المعضلة الإسرائيلية والشرعية الدولية

المعضلة الإسرائيلية والشرعية الدولية

بصدور قرار محكمة العدل الدولية بضرورة وقف إسرائيل الأعمال العسكرية في رفح تكتمل خطوات عزلة إسرائيل قانونياً بعد أن كان قد سبق هذا صدور طلب المحكمة الجنائية الدولية إيقاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، ولهذه القضية أبعاد عدة أبسطها تكريس صورة ذهنية لإسرائيل كدولة مارقة خارجة عن الشرعية الدولية، ولكن خلف هذا أيضاً تكمن قضية مستقبل مؤسسات النظام الدولي الراهن ومشكلاته الجوهرية ومدى إمكانية استمرار ترتيباته المستقرة منذ إنشاء الأمم المتحدة وما بني عليها حتى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

نظام دولي هش ومستقبله أكثر هشاشة

الحديث عن هشاشة النظام الدولي الذي تأتي الأمم المتحدة في قلبه حديث قديم ومبتذل ومحل شكوى منذ سنواته الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بخاصة عندما شلت منظومة حفظ السلم والأمن الدوليين بسبب حق الاعتراض “الفيتو”، وبسبب الحرب الباردة بين الكتلتين السوفياتية والغربية، ومع ذلك كان هناك قدر من الأمل مبعثه إرادة القوتين العظميين آنذاك في إنهاء الاستعمار الأوروبي التقليدي، لا سيما البريطاني والفرنسي لأنه يناهض مصالحهما في الهيمنة العالمية، وتم توظيف المنظمة بقدر من الكفاءة في مهمة تصفية الاستعمار التقليدي وكذلك في منع التصعيد الدولي واحتواء عدد من النزاعات الخطرة وليس كلها.

وفى مراحل تالية لعبت المنظمة وتلعب دوراً مهماً في قضايا التنمية الدولية والإغاثة الإنسانية والحوكمة الدولية بخاصة قضية التغير المناخي.

ولم تؤدِ مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتمكن الولايات المتحدة من تصدر النظام الدولي، لا سيما بعد احتلال العراق الكويت وقيادتها المنظمة الدولية لتحرير الكويت وهيمنتها أكثر من عقد على القرار الدولي، إلى تحسن حالة السلم والأمن الدوليين، فقد ارتكبت واشنطن أخطاء عديدة ولم تتمكن من ترسيخ ما يمكن وصفه بالسلام الأميركي، بل واصلت التعامل مع كثير من الأزمات خصوصاً الفلسطينية بالمعايير المزدوجة نفسها التي تتسم بها سياستها دوماً وخصوصاً بهذا الصدد.

وكان أحد تعبيرات هشاشة هذا النظام الظروف التي أحاطت بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، فقد شاركت واشنطن بنشاط في مفاوضات التأسيس التي انتهت باتفاق روما، بل حاولت ترسيخ معاييرها المزدوجة بوضع شروط لإعفائها من أي مسؤوليات جنائية خصوصاً بسبب تكشف ممارساتها في العراق، ثم انسحبت ورفضت الانضمام، وهذا الانسحاب في ذاته له دلالات عديدة، فالمنظومة التي توجت بإنشاء هذه المحكمة تحديداً هي منظومة الفكر الليبرالي ومفاهيم القانون الدولي الإنساني، وهنا تحديداً يبدأ هذا الالتباس، فواشنطن تقود هذا المعسكر الغربي وترفع تاريخياً شعار زعيمة العالم الحر وحكم القانون، وتمارس بلا خجل خرق القانون الدولي تاريخياً، وكثير من مضامين وسرديات القانون الدولي الإنساني منشأها اجتهادات أوروبية متنوعة والقليل منها أميركي لكنها، أي واشنطن، تظل زعيمة هذا الفكر وراعيته، وعندما تخلت، بمنطق مفهوم تماماً عن رعاية المحكمة الجنائية الدولية كانت متسقة مع سلوكها الدولي ومعاييرها المزدوجة ومتحسبة لإحراجات ستنشأ من هذه المحكمة، ولكنها في الوقت نفسه تسجل معضلة قيادتها هذا المعسكر.
ومع ذلك ومع السيطرة الغربية على المحكمة وتركيزها على أفريقيا وحدها وامتناعها سنوات طويلة، حتى التطورات الأخيرة، عن دورها المنتظر في القضية الفلسطينية، كانت الأمور تسير وفقاً للهوى الأميركي ووصل هذا لقمته مع قرار مدعي عام المحكمة توقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتهلل واشنطن خصوصاً متناسية أن موسكو مثلها مثل واشنطن غير منضمة للمحكمة.

ومن هنا نستطيع القول إن قرار المدعي العام للمحكمة كريم خان وتهديدات واشنطن وكثيرين من أعضاء الكونغرس والشيوخ الأميركي بفرض عقوبات ضد قضاة المحكمة يضع مسماراً أخيراً في المنظومة الدولية التي تمثلها الولايات المتحدة حتى لو كانت بعض تفاصيلها خارج تفضيلاتها.

إسرائيل في مأزق غير مسبوق

ولو تركنا جانباً المأزق الغربي والأميركي خصوصاً، فإن من الواضح أن إسرائيل لم تشهد عزلة مماثلة لما تواجهه اليوم حتى في مرحلة حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، عندما قطعت دول أفريقية كثيرة علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة العبرية دعماً لمصر، فحتى في ذلك الوقت تداخلت اعتبارات ومصالح كثيرة، ولم يكن هناك إجماع على أنها دولة مارقة، معتدية نعم ولو تراجعت عن عدوانها فسيتم دمجها حتى في المنظومة الدولية، ولاحقاً في المنظومة الإقليمية عبر سنوات من الجهد الأميركي والإسرائيلي، وعلى رغم تجاوزات إسرائيل في حروب غزة الماضية وتعرضها لكثير من الانتقادات واصل كثر في العالم وصفها بالدولة الديمقراطية المنتمية للمنظومة الغربية، وكان البعض يفترض أن على الجانب الفلسطيني والعربي تشجيع إسرائيل بخطوات تطبيع وتقارب كي يمكن بناء عملية سلمية حقيقية.

ولكن هذه الحرب الأخيرة خصوصاً بوجود أطراف يمينية متشددة داخل الحكومة الإسرائيلية، أطلقت حقيقة توجهات نتنياهو نفسه، ما عبر عن نفسه ليس فقط في سلوك واضح أمام العالم، ولكن في عدد من التصريحات التي فضحت إسرائيل وصدرت من غالبية رموز الدولة الإسرائيلية وشملت أوصافاً للشعب الفلسطيني كحيوانات بشرية، وأخرى واضحة حول إبادة الشعب الفلسطيني، وأخرى حول التهجير القسري، وفي الحقيقة لو أن طرفاً دولياً آخر، خلاف إسرائيل، قد صدرت منه نصف التصريحات الصادرة عن الحكومة والمسؤولين الإسرائيليين، وأضف إلى ذلك الصور الصادرة من جرائم إسرائيل في غزة بخاصة ضد المستشفيات وعمليات الإغاثة والصحافيين والأطباء، وآخرها فضيحة قصف مخيم رفح لثار العالم كله وطالب بفرض عقوبات تتجاوز ما صدر ضد أي دولة مارقة في التاريخ الحديث.

وعموماً، وعلى رغم ما تتمتع به إسرائيل من تدليل أميركي وغربي كان تسرب الصور سبباً في تحولات غير مسبوقة في الرأي العام الأميركي ذاته، الذي عبَّرت عنه حالة الاحتجاجات غير المسبوقة في جامعات القمة الأميركية، إلى حد أن عبَّر كثير من تعليقات الكتاب والساسة عن أملهم في أن تبدأ العطلة الصيفية لتهدأ هذه الضغوط وهذه الاضطرابات التي تحرج الإدارة الأميركية في عام الانتخابات بخاصة أن الإدارة الحالية تدرك أن خلف هذه الاضطرابات أطراف تشكل جزءاً مهماً من التيارات التي رجحت كفة جو بايدن في الحكم.

كما أن الموقف الأوروبي يتحول تدريجاً لاتجاهات غير مواتية لإسرائيل، ويتجاوز تظاهرات في كثير من المدن والمؤسسات العلمية إلى مواقف تتبلور، أبرزها اعتراف إسبانيا والنرويج وإيرلندا بفلسطين، والتصريحات القوية لمسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل ضد التجاوزات الإسرائيلية وخصوصاً أخيراً في رفح، ثم تأتي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير الواضحة التي تمثل أيضاً جرس إنذار لإسرائيل.

والمشهد في مجمله يعكس تحولات واسعة لا يمكن التغاضي عنها وخلاصتها أن إسرائيل بإمعانها في تحدي المجتمع الدولي تخسر صورتها بصورة غير مسبوقة في تاريخها وتتآكل معها هيبة الولايات المتحدة وما تبقى من هيبة لمؤسسات النظام الدولي.