الإمبريالية الروسية وهوس القوة

الإمبريالية الروسية وهوس القوة

580

تبدو روسيا متوترة في تعاملها العالمي، وتميل إلى استخدام القوة لفرض مصالحها، وهي تدفع الأمور نحو التصعيد في وضع عالمي يمكنأن يقود إلى حرب؛ لقد اشتبكت مع أوروبا بعد تدخلها العسكري في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، ووتّرت الوضع في سوريا بعد أن استثارت أميركا وأوروبا، وتركيا التي وصلت الأمور إلى احتكاك عسكري أفضى إلى إسقاط طائرة سوخوي 24، وما تلاه من ارتفاع حدّة التوتر، وهي الآن تعيش وسط توترات متعددة كلها يمكن أن تتطور إلى حرب.

رغم ذلك لم تتراجع، بل زادت تواجدها العسكري في سوريا بعد أن وسّعت القاعدة البحرية في طرطوس، وأقامت قاعدة جوية في اللاذقية، حيث أرسلت صواريخ أس 400 المضادة للطائرات، التي تصل إلى كل سوريا، وجنوب تركيا وأطراف البحر المتوسط، كما سيطرت على قاعدة جوية أخرى هي قاعدة الضبعة، ثم مطار الشعيرات، لكي تكون قاعدة انطلاق المروحيات، وأخذت كذلك عناصر الجيش الروسي تصل إلى سوريا.

كانت روسيا بوتين تعمل في المرحلة الأولى على السيطرة على “محيطها السابق” (أي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق)، لهذا تدخلت في أبخازيا وأستونيا الجنوبية، وقمعت بعنف تمرّد الشيشان. وكان واضحاً ميلها العنيف في الحسم، دون اعتبار لأي قيمة إنسانية؛ وهذا ما باتت تمارسه في سوريا، حيث تتبع سياسة الأرض المحروقة لكي تهزم الثورة.

ولا شك في أنها تتصرف بعنجهية، لكن بتوتر كذلك، وتطور من قدرتها العسكرية بشكل لافت، وأيضاً تحاول إظهار قدرات طائراتها وصواريخها لكي تخيف “العدو”، ومن ثم توسيع سوق السلاح لإقناع زبائن جدد بالركض لشراء هذا السلاح الفتّاك. إن سياق السياسة الروسية يوضّح الميل العميق من أجل تعزيز قدرات الجيش الروسي بشكل كبير، والدفع نحو توسيع الوجود العسكري في العالم، حيث يجري التركيز الآن على البحر المتوسط الذي أصبح متخم بالقطع العسكرية البحرية، وفي سوريا التي باتت سماؤها متخمة بالطائرات الحربية.

هذا السلوك، وهذه الوحشية، وكذلك هذه العنجهية، وهوس القوة، التي تحكم روسيا هي نتاج أزمتها. ما أزمة روسيا؟ هذا ما يجب فهمه، لأنه في جذر كل ما نشاهده من ممارسة عنجهية ووحشية. ظهر ذلك لدى ألمانيا، حين تطورت صناعياً متأخرة عن الدول الأوروبية الأخرى، فوجدت أنه قد جرى تقاسم العالم، ولم يبقَ ما تحتله؛ لهذا اندفعت نحو التسلح وشكلت تحالفاً عالمياً خاض الحرب العالمية الأولى، وهو ما حدث معها أيضاً بعد أن خرجت مهزومة، ومذلة، من هذه الحرب، حيث فرض ذلك سيطرة هتلر على الحكم، وحشد الشعب لحرب جديدة.

لقد أدت الأزمة التي تعيشها البرجوازية الألمانية إلى قبول ميل نازي كان يمثله “الحزب الاشتراكي الألماني”، حزب هتلر، الذي سيطر على الحكم بالانتخاب، وأسس اقتصاداً “دولانياً”، لعبت الدولة دوراً محورياً فيه، وقادته عنجهية القوة إلى خوض حرب ضد “كل العالم”، أي ضد الدول الرأسمالية، والاتحاد السوفياتي. عنجهية كانت تشي بالضعف الداخلي قادت إلى ذلك، لهذا هُزم.

روسيا تعاني من وضع مشابه، رغم اختلاف الظروف، وحيث انتهى الاستعمار، لكن بات العالم مسيطرا عليه عبر التنافس واحتكار الأسواق، من قبل الرأسمالية القديمة (أميركا وأوروبا واليابان)، ومن قبل الصين. وأصبحت تبعية الطبقة المسيطرة في الدول الطرفية هي الأساس في تحقيق السيطرة على الأسواق، كل ذلك مدعوم بقوة أميركا “الخارقة”، أي المتفوقة بشكل كبير.

لقد صيغت الأطراف بشكل تبعي منذ انهيار “نظم التحرر الوطني” لتكمل ما كانت تسيطر عليه الدول الإمبريالية القديمة، ولتبسط سيطرتها على مناطق واسعة في الجنوب، وتعزز ذلك بانهيار النظم الاشتراكية والسيطرة على بلدان أوروبا الشرقية، وجرت محاولة السيطرة على روسيا ذاتها.

وعملت الإمبريالية الأميركية على فرض “أحادية قطبية” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بفعل تفوقها العسكري “المطلق”، وبالتالي باتت معنية بالسيطرة على أسواق العالم لكي تتجاوز أزمة يعيشها اقتصادها؛ وهو الأمر الذي دفعها لاحتلال أفغانستان والعراق، ومحاولة نشر قواتها في العالم لكي تضمن التحكم بمجمل الأسواق، وتحاصر أوروبا واليابان من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى. أي لكي تضمن سيطرتها على الإمبرياليات القديمة من جهة، وتمنع سيطرة الإمبرياليات الجديدة من جهة أخرى.

لكن هذه السياسة فشلت رغم احتلال أفغانستان والعراق، بالضبط لأن أزمة اقتصادها أعمق من أن تحلّ عبر توسيع الأسواق، أو التحكم بالمواد الأولية؛ فهي أزمة اقتصاد باتت الطغم المالية هي المهيمنة فيه، وأصبحت “المضاربة” والنشاط المالي هما الأساس فيه.

هذا الأمر كان يعني منع توسع روسيا، وإفشالها في التنافس العالمي. هذا الأمر بالتحديد كان يدفع روسيا إلى “التوتر”، حيث باتت تشعر رأسماليتها، والدولة الروسية عموماً، بالحصار “الإمبريالي”، في وضع تحتاج فيه إلى التوسع واكتساب “مناطق نفوذ”، وأسواق لتصدير أسلحتها التي تنافس الأسلحة الأميركية، وكذلك أسواق تقبل سلعها، التي لا تستطيع المنافسة، دون منافس، حيث لا يتحقق ذلك سوى عبر السيطرة المباشرة واحتكار الأسواق.

وتبلور هذا الشعور بالحصار بعد العقوبات الأميركية الأوروبية عليها بعد أزمة أوكرانيا، حيث زادت العقوبات من أزمة اقتصادها، بعد وقف تصدير الغاز إلى أوروبا، وفرض عقوبات على بنوك وشركات وشخصيات مقربة من بوتين، ومن ثم انهيار سعر النفط بشكل كبير. هذه العقوبات التي جعلت الهوس الروسي بالحصار “حقيقة” واقعة، وفعلاً عملياً. هذا الوضع كان يفرض التوتر، والميل “الفاشي”، والعنف من أجل السيطرة. إن شعور الرأسمالية الروسية، والدولة الرأسمالية الروسية، بالحصار يفرض كل ذلك، ويفرض أكثر من ذلك.

فهي ترى أنه وإنْ أوجدت نظماً “متحالفة” معها، لا تجد أن ذلك يكفي لكي تنافس في الأسواق، لهذا تميل إلى السيطرة العسكرية المباشرة واحتكار الأسواق، بعكس الصين التي تنافس بقوة “خارقة” نتيجة رخص سلعها. هذا الأمر يدفعها إلى أن تميل إلى القوة لكي تضمن السيطرة المباشرة، وتفرض سلعها بقوة سيطرتها.

ولأن النفط والغاز هما مصدر دخلها الأساسي، نجدها تندفع لكي تحتكر السوق العالمي، من خلال السيطرة على المناطق التي يمكن أن تكون مصدر تصدير الغاز خصوصاً، حيث تكون أوروبا تحديدا مضطرة لاستيراد الغاز الروسي. وسوريا مفصلية هنا، لأنها الطريق لتصدير الغاز الخليجي، القطري خصوصاً، إلى أوروبا. وحتى تصدير الغاز الإيراني، حليفها الراهن. وهذا ما كان قد جرى الاتفاق عليه بين كل من قطر وإيران وسوريا سنة 2010، حيث تقرر حينها مدّ خط أنابيب الغاز من البلدين إلى الساحل السوري للتصدير إلى أوروبا.

إذن، روسيا الإمبريالية تعيش أزمة كبيرة، لأنها باتت إمبريالية تريد الأسواق في لحظة اكتمال سيطرة الإمبريالية القديمة على السوق العالمي. لقد حاولت الحفاظ على “حصتها” في العراق، لكن أميركا احتلته، وحاولت الحفاظ على مصالحها في ليبيا فجرى اللعب عليها لتخسرها، وهي ترى أن الإمبرياليات القديمة “تآمرت” عليها في أوكرانيا فأطاحت بحليفها الوثيق، وهي تمنعها من بيع السلاح عبر تهديد أو إغراء الدول التي تحاول ذلك.

وبالتالي باتت تنطلق من أن “الغرب” يتآمر عليها، ويريد تدميرها. هوس المؤامرة هو الذي بات يحدد السياسة الروسية، وهو الذي يدفعها للتورط في صراعات ليس من أمل في كسبها، وهذا يمكن أن يقود إلى تورط أكبر، وبالتالي يمكن أن يدفع إلى “حافة الهاوية”.

هل تغامر روسيا كما غامرت ألمانيا هتلر؟ المشكلة هنا تتمثل في أن روسيا تستغلّ الانسحاب الأميركي من “الشرق الأوسط”، وبالتالي عدم ميل أميركا للتدخل العسكري الكثيف؛ لهذا تحاول الاحتكاك بدول إقليمية، وتحاول حصر تدخلها في حدود “إقليمية” لكي لا تتفاقم الحرب إلى حرب عالمية. لكن مَنْ يضمن ذلك؟ فتركيا جزء من الحلف الأطلسي، وبالتالي فإن أي صدام معها يدفع إلى صدام حتمي مع دول الحلف، أي مع الإمبريالية الأميركية.

ربما لا تقف المسألة عند هذه الحدود، لأن وضع روسيا “المتأزم”، وحاجتها العميقة للتوسع، يمكن أن يقودا إلى تدخلات أخرى قد تفضي إلى احتكاكات أكبر، وهو ما يمكن أن يفجّر حرباً عالمية. فأزمة روسيا الإمبريالية عميقة، وليس من “تفوّق” لديها سوى السلاح، ولهذا نجدها تعلن عن أسلحتها الجديدة “الأكثر تفوقاً”، وتندفع نحو استخدام جيشها، وتقوم باستعراض عسكري مستمر.

ليبدو أنه ليست لديها سوى “العضلات”، وهذا ما يغرقها في هوس القوة، ويمكن أن يدفعها إلى التدخل العسكري المباشر هنا أو هناك، ويقود بالتالي إلى تصاعد الاحتكاك مع الإمبرياليات الأخرى (ربما حتى مع الصين)، ويجعل الحرب العالمية ممكنة، رغم امتلاك الأسلحة النووية من قبل الدول الإمبريالية التي يمكن أن تنخرط فيها.

إذا كانت روسيا يلتسين سلّمت أمرها “للغرب”، فانخرطت بلا تردد في النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي حاول ابتلاعها، وباتت جزءاً من النظام المالي الدولي، فقد أخذ فلاديمير بوتين طريقاً ينطلق من تاريخ روسيا، ومن تطورها الذي تحقق في المرحلة الاشتراكية، أي التطور الصناعي، اعتماداً على احتياطيها من النفط والغاز، من أجل أن تصبح روسيا هي “زعيمة العالم” بعد شعورها بضعف أميركا وتراجعها العالمي، بعد أن كان الأمل يتحدد في مرحلة سابقة في تشكيل عالم متعدد الأقطاب.

ولا شك أنه كممثل لبيروقراطية دولة عريقة، ولصناعة السلاح، وكذلك للطغم المالية التي نهبت الاقتصاد السوفياتي، يتقدم من أجل ذلك. ولا شك في أن نزقه وعنجهيته هما التلخيص لأزمة روسيا، التي لم تعد اشتراكية لكنها بعد أن باتت رأسمالية ظهر أنها عاجزة عن تحقيق “إمبرياليتها” نتيجة “تقاسم الأسواق”، وتشكيل بنى طرفية لا خيار لديها سوى التبعية للإمبرياليات القديمة، ولكن أيضاً نتيجة عدم قدرتها على المنافسة في سوق مفتوح.

هذه المسألة الأخيرة هي ميزة الصين التي باتت تتقدم بسرعة لكي تنافس “على القمة”، وهو ما جعلها “الخطر المحتمل” على الإمبريالية الأميركية.
بالتالي فلكي تخرج البرجوازية الروسية من مأزقها الاقتصادي، ولكي تتطور روسيا اقتصادياً، يجب أن تكون مهيمنة عالمياً، محتكرة للأسواق أو فارضة ذلك عبر قوتها العسكرية. هذا الأمر هو الذي يدفع إلى زيادة التسلح، وتضخيم الجيش، واستعراض القوة، التي باتت تنتشر هنا أو هناك.

لقد أصبحت ميزانية الدولة تخضع لاحتياجات الجيش، وبات التطوير العسكري يحظى باهتمام السلطة، وبات أيضاً التقدم نحو السيطرة خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق هو الخطوة الأولى في مسار توسعي من أجل السيطرة، حتى وإنْ تحقق ذلك في شكل احتلال. وكل ذلك يدفع نحو تأزم الوضع العالمي، وربما الاندفاع نحو صدام دولي.

روسيا مريضة، وعلاجها يعتمد على تغيير النظام ككل. فليس من الممكن أن تشفى دون تجاوز الرأسمالية، لأن ذلك وحده هو الذي يمنع اندفاعها الهوسي للسيطرة والاحتلال، وبالتالي الصدام مع الإمبرياليات القديمة. بينما تجاوز الرأسمالية يفتح على صراع عالمي مختلف، في وضع تعاني الرأسمالية فيه من “أزمة وجود” على ضوء سيطرة النشاط المالي وهيمنة الطغم المالية فيها. لتنخرط روسيا في موجة الثورات التي ستندلع ضد الرأسمالية بدل أن تصارع طغمها المالية من أجل السيطرة والاحتلال.

سلامة كيلة

نقلا عن الجزيرة نت