على الرغم من تحوّل الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى إلى منطقة حيوية، من وجهة نظر احتدام المنافسة بين القوى العظمى، إلا أنها ظلت على مدى العامين الماضيين خارج أولويات السياسة الخارجية الروسية، بعد تركيزها على تحقيق تقدم في الحرب في أوكرانيا، وضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الداخلي في ظروف العقوبات الغربية غير المسبوقة. ودفع الانشغال الروسي بأوكرانيا، الصين إلى تسلّم راية البحث عن الريادة في المنطقة، وسط استضافتها في العام الماضي، قمة الصين – آسيا الوسطى في مدينة شيان الصينية. ومع ذلك، لم تأت الجهود الصينية الرامية إلى تعزيز دورها ومكانتها في آسيا الوسطى على حساب روسيا، بقدر ما جاءت على حساب الولايات المتحدة التي تراجعت أهمية المنطقة بالنسبة إليها من الجهة اللوجستية، بعد انسحاب قواتها من أفغانستان في عام 2021.
آسيا الوسطى وروسيا
إلا أن عمليات التكامل بين روسيا وبلدان آسيا الوسطى تباطأت كثيراً، وحتى أن كازاخستان، أهم حلفاء موسكو في المنطقة، لم تسجل اختراقات هامة في العلاقات مع موسكو، ولكنها واصلت، بصفتها عضوا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، جني عوائد هجرة العقول والشركات وإعادة تصدير المنتجات الروسية، وسط تدفق الأموال والمغتربين الروس إلى الجمهورية، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. وكانت كازاخستان من بين الدول التي فرّ إليها مئات الآلاف من الذكور الروس إثر إعلان التعبئة الجزئية في روسيا في سبتمبر/أيلول 2022.
لكن على الصعيد السياسي، رفض الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف، بشكل علني، الاعتراف بالسيادة الروسية على أراضيها “الجديدة” في الشرق الأوكراني وحتى في شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها موسكو بالقوة في عام 2014، مؤكداً التزام بلاده بنظام العقوبات بحق حليفته. ولم تعد كازاخستان قاطرة عمليات التكامل في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، إذ لم يتم تأسيس الأسواق المشتركة، بما في ذلك في مجال الطاقة، المنصوص عليها في معاهدة تأسيس الاتحاد الأوراسي، في عام 2015، المقام على قاعدة الاتحاد الجمركي الذي كانت كازاخستان من الدول المؤسسة له إلى جانب روسيا وبيلاروسيا.
دميتري خودياكوف: لا تخفي كازاخستان تخوفها من السياسات التوسعية الروسية
ومن اللافت أن روسيا أدت دوراً محورياً في تحقيق استقرار الوضع في كازاخستان، بدعم من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، أثناء الاضطرابات التي شهدتها البلاد في يناير/كانون الثاني 2022، ولكن انخراطها في الحرب المباشرة مع أوكرانيا بعد أسابيع عدة، لم يوفر لموسكو الفرصة لتثبيت هذا النجاح، عبر زيادة نفوذها في كازاخستان نفسها أو في آسيا الوسطى بشكل عام. ولفت الباحث في الشؤون الصينية، مدير مركز الاستشراق والدراسات المقارنة في الأكاديمية الروسية للاقتصاد الوطني والخدمة العامة في موسكو، دميتري خودياكوف، إلى أن الصين زاحمت روسيا منذ سنوات طويلة كأكبر شريك اقتصادي لبلدان آسيا الوسطى، متوقعاً استمرار هذا التوجه في السنوات المقبلة. وقال خودياكوف، في حديث لـ”العربي الجديد”: “تفوقت الصين على روسيا كأكبر شريك تجاري واستثماري لبلدان آسيا الوسطى منذ الأزمة المالية العالمية في عامي 2008 و2009، وتعزز هذا التوجه بإطلاق مشروع طريق الحرير الجديد في عام 2013. وفي العام الماضي، استضافت شيان قمة الصين وبلدان آسيا الوسطى في غياب روسيا”.
وتوقع خودياكوف استمرار تزايد التوترات بين روسيا وبلدان آسيا الوسطى مقابل تنامي النفوذ الصيني، مضيفاً: “لا تخفي كازاخستان تخوفها من السياسات التوسعية الروسية وستبحث حتماً عن شركاء بدائل. أضف إلى ذلك العقوبات الغربية المفروضة على روسيا التي تعرقل هي الأخرى تطوير العلاقات”. ومع ذلك، اعتبر أن الحديث عن تقسيم آسيا الوسطى إلى مناطق النفوذ بين روسيا والصين سابق لأوانه، قائلاً: “خلافاً للصورة النمطية لتبعيتها، تتمتع بلدان آسيا الوسطى بدرجة عالية من السيادة وستسعى لمواصلة تعزيزها، بما في ذلك عبر تنويع العلاقات الخارجية مع اللاعبين الكبار، ومن بينهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند وتركيا، وليس فقط الصين وروسيا”. وخلص إلى أن الخريطة النهائية للنفوذ في المنطقة سيحددها ما يستطيع كل من اللاعبين الخارجيين تقديمه من المغريات التكنولوجية والاقتصادية.
نيكيتا ميدنكوفيتش: كازاخستان ساعدت روسيا في الالتفاف على العقوبات
العلاقات الروسية ـ الصينية
من جانب آخر، اعتبر رئيس النادي الأوراسي للتحليل في موسكو، نيكيتا ميندكوفيتش، أن العلاقات الروسية الصينية في آسيا الوسطى أقرب إلى تحقيق مصالح مشتركة أكثر منها منافسة، مستشهداً في ذلك بالدور المحوري الذي تؤديه كازاخستان في مساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات الغربية. وقال ميندكوفيتش، في حديث لـ”العربي الجديد”: “لا يمكن وصف ما يجري بين روسيا والصين في آسيا الوسطى بأنه منافسة، بل هو أقرب إلى مصالح مشتركة من أجل استبعاد محاولات زعزعة استقرار الوضع من الخارج”. وقلل من أهمية المزاعم بشأن سقوط كازاخستان خارج دائرة النفوذ الروسي، مضيفاً: “للأسف، هناك دول مثل كازاخستان غير قادرة على تبنّي موقف سياسي خارجي موحد، وتوكاييف حتى الآن لم يجرؤ على التعامل بحزم مع النخب الموالية للغرب. إلا أن كازاخستان ساعدت روسيا في الالتفاف على العقوبات ووضع آلية الاستيراد الموازي، وجنت إثر ذلك حصتها من العوائد كدولة الترانزيت”.
ورغم أن العلاقات بين روسيا وكازاخستان تبقى جيدة بشكل عام، إلا أنه بات واضحاً أن هذه الدولة لم تعد اليوم هي المرشح الوحيد لمكانة الشريك الرئيسي لروسيا في آسيا الوسطى. ولعل هذا ما دفع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإجراء زيارة إلى أوزبكستان في نهاية مايو/أيار الماضي، وصفها نظيره الأوزبكي، شوكت ميرزاييف، بأنها تاريخية، وشكلت محطة لإعادة تفعيل دور موسكو في آسيا الوسطى في الفترة الأخيرة. ولم يأتِ الرهان على أوزبكستان من باب الصدفة، لأنها ثاني أكبر اقتصاد في المنطقة بعد كازاخستان، وعدد سكانها نحو 37 مليون نسمة مقابل نحو 20 مليوناً في كازاخستان. ولم تعتمد طشقند على إيفاد العمالة إلى روسيا، إذ انخفض عدد العمال الأوزبك في روسيا من نحو 6 ملايين خلال السنوات الثماني الأخيرة إلى حوالي مليون فقط، نتيجة تطور أوزبكستان وزيادة الطلب على الأيدي العاملة. وتزامن ذلك مع توجه روسيا نحو شطب حركة طالبان الأفغانية من قائمة التنظيمات الإرهابية، بعد إقرار موسكو بأنها الحاكم الفعلي في أفغانستان، في تمهيد لإقامة علاقات متكاملة الأركان مع كابول.