سوف يظل التاسع عشر من مايو/ايار من العام 2024 مناسبة حزينة بتميز كبير في تاريخ النظام الإسلامي في إيران. ففقد رئيسه ووزير خارجيته وعدد آخر من مسؤوليه في حادثة واحدة بدون سابق إنذار قضية أليمة لا يمكن غيابها عن ذاكرة الذين يخططون لهذا النظام ومستقبله. صحيح أن تلك الحادثة ليست الأولى من نوعها من حيث ارتباطها بمفاصل النظام، ولكنها جاءت بعد رحيل الغالبية من عناصر الجيل الأول من الأشخاص الذين ساهموا في قيام الثورة وبناء النظام. الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته أمير حسين عبد اللهيان كانا من بين شباب تلك الثورة الذين هرعوا إلى الشوارع للمشاركة في التظاهرات العملاقة التي شهدتها المدن الإيرانية في مطلع العام 1979 وأدت لسقوط نظام الشاه وتأسيس أول جمهورية في العصر الحديث قائمة على الدين الإسلامي. وقد ترعرع هذان الرجلان في كنف الدولة وعاشا هموم الصحوة الإسلامية، ولديهما من الطاقة والوعي الفكري والحماس النفسي لرعاية المشروع الإسلامي الشيء الكثير. ولكن شاء القدر أن يكونا على متن طائرة عمودية تحطمت في منطقة جبلية نائية وهما في طريق العودة بعد المشاركة في افتتاح سد كبير على الحدود الإيرانية – الأذربيجانية.
ما أكثر حوادث الطيران التي يموت فيها البشر، ومنهم السياسيون وحتى رؤساء الدول. فمنذ العام 1940 بعد أن انتشر استخدام الطيران على نطاق أوسع تصاعدت الحوادث التي فقد مسؤولون كبار فيها حياتهم. في ذلك العام لقي رئيس الباراغواي، جوزيه إنسورالدي مصرعه مع زوجته وآخرين كانوا على متن طائرة في جولة فوق أرياف البلاد. ومنذ ذلك الوقت تواصلت حوادث الطيران، فبعد خمس سنوات توفي دوي تان، حاكم مستعمرة فرنسية أفريقية في حادث سقوط طائرته. وفي 1957 سقطت طائرة رئيس الفلبين رامون ماجسيسي. وبعد أربع سنوات فحسب اضطرب العالم لدى سماعه نبأ مصرع الأمين العام للمتحدة بحادثة مماثلة إذ توفي دان همرشولد، السويدي الجنسية، بسقوط طائرته في غابة قرب مدينة ندولا، فيما يُعرف الآن بجمهورية زامبيا – روديسيا الشمالية سابقا – بعد منتصف الليل يوم 18 سبتمبر/أيلول 1961 عندما كانت تتأهب للهبوط في مطار المدينة. كان المسؤول الدولي في مهمة للتفاوض مع مويس تشومبي أحد الزعماء السياسيين في زائير – الكونغو الديمقراطية حاليا – الذي أعلن انفصال إقليم كاتنغا الغني بالثروات المعدنية عن الدولة الأم، وذلك بدعم من بلجيكا.
وكان مصرع الرئيس العراقي، عبد السلام عارف في شهر نيسان/أبريل 1966 إثر سقوط طائرته في أول حادثة من نوعها لزعيم عربي. وتوفي رئيسان برازيليان في حادثتي سقوط طائرتيهما في عامي 1958 و1967. وقتل رئيس الوزراء اللبناني، رشيد كرامي في 1987، بتفجير طائرته العمودية، وأدين رئيس القوات اللبنانية آنذاك، سمير جعجع بتدبير الانفجار. وفي العام 1988 توفي الرئيس الباكستاني، الجنرال محمد ضياء الحق بسقوط طائرته العسكرية من نوع هيركوليز 130 في ما يُعتقد أنه تفجير متعمد. وهناك قائمة طويلة من الرؤساء والزعماء الذين فقدوا حياتهم بسقوط الطائرات التي كانوا يستقلونها.
هذه المرة جاء رحيل الرئيس الإيراني ووزير خارجيتة ليس لتأكيد مسار عام لهذا النوع من أسباب وفاة رؤساء الدول فحسب، بل لما تنطوي عليه الحادثة من أبعاد سياسية كبيرة. فهو ليس الرئيس الإيراني الأول الذي يفقد حياته أثناء أداء خدمته، بل سبقه العديد من المسؤولين الإيرانيين. وكان أولهم في النظام الإسلامي الرئيس محمد علي رجائي الذي استشهد في آب/ أغسطس 1981 بتفجير حدث في مكتب رئيس وزرائه، محمد جواد باهنر الذي قتل في الحادثة مع ستة آخرين. جاء ذلك بعد شهرين فحسب من تفجير مقر الحزب الجمهوري الذي قتل فيه سبعون من أعضاء الحزب على رأسهم الشخصية القيادية الواعدة آنذاك السيد محمد حسين بهشتي. وتواصلت عمليات اغتيال رموز الثورة وقادتها بدون توقف خصوصا في الثمانينيات عندما كانت منظمة مجاهدي خلق تسعى لزعزعة النظام الإسلامي.
استمرار إيران في سياساتها الخارجية خصوصا تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ودعمها مجموعات المقاومة يضاعف العداء لطهران
كان ذلك في ذروة الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام وأتت على الأخضر واليابس. وبانتهاء حقبة الثمانينيات أصبح واضحا أن نظام الجمهورية الإسلامية غدا راسخا وأن أعمال الاغتيال والتفجير لم تنجح في زعزعته. وبدأت بذلك مرحلة إعادة البناء والإعمار التي أعادت لإيران قوتها السياسية والاقتصادية ووضعتها على طريق البحث العلمي والتطور التكنولوجي.
ويتردد كثيرا أن إيران اليوم تحتل الموقع الخامس عالميا في تكنولوجيا النانو. وهذه تقنية تعمل على دراسة المادة وفهمها ومراقبتها بأبعاد تتراوح ما بين 1 و 100 نانومتر، والتي يمكن استخدامها في جميع المجالات العلمية المختلفة، مثل: الفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، وعلوم المواد، والهندسة. أي أنها تكنولوجيا تتعامل مع الذرات والجزيئات التي تتكون منها المادة ليمكن استخدامها لخدمة الأغراض المختلفة. ووفقا للإحصاءات المتوفرة فإن إيران تصدر منتجات النانو إلى 48 دولة.
وساهمت حقبة الهدوء الداخلي وعدم الانخراط في الحروب والنزاعات في تمكين إيران من تطوير مجالاتها العلمية بشكل فائق. ومن المؤكد أن سياسة الحصار التي فرضت عليها أكثر من أربعة عقود دفعت قادتها للتفكير الاستراتيجي وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي في المجال التكنولوجي.
والسؤال هنا: لماذا لم يسهم هذا التطور في حماية طائرة الرئيس من السقوط؟ فالمعروف أن هناك حصارا اقتصاديا حادا لمنع إيران من الحصول على التكنولوجيا المتقدمة، ولكن يفترض أن تطورها وانتهاجها سياسة الاكتفاء الذاتي قد فتح لها أبواب الاختراع والتصنيع خصوصا في مجال الطيران، بعد ما حققته من إنجازات كبيرة في مجال صناعة السيارات والأدوية.
هذا المسار التكنولوجي يمثل نمطا من التخطيط الاستراتيجي للقيادة الإيرانية. ومن المؤكد أن الهدوء السياسي والاستمرار القيادي بالإضافة لسياسات تشجيع البحث العلمي والتطوير التكنولوجي كان لهما دور في ما بلغته إيران من موقع سياسي وعسكري واقتصادي. ولتمكين نجاح هذه الاستراتيجية عمد الرئيس إبراهيم رئيسي بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في شهر يونيو/حزيران 2021 لتوطيد علاقات إيران مع الجيران، خصوصا دول مجلس التعاون. فقد كانت علاقاتها ثابتة مع دول ثلاث: سلطنة عمان وقطر والكويت. ولكن في السنوات الأخيرة توطدت علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، وكان لسياسات حكومة رئيسي دور مباشر في ذلك. كما أن الدبلوماسية التي انتهجها أمير حسين عبد اللهيان ساهمت في توطيد دعائم سياسات الانفتاح على الجيران. حدث ذلك في فترة كانت فيها «إسرائيل» تسعى لتوسيع علاقاتها في المنطقة نفسها، واعتقدت أن علاقاتها التي توطدت مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين سوف تتوسع لتشمل الدول الخليجية الثلاث الأخرى. وجاء العدوان على غزة ليحد من الاختراق الإسرائيلي لمنطقة الخليج.
في ضوء ما حدث، تسود المنطقة حالة من الانتظار وشيء من القلق إزاء الفريق السياسي الذي سيحل محل رئيسي وعبد اللهيان، وتطرح تساؤلات عما إذا كانت سياساتهما سوف تستمر أم تتغير. والأرجح استمرار أغلب هذه السياسات، خصوصا أنها حظيت بدعم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي جسد حالة الاستمرار القيادي في بلد طالما عصفت به التطورات. هذه المرة كان وجوده ضمانا لعدم حدوث اضطراب سياسي أو أمني خصوصا مع توثب أعداء إيران في تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم الغربية للتأثير على المناخ السياسي في المنطقة، خصوصا بعد الضربات الموجعة التي وجهت للحالة الإسلامية ومنظمات ما يسمى «الإسلام السياسي». وما أعظم الضغوط على طهران لفك ارتباطها مع تلك المنظمات، ولكن لا يبدو حدوث ذلك ممكنا في ظل القيادة الروحية التي يمثلها خامنئي.
وبانتظار الانتخابات الرئاسية المزمعة، فما تزال الحيرة سيدة الموقف على صعيدي الداخل والخارج. أما ما يمكن تأكيده فهو محاور ثلاثة: أولها أن الاستمرار القيادي سيضمن ثبات المسار السياسي والايديولوجي للجمهورية الإسلامية. ثانيها: أن إيران بلد عملاق قادر على إنتاج القادة الثوريين وأن رحيل بعضهم لن يوقف عجلة الثورة أو يصرفها عن منطلقاتها الأيديولوجية وأيديولوجيتها السياسية. ثالثا أن الصدمة الكارثية التي حدثت أظهرت التفاف الجماهير الإيرانية حول النظام ورموزه، ولم يستطع مناوئوها استغلال ذلك لإضعاف قبضة النظام على الحكم أو سيطرته على الأمن، رابعها: أن معارضي النظام الإسلامي أظهروا ضعفا بنيويا وإعلاميا وجماهيريا، بتواريهم عن الأنظار تماما، وحصر نشاطهم على ما يمارسه بعضهم خارج الحدود وعبر شاشات التلفزيون في الدول المعادية لإيران. خامسها: أن استمرار إيران في سياساتها الخارجية خصوصا تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ودعمها مجموعات المقاومة يضاعف العداء والاستهداف وسوف يواصل معسكر الاحتلال وداعميه ذلك بكافة الوسائل المتاحة ومن بينها اغتيال المسؤولين والعلماء وخبراء التكنولوجيا وعلوم الذرة.
وكما يقال، فرب ضارة نافعة، وليس مستبعدا أن تؤكد إيران، مجددا، ثباتها ومرونة نظام حكمها وتماسك شعبها أمام الكوارث والمصائب. إذا لم يحدث غير ذلك فهو يكفي للرهان على بقاء النظام الإسلامي وعجز أعدائه عن النيل منه أو إضعافه في المستقبل المنظور على الأقل.