنيته الأمنية والسياسية تهدف أيضاً إلى توجيه رسائل إلى الخارج باستعداده لتسوية من نوع ما، مع أنّ الخطاب الرسمي ما زال يوحي بغير ذلك. في كلّ الأحول، من المُحتمَل أن تكون حرب غزّة قد فتحت ثغرةً في جدار الأزمة السورية، ليس فقط من خلال تقديم فرصة للنظام لبذل محاولة (من غير الواضح نسبة نجاحها) للفكاك من “شبكة العنكبوت” الإيرانية، لكن أيضاً، بفعل تغيّر موازين القوى على الأرض بين القوى الإقليمية المتنافسة في الساحة السورية. فبحسب المُعطيات، أضعفت الحرب الوجود العسكري الإيراني في سورية مع استمرار سحب ضبّاط الحرس الثوري بفعل الضربات الإسرائيلية، وتبدّد ثقة الإيرانيين في المجتمع المحلّي وبالنظام السوري. إسرائيل تبدو، من جهتها، مُنهكَةً ومُستنزفَةً بسبب الحرب الأطول في تاريخها، وتعيش في خضمّ أزمة سياسية غير مسبوقة يُرجَّح أن تشغلها عن استمرار العبث بسورية في المدى المنظور، في حال استمر إضعاف النفوذ الإيراني فيها. حزب الله مشغول هو الآخر بوضعه المُهدَّد في لبنان، ولن يأمن ضربة كبرى قبل التوصّل إلى اتفاق مع إسرائيل بشأن ترتيبات الأمن على الحدود (قد تشمل هذه المرّة ترسيم الحدود البرّية، بعد ترسيم الحدود البحرية). تركيا تتطلّع، بعد الهزيمة الكبرى التي لحقت بحزب الرئيس أردوغان في الانتخابات المحلّية، إلى ترتيب أوضاعها الداخلية، وفي مقدمتها أزمة اللاجئين، وكذلك تفعل أوروبا في ضوء المخاوفَ من تدهور أوضاع دول الجوار المُستضيفَةِ للاجئين، واحتمال أن تؤدي إلى أزمة لجوء جديدة تُفجّر الاتحاد الأوربي من الداخل. روسيا أيضاً مُستنزفَةٌ ومشغولةٌ بصراعها مع الغرب في أوكرانيا، ولا تملك الموارد أو الوقت لسورية وأزمتها. وفيما تبدو سورية آخر هَموم الصين اليوم، تدخل إدارة جو بايدن ما يسمّى، في أميركا، وضع “البطّة العرجاء”، وهي مرحلة من عدم اليقين تسبق الانتخابات، وتَستنزِف كلّ الطاقات. سورياً، الكلّ منهك ومُدمّر. النظام غير قادر على الاستمرار بالنهج نفسه وبالطريقة نفسها، رغم المكابرة، ولعبة الوقت التي أتقنها عبر العقود تعمل هذه المرّة في غير صالحه، إذ لن يحتمل السوريون شتاءً قارساً آخرَ جديداً في ظلّ أزمة مالية عالمية أخرى تلوح في الأفق، وتُهدّد النزر اليسير من المساعدات التي تتلقاها سورية. وضع المعارضة، ومناطقها، ليس أفضل كثيراً، وقد غدت أكثر واقعية وأكثر استعداداً للحلّ، بانتظار أن يسري ذلك على النظام أيضاً. وحدهم العرب في وضع يسمح لهم باستثمار الفرصة التي منحتها تضحيات غزّة لسورية، ومن مسؤوليتهم، ومن مصلحتهم أيضاً، التحرك فوراً لاغتنامها عبر إطلاق مسار سياسي جديد بقيادة عربية لحلّ القضية السورية قبل أن تتغير الظروف وتستردّ القوى الإقليمية والدولية المؤثرة أنفاسها، وتعود إلى العبث بها، أو تتوصّل إلى صفقة تتقاسم النفوذ فيها، وفي الحالتين، يكون العرب الخاسر الأكبر (بعد أصحاب الشأن طبعاً). ولنتذكّر أنّه عندما سقط العراق، سقط المشرق العربي، وعندما سقطت سورية مع العراق سقط العرب، كلّ العرب.