رغم أن معظم التحليلات التي طرحت بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث سقوط مروحية في محافظة أذربيجان الشرقية في 19 مايو 2024، ركزت على التداعيات المحتملة التي يمكن أن يفرضها ذلك التطور المُفاجِئ أولاً على توازنات القوى السياسية الداخلية في إيران التي تبدو مقبلة على استحقاقات سياسية مهمة، وثانياً على اتجاهات السياسة الخارجية للدولة، لاسيما مع دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات المنطقة، إلا أن معظمها لم يشر إلى مدى إمكانية تأثر الاتفاق النووي تحديداً بتغير الرئيس في إيران على نحو مُفاجِئ.
وهنا، فإن اختيار الاتفاق النووي لدراسة مدى إمكانية تأثره بوفاة رئيسي يكتسب وجاهة خاصة باعتبار أن له صلة بالجدل الذي أثير حول أسباب وقوع الحادث. فالاتفاق في الأساس يواجه اختباراً صعباً. إذ فشلت المفاوضات التي أجريت على مدى أكثر من عامين بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس جو بايدن، في الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين الطرفين بشكل يتيح عودة الأخيرة إلى الاتفاق الذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في 8 مايو 2018.
كما أن إيران تواصل، رداً على ذلك، تخفيض مستوى التزاماتها النووية، على نحو أدى إلى تراكم كمية من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة (أكثر من 5500 كيلوجرام) تعادل 27 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67%)، حسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 26 فبراير 2024 (زادت هذه النسبة من دون شك خلال الفترة ما بين 26 فبراير و21 مايو 2024).
لكن هذه الخلافات لم تمثل سوى العنوان العريض للأزمة التي يواجهها الاتفاق النووي. إذ لم تكن إيران، على ما يبدو، متعجلة في الوصول إلى صفقة نووية جديدة تنقذ هذا الاتفاق. وزاد من اقتناع إيران بضرورة التريث اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر 2024.
فقد فضلت إيران الانتظار إلى حين استشراف ما سوف تؤول إليه الانتخابات، وما إذا كان الرئيس جو بايدن سوف ينجح في تجديد ولايته الرئاسية، أم سينجح الرئيس السابق دونالد ترامب – في حالة مواصلته المنافسة في الانتخابات – في العودة من جديد إلى البيت الأبيض، وبالتالي إعادة تبني سياسة “الضغوط القصوى” التي سبق أن اتبعها في إدارة العلاقات مع إيران خلال ولايته السابقة.
هنا، فإن إيران تعتبر أن تجديد ولاية بايدن معناه تعزيز فرص إجراء مفاوضات جديدة وإبرام صفقة نووية يمكن من خلالها مواصلة العمل بالاتفاق النووي وفقاً لشروط جديدة يفرضها التطور المتواصل في البرنامج نتيجة تخفيض إيران مستوى التزاماتها في الاتفاق، وسوف تكون مطمئنة في هذه اللحظة إلى أن هذا الاتفاق قد يستمر لمدة أربعة أعوام على الأقل دون أن يكون هناك احتمال لانسحاب واشنطن منه باعتبار أن الإدارة الموجودة هى التي تفاوضت بشأنه. في حين أنها تتوقع أن يؤدي فوز ترامب إلى انهيار هذا الاتفاق والعودة من جديد إلى المربع الأول للأزمة النووية.
هذا التصور ربما يتغير بعد غياب الرئيس إبراهيم رئيسي عن المشهد السياسي بعد وفاته مع وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وسبعة آخرين في حادث الطائرة. وهنا، فإن ذلك لا يعود فقط إلى التوجهات المتشددة التي كان يتبناها الرئيس الراحل، والتي دفعت اتجاهات عديدة ومسئولين سابقين- على غرار الرئيس السابق حسن روحاني – إلى اتهامه بأنه لا يدعم الاتفاق النووي ولا يرغب في الوصول إلى صفقة جديدة من الأساس، وإنما يعود أيضاً إلى ما كشفه حادث سقوط المروحية من ثغرات فادحة وهشاشة واضحة تعاني منها إيران على مستوى إدارة شئون الدولة ومواجهة الكوارث والأزمات المُفاجِئة.
ورغم أن هناك تكهنات عديدة أثيرت بعد اختفاء الطائرة ثم الإعلان عن سقوطها ووفاة كل من كانوا عليها، بعضها وصل إلى حد ترجيح وقوع عمل تخريبي سواء من جانب أطراف داخلية أو خارجية، إلا أن “بِدائية” أسطول الطيران المدني الإيراني – فضلاً عن الطيران العسكري – تمثل أحد أبرز العوامل التي يمكن الاستناد إليه في تفسير ما حدث، لاسيما في ظل الأجواء المناخية السيئة التي استخدمت خلالها المروحية.
هذا المستوى الذي وصل إليه أسطول الطيران المدني الإيراني يعود إلى أسباب عديدة، في مقدمتها العقوبات الدولية والأمريكية التي تعرضت لها إيران على مدى العقود الماضية والتي تسببت في حرمانها من الحصول على قطع غيار لطائراتها المدنية، على نحو تسبب في تكرار حوادث سقوط الطائرات أو هبوطها اضطرارياً وكان آخرها حادث سقوط طائرة رئيس الجمهورية نفسه.
وهنا، فإن النتيجة الأبرز التي يمكن أن تتمخض عن ذلك هو أن إيران سوف تتجه، في الغالب، بعد وقوع هذه الكارثة، إلى التفكير في إعادة تحديث أسطولها المدني. وكانت إيران قد بدأت بالفعل هذه الخطوة في مرحلة ما بعد الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، حيث أن أولى الصفقات التي وقعت كانت بين شركة الطيران الوطنية “إيران إير” وشركتى “إيرباص” و”بوينج” لشراء عدد كبير من الطائرات المدنية يصل إلى نحو 180 طائرة. إلا أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018 وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران في 7 أكتوبر من العام نفسه، حال دون إتمام تلك الصفقات، بعد أن اتجهت الشركات الكبرى إلى الانسحاب منها تجنباً للتعرض لعقوبات وغرامات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
قد يقول قائل أن إيران ربما تتجه إلى حلفائها الدوليين – على غرار الصين وروسيا – للحصول على مساعدتهم في هذا الصدد. وربما يكون ذلك صحيحاً، لكنه لا ينفي أن إيران تحرص دائماً على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، فضلاً عن أنها تفضل الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، بدليل أنها أول ما لجأت إليه بعد الوصول للاتفاق النووي، وبدليل أنها لم تستعن على مدى الأعوام الخمسة والأربعين الماضية بتكنولوجية صينية أو روسية لتطوير أسطولها المدني.
هنا، فإن إيران قد لا تقف كثيراً عند انتظار مَن سيكون الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية. إذ أنها قد ترى أن التفاوض هو الخيار الذي سوف تلجأ إليه في كل الأحوال، سواء نجح بايدن في تجديد ولايته الرئاسية، أو عاد ترامب إلى البيت الأبيض.
لكن حسابات طهران في الحالتين لن تكون واحدة. فإذا كانت ترى أن التفاوض مع بايدن قد يمنحها صفقة نووية جديدة تتضمن امتيازات عديدة اقتصادية وتكنولوجية واستراتيجية، من بينها تعزيز قدرتها على تحديث أسطول طيرانها المدني، فإنها ترى أن التفاوض مع ترامب – إلى جانب ما سبق – قد يُحصِّنها من الولوج في خيارات أصعب بكثير، مثل الانخراط في حرب مباشرة.
هذه الحرب ليس بالضرورة أن يكون طرفها الآخر هو الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما ربما تكون إسرائيل، التي قد تعتبر أن مجرد عودة ترامب إلى البيت الأبيض يمنحها حساباً مفتوحاً في إدارة التصعيد مع خصومها الإقليميين، في وقت تتحين فيه الفرصة لرفع مستوى هذا التصعيد، بعد التغير الملحوظ في تفكيرها الاستراتيجي الذي نتج عن عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 وما تلاها من شن حرب على قطاع غزة وفتح جبهات تصعيد جديدة في مناطق مختلفة بالشرق الأوسط.
وهنا، يمكن استحضار عبارة لافتة سبق أن جاءت على لسان المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي أكثر من مرة للإشارة إلى حرص إيران على تبني سياسة “الأبواب غير الموصدة” حتى في إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ قال خامنئي: “إن إيران تتفاوض أحياناً مع الشيطان لدرء شره”.