جاء مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في توقيت صعب بالنسبة لإيران. إذ تتفاقم حدة الأزمات الداخلية، على المستويين السياسي والاجتماعي، في الوقت الذي يتسع فيه نطاق التصعيد على المستوى الإقليمي، خاصة بعد الارتدادات التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة وتصعيد على أكثر من جبهة إقليمية.
ومن هنا، يمكن تفسير تصاعد الجدل حول ما إذا كان الحادث مدبراً سواء من قبل أطراف داخلية أو خارجية، أم أنه ناتج حقاً عن سوء الأحوال الجوية وتهالك أسطول الطائرات المدنية، خاصة أن الحادث وقع أثناء عودة رئيسي من الزيارة التي قام بها إلى المنطقة الحدودية مع أذربيجان لافتتاح سد أقيم في تلك المنطقة ومن أجل عقد لقاء مع الرئيس الأذري إلهام علييف، حيث من المعروف أن علاقات وثيقة تربط كلاً من إسرائيل وأذربيجان.
وسوء كان الحادث مدبراً أم لا، رغم أن إيران حتى الآن لم تعلن سبباً آخر بديلاً لسوء الأحوال الجوية، فإنه سوف يفرض تداعيات عديدة على الساحتين الداخلية والخارجية، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي تقرر عقدها يوم 28 يونيو. إذ سيتعين على المؤسسات النافذة في النظام حالياً الاستعداد لوصول رئيس جديد في وقت قصير، وفي ظل ظروف صعبة تمر بها البلاد. وربما يؤدي ذلك إلى تغير توازنات القوى السياسية مجدداً والتي كانت تتجه نحو استقطاب جديد سعى النظام إلى تكريسه بعد استبعاد تيار الإصلاحيين من خريطة التوازنات.
ولا تقتصر المسألة على هذا الحد. إذ أن هذه التداعيات قد تمتد إلى تجدد الخلاف حول من سيكون مرشد الجمهورية الإيرانية الجديد، في ضوء تقدم المرشد الأعلى علي خامنئي في العمر فضلاً عن حالته الصحية. وقد كان الرئيس الراحل هو المرشح الأقوى لتولي هذا المنصب وتعزز وفاته من فرص احتمال توريث المنصب لنجل المرشد الحالي مجتبى خامنئي، وما ستشكله تلك الخطوة حال حدوثها من ارتدادات سياسية عديدة داخل وخارج إيران.
سيناريوهات مستقبلية
يثير حادث مقتل إبراهيم رئيسي تكهنات عديدة حول مستقبل الحكم في إيران، ومن الذي يمكن أن يقود البلاد في الفترة القادمة، رغم أن النظام كان حريصاً على توجيه رسائل طمأنة للشعب بأن “إدارة الدولة لن تتأثر”، وأن الحكومة ستواصل عملها من دون أي خلل. فالمعروف أن السياسة الخارجية والداخلية للنظام الإيراني ليست بيد السلطة التنفيذية فحسب، وإنما تتدخل فيها مؤسسات عديدة بمقتضى صلاحيات يمنحها الدستور، وفي مقدمتها مؤسسة الإرشاد. ويمكن تناول أهم الملفات التي سوف تطرح على الساحة خلال المرحلة القادمة على النحو التالي:
أولاً: منصب الرئيس: تنص المادة 131 من الدستور الإيراني على ما يلي: “في حالة وفاة الرئيس أو عزله أو استقالته أو غيابه أو مرضه لأكثر من شهرين، أو في حالة انتهاء فترة ولاية الرئيس وعدم انتخاب رئيس جديد بسبب عوائق أو غير ذلك من الأمور، يتولى المساعد الأول للرئيس، بموافقة المرشد، صلاحياته ومسئولياته، ويقوم مجلس يتكون من رئيس مجلس النواب ورئيس السلطة القضائية والمساعد الأول للرئيس باتخاذ الترتيبات اللازمة لانتخاب رئيس جديد خلال مدة أقصاها 50 يوماً”. وفي حالة وفاة المساعد الأول أو غيرها من الأمور التي تمنعه من أداء مهامه، وأيضاً إذا لم يكن للرئيس مساعد أول، يقوم المرشد بتعيين شخص آخر بدلاً منه. ووفقاً لهذا البند، أعلن المرشد الإيراني رسمياً تكليف محمد مخبر النائب الأول للرئيس الراحل، بتولى مهام الرئاسة.
وفي سياق متصل، وافق البرلمان على تعديل قانون الانتخابات الرئاسية، بعدما قررت السلطات إجراءها في موعد مبكر “28 يونيو المقبل”، على أن يتقدم المرشحون بطلباتهم خلال الفترة من 30 مايو الجاري إلى 3 يونيو. وستبدأ الحملة الانتخابية من 12 يونيو حتى حلول 27 منه، موعد الصمت الانتخابي.
ولما هو معروف بأن الانتخابات الرئاسية في إيران تُجرى كل أربع أعوام بالتزامن مع الانتخابات البلدية، فقد كان من المقرر إجراؤها العام المقبل، لذا توقعت اتجاهات عديدة أن يتولى الرئيس المنتخب الحكم لمدة عاماً واحداً، إلا أن النظام وجه من الرسائل ما يفيد بأن مدة الرئاسة القادمة أربعة أعوام.
ويمكن القول إن النظام الإيراني لديه خبرات سابقة للتعامل مع هذا الموقف، فهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها النظام فراغاً في منصب الرئيس، فقد سبق ولم يكمل رؤساء حتى ولايتهم الأولى، إذ تم عزل الرئيس الأسبق أبو الحسن بني صدر، بتهمة خيانة مبادئ الثورة الإيرانية عام 1981، وفر من بعدها إلى باريس حتى وفاته عام 2021. وأيضاً كان محمد علي رجائي قد قُتل في تفجير نسب إلى منظمة مجاهدي خلق عام 1981 بعد أقل من شهر من تنصيبه خلفاً لبني صدر. وفي العام نفسه انتُخب علي خامنئي رئيساً للجمهورية واستمر في مهامه حتى عام 1989، عندما أصبح المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية خلفاً للخميني.
ولكن الإشكالية التي سيواجهها النظام حقاً في اللحظة الراهنة، هي الاستقرار على الشخصية التي ستتولى هذا المنصب، وهو ما سوف يرتبط بمتغيرات أخرى أهمها رؤية القيادة العليا لتأثير ذلك على توازنات القوى السياسية الداخلية وعلى التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية، لاسيما مع إسرائيل. ومن هنا، بدأت أسماء عديدة في الظهور كمرشحين محتملين مثل:
1- محمد باقر قاليباف: رئيس البرلمان الإيراني، الذي حاول مرات عدة الوصول إلى منصب الرئيس. فقد خسر في انتخابات عام 2005، بعدما حل في المرتبة الرابعة بعد محمود أحمدي نجاد والرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني والزعيم الإصلاحي مهدي كروبي، وخرج من الجولة الأولى بعدما كان متقدماً على المرشحين المحافظين الآخرين وفق استطلاعات الرأي.
بعد ذلك عاد قاليباف لفكرة المشاركة في الانتخابات الرئاسية عام 2013، وهذه المرة حاز المرتبة الثانية بستة ملايين صوت لكنه خسر بفارق كبير أمام روحاني. ويعد قاليباف مرشحاً قوياً لشغل منصب رئاسة الجمهورية الفترة القادمة، إلا أن إصراره على المنافسة في الانتخابات الرئاسية قد يدفع خصومه السياسيين إلى إثارة قضايا الفساد المرتبطة بعائلته على نحو يمكن أن يخصم من فرصه.
2- علي لاريجاني: السياسي المحافظ المعتدل الذي شغل لمدة طويلة منصب رئيس مجلس الشورى الإيراني واستبعد في عام 2021 من الترشح للرئاسة. ينتمي لاريجاني لأسرة نافذة، ويؤسس علاقات قوية مع مؤسسة المرشد ومع الحرس الثوري ومع الحوزات العلمية.
3- علي شمخاني: عينه المرشد الأعلى قائداً لبحرية الجيش بعد عام من انتهاء الحرب الإيرانية- العراقية، ثم وزيراً للدفاع عام 1997 في حكومة الرئيس محمد خاتمي، وفي عام 1999، نال رتبة أدميرال، واختير مرة أخرى في ولاية خاتمي الثانية كوزير للدفاع، وظل في المنصب حتى نهاية ولاية خاتمي عام 2005.
وكان شمخاني على رأس الوفد الذي تفاوض مع المسئولين السعوديين في بكين على استئناف العلاقات الدبلوماسية، وقد شغل منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 10 سنوات، إلا أنه استقال عام 2023، أثناء فترة حكم رئيسي، وقيل أنه لم يتفق مع توجه المحافظين على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية.
4- محمد جواد ظريف: بدأ حياته الدبلوماسية من الولايات المتحدة كمسئول في البعثة الإيرانية في نيويورك، ثم مندوب إيران الدائم في الأمم المتحدة، وشغل منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، وبرز اسمه كمفاوض بارع خلال المفاوضات التي أدت إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية. إلا أنه قبل انتهاء عهده، تم تسريب شريط مسجل لمقابلة صحفية معه، تناول فيها ملفات حساسة، فقد كشف خلالها حجم تدخل الحرس الثوري في السياسة الخارجية الإيرانية، ورغم أنه عاد للمشهد السياسي بعد ذلك، حتى أنه كان أول من وجه الاتهام للولايات المتحدة في وفاة رئيسي، لفرضها العقوبات على إيران التي تمنعها من الحصول على قطع غيار للطائرات الخاصة بها، إلا أن اسمه لا يزال محل تحفظ من جانب المحافظين.
وقد يطمح كل من الرئيس السابق حسن روحاني، والرئيس الأسبق أحمدي نجاد، في خوص الانتخابات، إلا أن قرار النظام باختيار رئيس سابق لتولي هذا المنصب في تلك الظروف الصعبة يبدو مستبعداً.
ثانياً: منصب المرشد الأعلى: كان لافتاً قيام أعضاء مجلس خبراء القيادة الفائزون بانتخابات مارس الماضي أثناء عقدهم الجلسة الأولى للمجلس الجديد يوم 21 مايو الجاري، باختيار محمد علي موحدي كرماني رئيساً لمجلس خبراء القيادة رغم تقدمه في السن حيث يبلغ 92 عاماً، حيث تكمن أهمية ذلك في الصعوبات التي قد يواجهها المجلس مستقبلاً، والذي قد يتعين عليه اختيار مرشد جديد للبلاد.
وقد سبق أيضاً وتعامل النظام مع هذا الملف مرة واحدة، ففي عام 1989 توفى الخميني، ولم يكن خامنئي يحمل صفات مشابهة له ولم يكن يتمتع بكاريزما ثورية مثله، ولا كان يحمل حتى درجة فقهية عليا، حتى أن الكثير من رجال الدين حينها استبعد أن يكون خامنئي هو الخليفة للمرشد الراحل. إلا أن ما أسماه المؤيدون له “الكفاح السياسي” هو المتغير الذي حسم الأمور لصالح خامنئي في النهاية.
وقد كثر الحديث عن من سيخلف خامنئي في تولي هذا المنصب، إذ كان فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية عام 2021، قد شكل نقطة انطلاق لتوليه هذا المنصب. فقبل وفاته، اعتبرت اتجاهات عديدة أن هناك مرشحين رئيسيين فقط لتولي منصب المرشد الأعلى بعد وفاة خامنئي وهما الرئيس الراحل، ومجتبى خامنئي، نجل المرشد الثاني. إلا أن عوامل ترجيح تولي رئيسي هذا المنصب كانت أقوى من العوامل التي ترجح تولي نجل المرشد، ويعود ذلك لعدة اعتبارات، أهمها أن تولي مجتبى هذا المنصب يشير إلى العودة إلى نظام الحكم الوراثي في بلد أطاحت فيه الثورة الإيرانية في عام 1979 بالنظام الملكي المدعوم من الولايات المتحدة.
لكن وفاة رئيس في هذا التوقيت الحرج قد تعزز من فرص توريث “ولاية الفقيه”. ورغم ذلك، فإن هناك قائمة من الأسماء المطروحة أيضاً للمنافسة على منصب المرشد الأعلى بجانب مجتبى خامنئي، تضم كلاً من:
1- أحمد علم الهدى: كان علم الهدى رفيق خامنئي قبل الثورة، كما يتشارك الإثنان الآراء حول الغزو الثقافي الغربي والعداء تجاه القيم الليبرالية والديمقراطية، وهو صهر الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، وممثل المرشد الأعلى في محافظة خراسان رضوي، وإمام جمعة مدينة مشهد.
2- علي رضا أعرافي: وهو عضو في مجلس صيانة الدستور وكذلك عضو في مجلس خبراء القيادة. وكان يشغل منصب رئيس جامعة المصطفى الدولية، وكان إماماً لصلاة الجمعة ورئيس حوزة قم العلمية في إيران.
3-أحمد خاتمي: وهو عضو مجلس الخبراء وإمام الجمعة في طهران، وأحد أكثر رجال الدين الذين يتبنون توجهات متشددة إزاء القضايا الرئيسية المطروحة على الساحتين الداخلية والخارجية.
في النهاية، يمكن القول إن حادث وفاة الرئيس الإيراني المفاجئ سيكون له تأثيرات مباشرة على توازنات القوى داخل الدولة، وهو ما سوف تكشفه عن انتخابات الرئاسة التي سوف تجرى في 28 يونيو القادم، وما سوف يليها من استحقاقات سياسية لا تبدو هينة في إيران.