الأكاديميون في العراق يتحسرون على حال الجامعة العراقية بين الأمس واليوم

الأكاديميون في العراق يتحسرون على حال الجامعة العراقية بين الأمس واليوم

يمكن ملاحظة تدهور التعليم العالي في العراق من خلال خروج معظم الجامعات العراقية من مؤشرات الرصانة العلمية العالمية للجامعات، بينما كانت هذه الجامعات في ثمانينات القرن الماضي منارة ومرجعا أكاديميا عالميا، لكنها خسرت مكانتها مع تفشي الفساد والطائفية والمحسوبية.

بغداد – يستشهد الدكتور رياض الدباغ رئيس الجامعة المستنصرية في بغداد سابقا، بمستوى الجامعات العراقية في ثمانينات القرن الماضي والتقدم والتطور اللذين وصلت إليهما قائلا “درّسني في العراق بروفيسور بريطاني سبق أن درس في جامعة كامبردج وأتذكر جيدا كلمته عن مختبرات جامعاتنا قائلا إنه لم يرى في جامعة كامبردج شبيها لما يعادل خمسين في المئة منها”.

ويضيف البروفيسور العراقي الذي شغل مناصب أكاديمية عليا في العراق “كان الأستاذ الجامعي الذي يريد أن يتقدم للمسابقة كأستاذ مشارك أو بروفيسور يجب أن يمتلك خمسين بحثا منشورة عالميا ليكون مؤهلا للدخول إلى المسابقة فقط ثم يتم الاختيار من الأفضل”، متابعا “كان الأساتذة الجامعيون مؤثرين لأنهم كانوا طاقات ولا تزال كلمات البعض منهم راسخة في ذهني منذ الثمانينات”.

وتحيل كلمات البروفيسور الدباغ إلى المقارنة بين الجامعات العراقية بين الأمس واليوم، حيث أن الطلاب والأساتذة يأسفون لما وصلت إليه حالها، بعد أن كانت تحتل مكانة بارزة عالميا وأكاديميا.

وفي السياق نفسه يقول الأستاذ الدكتور هاني الحديثي إن التعليم العالي والبحث العلمي في العراق “ظلا على نسق الجامعات البريطانية والفرنسية يحتلان موقعا متقدما ومتفوقا على جميع الجامعات في الوطن العربي والشرق الأوسط لغاية بداية عقد التسعينات أو أواسط الثمانينات حيث دأبت تقارير اليونسكو على الإقرار بذلك معتبرة أن التعليم والبحث العلمي في العراق يجاريان البلدان الاسكندنافية”.

ويشرح الحديثي في تصريحات لـ”العرب”، “تركت الحرب العراقية – الإيرانية تداعياتها على التعليم العالي والبحث العلمي في العراق وخاصة النصف الثاني من عقد الثمانينات لتأتي مرحلة عقد التسعينات حيث شهد التعليم تراجعا واضحا بسبب الحصار الشامل الذي فرضه مجلس الأمن الدولي بسبب غزو الكويت 1991 وما ترتبت عنه من نتائج كارثية”.

وتابع أستاذ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية هاني الحديثي “رغم ذلك فإن جهودا كبيرة بذلت للحفاظ على مستوى مقبول عبر مؤتمرات النهوض بالتعليم العالي والبحث العلمي في مواجهة تأثير الحصار الشامل ولغاية احتلال العراق عام 2003 واعتماد وسائل وطنية للتعويض عن الابتعاث العلمي للبلدان المتطورة من خلال مضاعفة القبول لطلبة الدراسات العليا اعتمادا على ماهو متوفر من كفاءات في التعليم العراقي والبحث العلمي فضلا عن مضاعفة القبول في الدراسات الأولية لكن كل تلك الظروف لها تبعات سلبية خاصة في حقل القبول الخاص والاستثناءات غير المبررة، ورغم ذلك فرض التعليم نفسه في ظل حالة الحصار الشامل ودفع التعليم العالي الثمن”. واعتبر “لقد بدا استهداف التعليم والعلماء العراقيين واضحا في إصرار الإدارات الأميركية على ملاحقة العلماء”.

ويؤكد الحديثي أن “التعليم العالي والبحث العلمي بعد الاحتلال تعرضا إلى جانب فقدان الكوادر العليا في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي إلى إجراءات عبثية تحت اعتبارات طائفية وسياسية ضمن مجال المحاصصات والتي أدت إلى تغليب الكم على النوع. وفي تقرير 2014 انخفض مستوى الجامعات العراقية من المستوى 600- في المئة إلى 700- في المئة خلال سنة واحدة من التقرير الإجمالي لمنظمة اليونسكو”.

ويعاني التعليم العالي في البلاد من اختلالات هيكلية مرتبطة بفشل الدولة على عدة مستويات والفساد المستشري الذي أنتج اختلالا شاملا في الرؤى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدى المؤسسات التي تصنع القرارات وترسم السياسات.

وينسحب الفساد المستشري في مفاصل الدولة كلها على وزارة التعليم العالي التي تخلت عن دورها التخطيطي والرقابي وسمحت لجهات غير تخصصية خارج الوزارة بإجراء معادلة الشهادات حتى لو كانت مزورة.

وكان نتيجة ذلك كله أن الجامعات العراقية أصبحت خارج تصنيف شنغهاي لـ1000 جامعة بالعالم في سنة 2020، إذ خلا هذا التصنيف الذي نشرته جامعة “جياو تنغ” في شنغهاي من أيّ جامعة عراقية.

وفي العراق 35 جامعة حكومية و51 جامعة أهلية، نحو 48 في المئة منها في بغداد و10 في المئة في كربلاء (معظمها دينية)، أمّا في محافظات كبيرة مثل نينوى والأنبار وصلاح الدين فنسبة الجامعات 1 في المئة فقط، وفقاً لما ورد في خطة التنمية الوطنية 2018 – 2022.

وتقول سعاد ناجي العزاوي، الأستاذة المشاركة والاستشارية في الهندسة البيئية وعميدة كلية ورئيسة جامعة خاصة سابقا، بأن “التعليم العالي في العراق يعاني تدهورا كبيرا تمكن ملاحظته من خلال خروج معظم الجامعات العراقية من مؤشرات الرصانة العلمية العالمية للجامعات”.

وترجع العزاوي سبب تدهور التعليم إلى عدم تلبية الجامعات العراقية المتطلبات العالمية العامة والخاصة لاعتماد الشهادات من مساحات الأبنية والخدمات والمختبرات والأجهزة ونسبة حملة الدكتوراه إلى عدد الطلبة وغيرها من الشروط. أما الجامعات الخاصة فمعظمها تمنح الشهادات لمن يدفع بعيدا عن الأداء ونزاهة الامتحانات والمعايير المطلوبة لتقييم الكفاءة.

يضاف إلى ذلك تدخل الميليشيات وأحزاب السلطة الدينية في تسيير العملية التعليمية وفرض العطل الدينية الطائفية بما يزيد على ثلاثة أشهر من السنة الأكاديمية واغتيال الكفاءات العلمية التي لا تستجيب للشروط المفروضة عليها ما زاد من حجم الكارثة في هذا القطاع الذي يعتمد عليه نهوض البلد وتطوره.

يضاف إلى ذلك وجود ظاهرة تزوير الشهادات، وهي من الأخطار الكبيرة التي تواجه المجتمع العراقي وقد انتشرت لتشمل مناحي الحياة كلها وتعددت صورها وأشكالها ووصلت إلى درجة أن تمارس الغش والتزوير كتل سياسية وأحزاب لتحقيق انتصار ما في حملة انتخابية أو إيصال مرشح ما لعضوية مجلس محلي أو برلمان.

وأظهرت إحصائية لمنظمة التعليم العالمي – وهي منظمة دولية لها مقر في بغداد – نسب تزوير الشهادات في محافظات العراق خلال سنتي 2007 – 2008، إذ احتلت فيها محافظة البصرة المركز الأول بواقع تزوير نسبته 19 في المئة تلتها العاصمة بغداد بفارق نصف درجة. وكانت أقل المحافظات نسبة محافظة المثنى الواقعة جنوب غربي العراق بنسبة 2 في المئة.

وبينت المنظمة أن الكثير من المسؤولين، الوزراء والنواب وأصحاب الدرجات الخاصة، يحملون شهادات مزوّرة صادرة من جامعات معروفة أو غير معروفة وأن هؤلاء يحظون بامتيازات الشهادة رغم الكشف عن بطلانها ما جعل الشهادة العلمية لا قيمة لها في نظر الشارع العراقي، والغريب أن أحدا من المسؤولين لم يُحاسب على تزويره وتحايله على القانون، وأن عددا من النواب لا يحمل أيّ مؤهّل علمي أو شهادة أكاديمية سليمة، وأنه مارس التزوير عند ترشيحه للبرلمان في الدورات كلها.

وكشف مكتب المفتش العام في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن أن العدد الإجمالي للوثائق الدراسية التي قدمها الطلبة للقبول في الكليات والمعاهد بلغ 4790 وثيقة مزورة، فيما بلغ عدد الوثائق المزورة المقدمة لأغراض التعيين 1898 وثيقة لغاية الثلاثين من شهر سبتمبر 2019.

وأوضح أن هناك الآلاف من الطلبة مشكوك في صحة صدور وثائقهم الدراسية، وأنه من بين 44 شهادة معادلة صادرة من دولة قطر كانت هناك 41 شهادة منها مزورة وثلاثٌ فقط صحيحة، فيما بلغت نسبة التزوير في الشهادات الصادرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية قرابة 99 في المئة. كما أعلنت هيئة النزاهة أرقاما مخيفة عن حجم التزوير الحاصل في الدولة العراقية، مع تهميش أصحاب الشهادات العليا والمتفوقين من الطلبة وهجر الملايين منهم للبلاد.

وتؤكد المصادر أن الظاهرة زادت خطورة، بظهور الكليات الأهلية وتكاثرها وتحدث شلال الجبوري مدير عام دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة ثم دائرة البحث والتطوير في وزارة التعليم العالي في السابق عنها قائلا “بعد أن كانت لدينا إستراتيجية وطنية لاستحداث الكليات والجامعات أصبح الاستحداث الآن عشوائيّا يستطيعه كل من لديه مال حتى لو كان حوذيّا”.

وبات التعليم الأهلي من دون ضوابط، بحيث أصبح الحصول على الشهادة متاحا لأيّ شخص وكانت الكارثة الكبرى في التعليم الطبي حيث أصبحت هناك قرابة 50 كلية طب أسنان ومثلها كليات صيدلة، وبسبب امتلاء كليات طب الأسنان والصيدلة بالطلبة أعلنت نقابات الأطباء وأطباء الأسنان والصيدلة إلغاء التعيين للخريجين بسبب تدني مستواهم المهني.

ويقول محمد طاقة، العميد السابق لكلية بغداد للعلوم الاقتصادية الأهلية، إن التعليم العالي الأهلي يعاني من اختلالات هيكلية كثيرة، ولاسيما في العلاقات بين العناصر الأساسية للعملية التعليمية ومستلزماتها المادية والبشرية.

ويؤكد طاقة، في دراسة له أن الظروف الاستثنائية التي مر بها العراق، ووجود أكثر من جهة رسمية وغير رسمية تمارس الضغوط على وزارة التعليم العالي لتحديد مساراتها بما ينسجم مع أهداف تلك الجهات، أدّيا إلى فقدان السيطرة على مسارات التعليم العالي الأهلي، وأسهما في تعميق مشاكله.

ويؤكد الدكتور هاني الحديثي أن “مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي تحتاج إلى إعادة صياغة لفلسفة التعليم العالي والبحث العلمي وفق أسس مهنية تدرجية تعيد وضع الجامعات والمعاهد على السكة الصحيحة باتجاه تنمية مواردها البشرية ودخول سوق التنافس الرقمي عالميا الذي ينتقل بشكل سريع نحو استخدام وسائل الذكاء الصناعي في وقت يزال التعليم العالي والبحث العلمي يجثمان مكانهما ورقيا”.

وبات الأكاديميون العراقيون يستعيدون حكاية قديمة ويتندرون بها، تقول إن جامعة أسيوط في صعيد مصر كانت بلا أسوار، لأن سليمان حُزَيّن وهو أول مدير لهذه الجامعة تبنّى رؤية فريدة شعارها “جامعة بلا أسوار”، فكان يمر عبر الجامعة الحوذيون بعرباتهم وحيواناتهم اختصارا للطريق، ولما تذمر الأساتذة الجامعيون حينها وشكوا ذلك إلى مدير الجامعة قال لهم “ليسَ مهمًّا أنْ تدخلَ الحميرُ إلى الجامعةَ.. المهمُ هو أن لا تخرجَ منها بشهادةٍ جامعية”.

العرب