سيل انهيارات وتهاوي وانكشاف المجالس والهيئات الدولية التي تدعي تبنيها قيم العدالة ورفع الظلم والانتصار للمظلوم لا يتوقف. ولا يتعلق الأمر فقط بجرائم الإبادة في قطاع غزة بل يبدو أنه في كل موقع ومكان وحيثما حلت مصالح الكبار الذين يقفون وراء ستائر تلك الهيئات، وآخرها ما يعرف بالمحكمة الجنائية الدولية.
كانت كل العيون مصوبة، أول من أمس الثلاثاء، نحو شاشات نقل جلسة لمجلس الأمن الدولي كان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان يقدم فيها التقرير الـ27 حول نتائج عمل لجنة تقصي الحقائق في ليبيا بين عامي 2014 و2020، وما أن انتهى المدعي العام حتى كانت صدمة كل متابع عظيمة بعظم جرائم اللواء المتقاعد خليفة حفتر بحق الليبيين.
لقد استعرض خان التقرير بلهجة الحازم والواثق من ملاحقة مجرمي الحرب في ليبيا عمل لجنة تقصي الحقائق، والتي قال إنها زارت ليبيا لـ18 مرة، وجمعت أكثر من 800 دليل حول الجرائم التي شهدتها ليبيا بين عامي 2014 و2020، معلناً قرب إصدار مذكرات جلب بحق المتورطين فيها. لكن ليس من بينهم المتورطون في جرائم مقابر ترهونة الجماعية، لأن فقرة ترهونة أُسقطت تماماً من التقرير الـ27 بعد أن كانت فقرة أساسية في التقارير السابقة، من دون أي تبرير، بل ومن دون أي جواب عن سؤال وجهه مندوب ليبيا في الأمم المتحدة الطاهر السني بشكل مباشر للمدعي العام حول إسقاط فقرة جرائم ترهونة.
وتعد جرائم ترهونة أبرز الجرائم التي وقعت في ليبيا على الإطلاق، وتقع ضمن الإطار الزمني لعمل لجنة تقصي الحقائق. وتساءل الطاهر السني بشكل صريح “أين ترهونة” ومقابرها؟ وكيف يمكن أن تتحقق عدالة في ليبيا وملاحقة الجرائم ومرتكبيها من دون ترهونة؟ وفي ربط مقصود ألحق السني سؤاله بسؤال آخر عن غزة وما يُرتكب فيها. صحيح أن المدعي العام تعرض لذكر واقعة مقتل وزير الدفاع السابق المهدي البرغثي في بنغازي بظروف غامضة، لكنه ذكرها في معرض علم المحكمة بها لا أكثر. كما أنها لا تدخل في فترة التحقيق التي ذكر أنها بين عامي 2014 و2020، والواقع أن هذا التغافل مقصود ويتعلق بأمر ما.
إن مسار التحقيقات في مقابر ترهونة بدأ بحرص وعناية كبيرة من جانب المحكمة الجنائية، إذ شكلت لجنة خاصة بالتحقيق فيها، زارت ترهونة والتقت أغلب أهالي الضحايا، بل إن المدعي العام نفسه زار ترهونة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. وأعلن أمام الجميع حينها عن صدمته الكبيرة من كثرة القبور وحفر الموت، تالياً أصدرت المحكمة أمراً بإلقاء القبض على آمر مليشيا الكانيات (محمد الكاني) التابع لحفتر رسمياً، والذي قتل في ظروف غامضة في بنغازي في يوليو/ تموز 2021.
واليوم وقد أسقط الحديث عن جرائم حفتر في ترهونة بشكل صارخ وعلني بعد سنوات من التحقيق، أفلا يذكرنا هذا بمسار تحقيق مشابه في محكمة فرجينيا الأميركية، والتي نظرت في دعاوى أسر ليبية راح عدد من أفرادها ضحايا لجرائم مماثلة في بنغازي؟ فبعدما خضع حفتر للاستجواب والتحقيق بشكل شخصي على مدى أربع سنوات، خرجت قاضية المحكمة الفيدرالية في فرجينيا ليونا بيرنكما، منتصف إبريل/ نيسان الماضي، وأعلنت بشكل فجائي عدم اختصاص محكمتها بالنظر في قضية الليبيين مع حفتر من دون أي تفسير منطقي. مصالح الكبار هي التي تقف وراء مزاعم وادعاء النهوض بقيم العدالة وإنصاف المظلومين، ويبدو أن مصلحة واشنطن اليوم مع حفتر وتبييض ملفاته الدامية مقابل دور ما.