فساد جنرالات بوتين وليد الحكم الأبوي في روسيا

فساد جنرالات بوتين وليد الحكم الأبوي في روسيا

يتربع فلاديمير بوتين على عرش السلطة في روسيا منذ 24 عاماً، بغض النظر عن المنصب الذي يشغله، كرئيس للجمهورية أو رئيس للوزراء فهو الحاكم الفعلي للبلاد الشاسعة. لذلك فإن النظام السياسي الحالي في الاتحاد الروسي، بما في ذلك الفساد الذي يعشعش في أقبيته ودهاليزه و”قدس أقداسه” وزارة الدفاع وجنرالاتها، يحمل الطابع المميز لأسلوب ونهج حكم بوتين الشخصي المباشر.
يعتمد هذا النظام الذي يتزعمه بوتين بكليته وفي مختلف مستوياته على نظام أبوي شرقي، أكثر مما هو نظام ديمقراطي شعبي، إذ تتمحور السلطات المركزية والإقليمية والمحلية تحت السيطرة الشخصية للحاكم الفرد. وبسبب غياب المؤسسات الحكومية المنتخبة ديمقراطياً، لا يميز القائمون على هذا النظام الأبوي بين ملكية الدولة والملكية الخاصة. وينظر أنصار مثل هذا الحاكم إليه كما لو أنه يتمتع بالقدرة الكلية على توزيع المغانم والعطاءات والهبات والممتلكات بالشكل الذي يراه مناسباً. وكمكافأة على الطاعة، يحصل الأتباع على امتيازات مادية وسياسية وتفضيل القائد. لقد ازدهرت النزعة التراثية الشخصانية في روسيا منذ مئات السنين، لكنها نادراً ما كانت قوية كما هي عليه في ربع القرن الأخير.

لقد زاد الفساد بدءاً بأعلى المستويات في الحكومة الروسية وصولاً إلى أدناها، ومروراً بهياكلها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، وذلك عائد من بين أمور أخرى، لعدم وجود منافسة سياسية ذات معنى في عهد بوتين. فكل الانتخابات الفيدرالية والإقليمية والمحلية التي جرت خلال حكم بوتين بصورة أساسية، أسفرت عن برلمان وحكام إقليميين ومحافظين خاضعين لرغبات السلطة التنفيذية، ومتحدرين من حزب السلطة “روسيا الموحدة”، الذي يعد وكراً لرجال الأوليغارشية القائمة والصاعدة، ولكل الانتهازيين والمتملقين وشذاذ الآفاق والباحثين عن فرص لتحقيق ثروات سريعة مجهولة المصدر.
ولم تلعب الأحزاب السياسية (باستثناء الحزب الشيوعي) دوراً مهماً بصورة عامة في هذا النظام الأبوي، والقنوات التلفزيونية الفيدرالية كلها، وكذلك غالبية وسائل الإعلام الأخرى، تخضع لسيطرة الدولة الصارمة ولا تقدم عملياً سوى المحتوى الذي يناسب بوتين، وترتبط السلطة السياسية بصورة أو بأخرى ببوتين شخصياً. إن حجم المواطنين “الفعالين” أو “المؤثرين” ضئيل لدرجة لا يمكن ملاحظته بالعين المجردة، مما يعني أن اختيار الحكام لا يعتمد على جمهور الناخبين بأكمله (كما الحال في الديمقراطيات العريقة)، ولكن على مجموعة صغيرة من النخب الذين يعدون بوتين ولي نعمتهم ومصدر رزقهم وثروتهم. أعضاء هذه المجموعة هم حاشية بوتين التي تضم إيغور سيتشين وفياتشيسلاف فولودين ونيكالاي باتروشيف وسيرغي شويغو ويوري كوفالتشوك وسيرغي سوبيانين وغينادي تيمشينكو وسيرغي ناريشكين وسيرغي تشيميزوف وفلاديمير كوزين وسيرغي إيفانوف وديمتري ميدفيديف وأليكسي ميلر وإيغور شوفالوف وفيكتور مياتشين وأندري فورسينكو وسيرغي فورسينكو ونيكولاي شمالوف. ويعتمد إدراج هؤلاء وغيرهم من الأشخاص في المجموعة الفعلية على ولائهم الكامل لبوتين. والأخير هو الحكم في حسم تنافس المصالح داخل هذه المجموعة وله حق القرار النهائي في شأن من سيحصل على ماذا.
يتخذ الفساد في المناصب العليا أشكالاً عدة لا يمكن تصورها في بلدان أخرى، بما في ذلك اختلاس الأموال والعقارات العامة لأغراض خاصة والاستيلاء على الممتلكات والأصول العامة لتحقيق مكاسب خاصة والاستخدام غير القانوني للخدمات العامة لتحقيق مكاسب شخصية ونهب الأسلحة والتجهيزات العسكرية والمعدات الدفاعية وعدم الإعلان عن الدخل (خاصة الدخل من الأصول الأجنبية والحسابات المصرفية). والمحسوبية واستغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية.

يعد الفساد اليومي مشكلة معروفة في روسيا، وهذه المشكلة هي التي تهيمن غالباً على الوعي الجماهيري. ومع ذلك، فإن الفساد على مستوى عال مسؤول عن خسائر أكبر بكثير في الموارد العامة: فعلى رغم اختلاف التقديرات، هناك أدلة على أن الحصة المقابلة من هذه الخسائر قد تكون في حدود 90 في المئة أو أكثر. لقد أصبح إساءة استخدام الأموال العامة والاستيلاء على أصول الدولة ملحوظاً خصوصاً في عهد بوتين. وحتى المتحدث باسم إدارة بوتين اعترف بأن مبالغ ضخمة من الأموال العامة “تضيع” (ربما يساء استخدامها) كل عام، على رغم أن هذا يتم تقديمه في المقام الأول كنتيجة للإهمال وليس كدليل على الفساد الراسخ في أعلى المستويات الحكومية.

واعترف رئيس ديوان المحاسبة الفيدرالية السابق سيرغي ستيباشين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 أنه يتم سرقة تريليون روبل كل عام من الأموال المخصصة للمشتريات الحكومية، ومع ذلك فإن تقديرات المتخصصين الماليين الذين لا يعملون في الحكومة أعلى بكثير إذ تصل إلى 5 تريليونات روبل في السنة.فساد الجنرالات

في 24 أبريل (نيسان) الماضي اعتقل نائب وزير الدفاع الروسي تيمور إيفانوف للاشتباه في تلقيه رشوة بمليارات الدولارات. ومن المتوقع أن تصبح قضيته واحدة من أشهر فضائح الفساد في الوزارة العسكرية وخلال مايو (أيار) الماضي تم اعتقال عدد من المسؤولين والجنرالات رفيعي المستوى في وزارة الدفاع في روسيا. فبعد القبض على نائب وزير الدفاع تيمور إيفانوف الذي يشرف على بناء مرافق وزارة الدفاع ويرعى التقدم في أعمال الترميم في مدينة ماريوبول بتهمة تلقي رشوة على نطاق واسع، كرت سبحة الاعتقالات بين جنرالات الجيش، لا سيما بعدما كشفت التحقيقات أن حجم الرشى التي تلقاها نائب وزير الدفاع في الفترة بين عامي 2018 و2023 بحسب المحققين بلغت 1.185 مليار روبل (الدولار كان يساوي حينها 30 روبلاً).

وفي 14 مايو 2024 احتجزت المحكمة رئيس إدارة شؤون الموظفين الرئيسة بوزارة الدفاع الفريق يوري كوزنتسوف. وبحسب التحقيق ما بين عامي 2021 و2023 تلقى كوزنتسوف الذي كان يترأس آنذاك المديرية الثامنة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، التابعة لجهاز حماية أسرار الدولة، “رشوة من ممثلي الهياكل التجارية للقيام بأعمال معينة لصالحهم”. وبحسب صحيفة “كوميرسانت”، تلقى الجنرال أموالاً للتعيينات في المناصب، ونحن نتحدث عن 30.5 مليون روبل.
في 17 مايو ألقت المحكمة القبض على القائد السابق للجيش الـ58 للقوات المسلحة الروسية، اللواء إيفان بوبوف، في قضية جنائية تتعلق بالاحتيال على نطاق واسع خصوصاً. وذكر مصدر بوزارة الدفاع لصحيفة “فيدوموستي” أن القضية فتحت في شأن سرقة وبيع الهياكل المعدنية الموردة لبناء التحصينات على خطوط التماس في الجبهة الأوكرانية، التي تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات.
وفي 23 مايو اعتقل رئيس مديرية الاتصالات الرئيسة للقوات المسلحة الروسية نائب رئيس الأركان العامة الفريق فاديم شامارين وهو متهم بتلقي رشى على نطاق واسع.
اللافت أن موجة الاعتقالات الأخيرة للجنرالات المتهمين بالفساد جاءت بعيد قيام بوتين في 12 مايو الماضي بإقالة وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو المنتمي إلى حزب السلطة “روسيا الموحدة” الذي يشغل هذا المنصب منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 وتعيينه أميناً لمجلس الأمن ونائباً لرئيس الدولة في اللجنة الصناعية العسكرية، وإحلال النائب الأول السابق لرئيس الوزراء المسؤول عن الكتلة الاقتصادية “البلشفي” أندريه بيلوسوف محله على رأس وزارة الدفاع.

وكتبت وكالة “بلومبيرغ” بهذه المناسبة أن بوتين “فقد صبره أخيراً” تجاه “الفساد المستشري” في وزارة الدفاع التي يمر عبرها في الأعوام الأخيرة ربع موازنة البلاد بسبب الحرب في أوكرانيا والاستعداد لحروب كبيرة قادمة.
ومع ذلك رفض الكرملين اعتبار اعتقالات الجنرالات والمسؤولين رفيعي المستوى في وزارة الدفاع الروسية بمثابة “حملة تطهير” لهذه الوزارة. وقال الناطق الرئاسي دميتري بيسكوف إن الحرب ضد الفساد في روسيا تجري بصورة مستمرة وليست “حملة” على رغم أنه تم في غضون شهر اعتقال نائب وزير الدفاع وثلاثة جنرالات رفيعي المستوى في روسيا.
ورفض بيسكوف الإجابة عن سؤال وجهته له “اندبندنت عربية” عما إذا كان الكرملين على علم مسبق بخطط الاعتقال.

إقالات وتعيينات في حصن بوتين

في 17 يونيو (حزيران) الجاري عزل بوتين أربعة نواب لوزير الدفاع عملوا في الوزارة مع الوزير السابق شويغو الذي عزل من منصبه في 14 مايو. جميع المعزولين من الجنرالات وكلهم مسؤولون عن قطاعات وأقسام اقتصادية في الوزارة، وعين بدلهم أربعة آخرين جميعهم من الخدمة المدنية، وذلك بعد شهر من تعيين النائب الأول لرئيس الوزراء السابق أندريه بيلوسوف في منصب وزير الدفاع الروسي.
وفيما صور الكرملين هذه الإقالات والتعيينات على أنها خطوة لتجديد القيادة في الوزارة، كان من الواضح أنها عملية تطهير جزئية من الفساد المعشعش بين أروقتها وفي نفوس وضمائر جنرالاتها، إذ إن جميع نواب الوزير الجدد هم من الكفاءات الاقتصادية وليس العسكرية، وعلى رأسهم أوليغ سافيليف الذي نقل للعمل في الوزارة العسكرية مع بيلوسوف هو مدقق حسابات غرفة الحسابات. وكان قد عمل مع بيلوسوف عندما كان يترأس وزارة التنمية الاقتصادية. وحل سافيليف محل نائب وزير الدفاع رئيس أركان الوزارة يوري سادوفينكو الذي شغل هذا المنصب منذ عام 2013.
كما زاد بوتين عدد نواب وزير الدفاع من 10 إلى 12 (بمن في ذلك نائبان أولان). وتم تعيين ليونيد جورنين نائباً أول للوزير، بعدما شغل ذات المنصب في وزارة المالية، إذ كان مسؤولاً عن سياسة الموازنة في مجال الجيش وخدمات إنفاذ القانون وأوامر دفاع الدولة. وذكرت وزارة الدفاع أنه سيشرف على مجموعة كاملة من قضايا الدعم المالي للقوات المسلحة الروسية.
وتتمثل المهام الرئيسة، كما أفادت الدائرة في “زيادة شفافية التدفقات المالية وضمان كفاءة إنفاق أموال الموازنة”.
كما تم تعيين بافيل فرادكوف نائباً للوزير المسؤول عن إدارة الممتلكات وموارد الأراضي وبناء المرافق لتلبية حاجات وزارة الدفاع والاقتصاد الوطني، ليحل محل الجنرال تيمور إيفانوف الذي ألقي القبض عليه في أبريل بتهمة تلقي رشوة على نطاق واسع خصوصاً. وأشارت الوزارة إلى أن “بافيل فرادكوف يتمتع بخبرة مهنية كبيرة في مجالات النشاط هذه، التي تراكمت خلال عمله السابق في الوكالة الفيدرالية لإدارة الممتلكات”.
وبافيل فرادكوف المولود عام 1981، هو نجل ميخائيل فرادكوف الذي ترأس الحكومة الروسية بين عامي 2004 و2007، وفي الفترة الممتدة بين عامي 2007 و2016 كان مديراً لجهاز الاستخبارات الخارجية، وبعد ذلك ترأس المعهد الروسي المتخصص للدراسات الاستراتيجية.
المرأة الوحيدة التي عينها بوتين نائبة وزير في قيادة وزارة الدفاع هي قريبته آنا تسيفيليفا. وهذه القريبة المحببة من الرئيس ستحل محل تاتيانا شيفتسوفا، التي أشرفت خصوصاً على تنظيم الدعم الاجتماعي والإسكاني للعسكريين. وذكرت وزارة الدفاع أن مهمة تسيفيليفا هي الارتقاء بهذه العمليات إلى “مستوى نوعي جديد”. وكما هو فرادكوف نجل رئيس الحكومة الأسبق فإن آنا تسيفيليفا ليست فقط قريبة بوتين بل هي زوجة وزير الطاقة الجديد سيرغي تسيفليف الذي تم تعيينه في الحكومة في مايو كجزء من التجديد الحكومي ونسبة لاقترانه بقريبة الرئيس. لكن هذا الاتجاه الذي يتبعه بوتين في تعيين الأزواج والأقارب وأولاد العمومة في مناصب حكومية ووزارية حساسة لا يراعي مسألة تضارب المصالح، ولا يؤدي إلى مكافحة فعلية وحقيقية للفساد المستشري في إدارات الدولة عامة، لأن هذه التعيينات تتم بالمحاباة وبحسب درجة الولاء والمعرفة الشخصية وليس الكفاءة والخبرة.
ويستخلص من الأسماء التي طاولتها عملية التطهير في وزارة الدفاع ومن البيانات الموجودة على موقع الوزارة أنها محاولة جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أملاك الوزارة من براثن الجنرالات الفاسدين المسؤولين عن النواحي الاقتصادية في هذه الوزارة التي تعد دولة داخل الدولة، لذلك احتفط الجنرالات الذين يتولون مهام عسكرية بحتة بمناصبهم، إذ احتفظ رئيس الأركان العامة والنائب الأول للوزير الجنرال فاليري غيراسيموف ونواب الوزير الجنرالات فيكتور غوريميكين وأندريه بوليغا ويونس بيك إيفكوروف وأليكسي كريفوروتشكو وألكسندر فومين بمناصبهم.

كيف ومن أين بدأ فساد الجنرالات؟

أول فضيحة فساد كبرى في روسيا الحديثة انبعثت روائحها من وزارة الدفاع بدأت مع انسحاب مجموعة القوات الغربية من ألمانيا ما بين أعوام 1990 و1994، وكتبت الصحافة آنذاك أن كمية كبيرة من الأسلحة والمعدات العسكرية اختفت عند عودتها إلى الاتحاد الروسي، وسرعان ما تم اكتشافها في دول العالم الثالث (كان لدى المجموعة الغربية نحو 5 آلاف دبابة وأكثر من 10 آلاف ناقلة جند مدرعة وقطعة من معدات أخرى في الخدمة).

في عام 1992، كشف كبير مفتشي الدولة في الاتحاد الروسي يوري بولديريف أن كبار ضباط مجموعة القوات الغربية حولوا بصورة غير قانونية نحو 17 مليون مارك ألماني إلى حسابات مصرفية في الولايات المتحدة وسويسرا وفنلندا. وطالب بولديريف باستقالة قائد المجموعة الغربية العقيد جنرال ماتفي بورلاكوف، لكن برعاية وزير الدفاع بافيل غراتشيف وبمرسوم من الرئيس آنذاك بوريس يلتسين، تمت ترقيته إلى نائب وزير الدفاع. كما اتهم وزير الدفاع آنذاك بافيل غراتشيف نفسه بالفساد، وكتب أمين مجلس الأمن الروسي، الجنرال ألكسندر ليبيد لاحقاً أن “بورلاكوف مع غراتشيف أثناء تصفية مجموعة القوات الغربية، بعبارة ملطفة سرقوا 1600 دبابة وباعوها إلى روسيا نفسها”.
في عام 1995 عزل يلتسين ماتفي بورلاكوف من منصبه “من أجل حماية شرف القوات المسلحة”، على رغم أن الجنرال ماتفي بورلاكوف نجح في التغلب على “كل عمليات التفتيش المستمرة” في نهاية المطاف.

في المجموع حقق مكتب المدعي العام في 18 قضية مرفوعة في شأن وقائع الجرائم الرسمية المرتكبة من قبل كبار جنرالات مجموعة قوات الدولة الغربية. ونتيجة لذلك تم اعتقال 24 من كبار المسؤولين العسكريين. وكما كتبت صحيفة “كوميرسانت” فإن “نتائج التحقيقات واسعة النطاق كانت متواضعة إذ حكم على أحد الجنرالات بالسجن مع وقف التنفيذ، وحصل آخر على عفو أما البقية فخرجوا سالمين”.
وكانت المحكمة العليا أصدرت الإدانة الوحيدة لأول جنرال في عام 1995. فقد ثبت أنه في عام 1991، قام نائب قائد الجيش الجوي الـ16 للمجموعة الغربية، اللواء نيكولاي سيليفرستوف مع رجال الأعمال ألمان، بتنظيم سباق في مطار روسي على الأراضي الألمانية. ومقابل مساعدته في تنفيذ هذا السباق حصل على 29 ألف مارك، ولم يحولها قط إلى حساب الجيش. وحكمت المحكمة على نيكولاي سيليفرستوف بالسجن خمسة أعوام مع وقف التنفيذ لمدة عامين وغرامة بسيطة.

تقرير روكلين

في صيف عام 1996 هزت وزارة الدفاع فضائح مدوية: اتهم جنرالات بالفساد وتبديد الأموال العامة وبناء القصور وشراء السيارات الأجنبية بأموال الموازنة. ففي الـ17 من يونيو (حزيران) استقال وزير الدفاع بافيل غراتشيف، وفي الـ25 من يونيو تم إعفاء سبعة جنرالات من “دائرته المقربة” من مناصبهم، بما في ذلك العقيد ديمتري خارتشينكو صهر الوزير السابق وفياتشيسلاف زيريبتسوف.

في يوليو (تموز) 1996 وفي اجتماع لمجلس النواب (الدوما)، أدلى رئيس لجنة الدفاع الجنرال ليف روكلين بمعلومات مثيرة، إذ أفاد على وجه الخصوص، بأن ديمتري خارتشينكو “حول بصورة إجرامية 5 ملايين دولار إلى روبل وسلمها إلى شركة التأمين العسكري بفائدة سبعة في المئة سنوياً مع حد أدنى لسعر الفائدة البنكية يبلغ من 120 إلى 180 في المئة”.
وذكر روكلين أيضاً أنه منذ عام 1993 سهلت قيادة وزارة الدفاع مصالح شركة “لوكون” التي شارك في تأسيسها نجل نائب وزير الدفاع كونستانتين كوبتس. وامتناناً للعقود المربحة، بنت “لوكون” قصراً للجنرال بقيمة 300 ألف دولار. في عام 1997 اعتقل كونستانتين كوبتس بتهمة الرشوة وإساءة استخدام منصبه، ولكن في عام 2000 أغلقت القضية إثر صدور عفو تكريماً للذكرى الـ55 للنصر على ألمانيا النازية.

AFP__20240519__34T92WC__v1__HighRes__RussiaPoliticsHistoryCommunism.jpg
قال الناطق الرئاسي دميتري بيسكوف إن الحرب ضد الفساد في روسيا تجري بصورة مستمرة​​​​​​​ (أ ف ب)

رشى السكن

وكان أول جنرال عسكري ينال عقوبة حقيقية بتهمة الفساد في عام 1998 هو نائب رئيس أكاديمية جوكوفسكي للقوات الجوية فلاديمير سولومونوف. إذ أثبت التحقيق أنه أثناء عمله في منصبه السابق كنائب قائد طيران الخطوط الأمامية ابتز سولومونوف وتلقى رشى مراراً وتكراراً من مرؤوسيه الذين يحتاجون إلى السكن.

ومع ذلك كان من الممكن إثبات حلقة واحدة فقط في عام 1996 قدمت العريف في مركز الاتصالات إيلينا تروشينا رشوة للجنرال بمبلغ 4.5 ألف دولار على أمل الحصول على شقة من غرفة واحدة، لكنه التهم الرشوى ولم يقدم ما وعد به، فقررت اللجوء إلى تطبيق القانون.
وحكمت محكمة منطقة موسكو العسكرية على فلاديمير سولومونوف بالسجن لمدة أربعة أعوام في سجن عام غير مشدد، أي أقل من الحد الأدنى الذي ينص عليه القانون لعقوبة تلقي رشى مع الأخذ في الاعتبار الحالة الصحية للمدعى عليه والخصائص الممتازة التي قدمتها وزارة الدفاع عن سيرته.

الدروع المغشوشة

في عام 2006 بدأ مكتب المدعي العام ملاحقة رئيس الإمداد بالمديرية الرئيسة للصواريخ والمدفعية بوزارة الدفاع في الاتحاد الروسي اللواء فاليري زناخوركو جنائياً، ففي الفترة الممتدة بين عامي 1999 و2005، اشترت الإدارة التي يترأسها 14 ألف سترة واقية من الرصاص من شركة غير معروفة، لمصلحة الجنود والضباط من جميع المناطق العسكرية في روسيا، بما في ذلك وحدات الجيش المشاركة في عملية مكافحة الإرهاب في الشيشان.
وفي عام 2006 أثبت الخبراء العسكريون أن جميع الدروع الواقية للبدن التي تم توفيرها للجيش كانت معيبة إذ تم اختراقها بسهولة بواسطة الشظايا ورصاص المسدس. ووفقاً للمحققين طلب الجنرال فاليري زناخوركو على وجه التحديد منتجات رخيصة ومنخفضة الجودة من أجل الحصول على فرق السعر. إضافة إلى ذلك كما اتضح فيما بعد، لم يتم إنتاج السترات الواقية من الرصاص في مؤسسة مملوكة للدولة معتمدة، ولكن في ورش خياطة خاصة.
وقدرت قيمة الأضرار التي لحقت بالدولة بأكثر من 200 مليون روبل، منها 93 مليوناً سرقت وصرفت. في عام 2009، برأت المحكمة العسكرية لمنطقة موسكو فاليري زناخوركو وأطلقت سراحه من الحجز، لكن المحكمة العليا ألغت هذا القرار وفي عام 2011 حكم على اللواء بالسجن لمدة أربعة أعوام.

عشيقة الوزير

إحدى فضائح الفساد الأكثر شهرة في وزارة الدفاع هي قضية شركة “أوبورون سيرفيس” القابضة التي كانت مسؤولة عن بيع الأصول العسكرية غير الأساسية. ففي عام 2012 قام موظفو لجنة التحقيق ووزارة الداخلية كجزء من قضايا الاحتيال بتفتيش شقة الرئيس السابق لقسم علاقات الملكية بوزارة الدفاع إيفغينيا فاسيليفا، عشيقة وزير الدفاع أناتولي سيرديوكوف، إذ عثر في شقتها إضافة إلى الوزير على 1500 قطعة مجوهرات بقيمة 3 ملايين دولار وعشرات اللوحات الفنية النادرة، بما في ذلك أصول الكلاسيكيات الروسية.

وبحسب المحققين، باعت المسؤولة السابقة عشيقة الوزير عقارات وأسهماً بأسعار مخفضة لهياكل تابعة لمعارفها، مما ألحق أضراراً بالدولة بقيمة 3 مليارات روبل. في مايو 2015 حكم على إيفغينيا فاسيليفا بالسجن لمدة خمسة أعوام، وفي أغسطس (آب) من العام ذاته أطلق سراحها بشروط. وحكم على 12 متهماً آخرين بالسجن لمدد تراوح ما بين عامين وأربعة أعوام.
وفي عام 2012، و”لتهيئة الظروف لإجراء تحقيق موضوعي”، أقال الرئيس بوتين الوزير أناتولي سيرديوكوف، الذي تم تعيينه على رأس وزارة الدفاع كونه صهر رئيس الوزراء آنذاك فيكتور زوبكوف، مع أنه تاجر مفروشات ولا علاقة له بالدفاع لا من قريب ولا من بعيد، وخلفه سيرغي شويغو كوزير الدفاع الجديد. واتهم أناتولي سيرديوكوف بالإهمال ووفقاً للتحقيق كان وزير الدفاع السابق بمساعدة أفراد عسكريين منخرطاً في تحسين مركز الترفيه “زيتنوي” المملوك لصهره، لكن ملاحقته توقفت في عام 2014 بموجب عفو صدر تكريماً للذكرى الـ20 لدستور الاتحاد الروسي.

اقرأ المزيد

لماذا “يغفر” بوتين لرجال الأوليغارشية “الخصخصة الظالمة”؟

“الأوليغارشية” الروسية ماكينة ثروات تفرم العقوبات

المافيا والأوليغارشية… كيف تؤسسان لروسيا ما بعد الحرب؟

وريث فاسيليفا

في عام 2015 وقعت أول فضيحة فساد رفيعة المستوى وكان في مركزها مسؤول رفيع المستوى تولى منصبه في عهد شويغو. وفي موسكو اعتقل ألكسندر غورشكوليبوف نائب رئيس قسم العلاقات العقارية وهي الوحدة التي كانت ترأسها في السابق إيفغينيا فاسيليفا.
فبعد أن ترأس القسم، وعد هذا المسؤول أولاً بـ”تطهير” جميع المسؤولين الفاسدين الذين “ورثهم” منها، ولكن في النهاية تم القبض عليه وهو يتقاضى رشى. واتهم بتلقي 370 مليون روبل من رجل أعمال لقاء تعيين أشخاص يحتاج إليهم هذا الأخير في مناصب مختلفة.
الوسيط في تلقي الرشى، وفقاً للمحققين كان سيرغي دروبيش المدير العام السابق لأحد هياكل “أوبورون سرفيس” وصهر ألكسندر غورشكوليبوف الذي كان يعمل معه بدوام جزئي. في نهاية المطاف اعترف غورشكوليبوف جزئياً بذنبه وحكم عليه بالسجن لمدة سبعة أعوام وتسعة أشهر في مستعمرة شديدة الحراسة، إضافة إلى غرامة قدرها 310 ملايين روبل.

مجموعة الجريمة المنظمة “فايينتليكوم”

تحقق لجنة التحقيق في قضية الاحتيال الجنائية بأموال من وزارة الدفاع خصصتها شركة “فايينتليكوم” لشراء معدات اتصالات خاصة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي منذ عام 2013. ومنذ ذلك الحين طال التحقيق عشرات الحلقات والشخصيات من دون أن يتوصل إلى نتيجة. وفي عام 2017 تم اعتقال الرئيس التنفيذي لشركة “فايينتليكوم” ألكسندر ديفيدوف ونائبه أوليغ سافيتسكي ومستشاره دميتري سيميليتوف. وفقاً للمحققين عند إبرام عقود مع وزارة الدفاع لتوريد معدات الراديو، استخدموا مخططات لتضخيم كلفة المنتجات. وهذه المنتجات كما تعتقد لجنة التحقيق أنتجت في الصين بصورة مخالفة للعقود، وتم تجميعها فقط في روسيا. وقدرت الأضرار بنحو 1.4 مليار روبل وحكم على ألكسندر ديفيدوف وأوليغ سافيتسكي بالسجن لمدة أربعة أعوام وشهرين، وحكم على ديمتري سيميلتوف بالسجن لمدة أربعة أعوام. وأطلق سراحهم جميعاً بشروط في عام 2023. بفضل شهادة كبار المديرين وشارك عسكريون رفيعو المستوى في القضية، وهم: الرئيس السابق للمديرية الأولى للمديرية الرئيسة للاتصالات بوزارة الدفاع ألكسندر أوغلوبلين رئيس قسم الأوامر لتحسين نظام الإدارة وزير الدفاع بافيل كوتاخوف، والنائب السابق لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية العقيد جنرال خليل أرسلانوف. والأخير متهم بسرقة 6.7 مليار روبل عند شراء محطات راديو “آزارت” للجيش. وتعقد المحاكمة خلف أبواب مغلقة. وفي عام 2022، حكم على ألكسندر أوغلوبلين بالسجن لمدة أربعة أعوام ونصف العام بتهمة الاحتيال على نطاق واسع وتزعمه مجموعة جريمة منظمة.

غزاة الأرض

وفي عام 2019، تم فتح قضية جنائية ضد نائب رئيس إدارة المعسكرات بوزارة الدفاع سيرغي بورودين. وفقاً للمحققين، منذ عام 2008، استولى هو وشركاؤه على أكثر من 45 هكتاراً من أراضي الإدارة العسكرية في مناطق نيو موسكو ونارو فومينسك وأودينتسوفو الحضرية. حتى إن غزاة الأراضي الحكومية تعدوا على أراضي ملعب تدريب ألابينو الذي يستخدم للتدريبات على مسيرات “يوم النصر”. كان شركاء بورودين من بين آخرين، الرئيس السابق لوحدة صيانة الشقق في فاتوتنسكي التابعة لوزارة الدفاع فاليري مايبورودا والرئيس السابق لوحدة صيانة الشقق في ألابينسك التابعة لوزارة الدفاع عزمات خيرولين.
في عام 2020 أنشأ بورودين شركة إعمارية لبناء المباني السكنية وغير السكنية تحت اسم “في دي أم ستروي” برأس مال بسيط مصرح به قدره 10 آلاف روبل، لكن إيرادات هذه الشركة بلغت 24 مليون روبل في عام واحد فحسب. وقد أعطى هذا سبباً للمحققين للاشتباه في إمكانية استخدام هذه الشركة لغسل الأموال من التجارة غير المشروعة في الأراضي الحكومية بخاصة تلك التابعة لوزارة الدفاع.
وقدر المحققون إجمال الأضرار الناجمة عن تصرفات بورودين وشركائه بوزارة الدفاع بمليار روبل. اعترف بورودين بذنبه وبدأ التعاون مع التحقيق، مما سمح له بتجنب الحبس الاحتياط، وهو ينتظر المحاكمة تحت الإقامة الجبرية، لكنه منع من استخدام أي وسيلة اتصال.

عمليات الاحتيال البحثية

في عام 2018، هزت فضيحة فساد كبرى معهد البحوث المركزي الـ46 التابع لوزارة الدفاع، الذي شارك في تطوير برنامج تسليح الدولة حتى عام 2027 بقيمة 19 تريليون روبل.

وبحسب التحقيق، أبرم رئيس القسم الثاني بمعهد الأبحاث العقيد ميخائيل كوتوف في الفترة بين عامي 2016 و2018، اتفاقيات مع شركات تجارية لإجراء أعمال بحثية. وتم دفع 176 مليون روبل من موازنة الدولة لهذه الأعمال، لكنها لم تر النور أبداً.
بدأت القضية في إطار برنامج بحثي واحد، لكن أثناء التحقيق عثر المحققون على برامج أخرى.
كما وجدت لجنة التحقيق ادعاءات ضد فاسيلي كوزلانجي نائب كوتوف. ووفقاً للمحققين قام كوزلانجي بتوظيف المئات من “الأرواح الميتة” كموظفين في معهد الأبحاث فحصل من أجور المتوفين على رواتب إجمالية تبلغ 74 مليون روبل على مدى أعوام. وقدرت الأضرار التي لحقت بالدولة من تصرفات المتهمين بنحو 250 مليون روبل. وأثناء عمليات البحث في معهد البحوث المركزي، عثر المحققون على أموال وسجلات غير موثقة تحمل علامات حسابات الظل.

وصفات الإثراء

في عام 2017، كانت مجموعة من الضباط من إدارة الأغذية بوزارة الدفاع، بما في ذلك رئيسها العقيد ألكسندر بيريزنوي وكبير خبراء الإدارة المقدم أليكسي غرينيوك قيد التحقيق. ووفقاً للمحققين فإن المتواطئين تلاعبو بغذاء الجيش في الفترة من فبراير (شباط) 2014 إلى أغسطس (آب) 2017.
غرينيوك، الذي يعد البادئ، متهم بالتآمر مع رجل الأعمال أليكسي كاليتين، الذي أراد المشاركة في مشتريات الجيش. فمقابل مكافأة قدرها 20 مليون روبل أعطى غرينيوك كاليتين محرك أقراص فلاش مع خطط الشراء لعام 2015.
دفع رجل الأعمال للضابط مبلغ 20 مليون روبل ثمن ذاكرة التخزين الإلكترونية المذكورة ثم تورط غرينيوك بحسب التحقيق مع نائب رئيس إدارة المشتريات العامة بوزارة الدفاع ألكسندر بوروفكوف ومرؤوسه يوري ريشيتنيكوف اللذين كانا مسؤولين عن إجراء المزادات. مقابل 40 مليون روبل تخلصوا من جميع منافسي رجل الأعمال كاليتين.
ونتيجة لذلك، تمكنت شركاته من الفوز بمناقصات لتوريد المعدات اللازمة إطعام الجيش من مطابخ وسيارات ومقطورات المخابز والثلاجات، بأسعار مبالغ فيها بصورة واضحة. وكان آخر من انضم إلى المخطط الإجرامي هو رئيس الدائرة الصناعية ألكسندر بيريزنوي ونائبه ألكسندر فاكولين. وتبين أن توقيعاتهم التي يقدر بيريجني سعرها بـ30 مليون روبل، كانت حاسمة لنقل 684 مليون روبل إلى كاليتين لتزويد الجيش بالمعدات الرخيصة الفاسدة. في العام التالي 2016 ذهب رجل الأعمال، بمساعدة الضباط، إلى أبعد من ذلك، فتمكن من إبرام عقود مع الجيش لتوريد سلع مختلفة بقيمة تزيد على 1.4 مليار روبل.
في الوقت نفسه، تضخمت أسعار مجموعات معينة من السلع، وفقاً للمحققين، بما يقارب 300 مليون روبل، على سبيل المثال، “ارتفع سعر سكين تقشير الخضراوات” بمقدار 770 روبلاً (9 دولارات تقريباً)، وآلة تقشير البطاطا بمقدار 31 ألف روبل (361 دولاراً تقريباً). ومن أجل الحفاظ على محاسبة الظل الخاصة به، قام غرينيوك بإنشاء برنامج كمبيوتر منفصل.

ظل المشاركون في المخطط الإجرامي على اتصال مع بعضهم بعضاً من خلال ما يسمى “المشاعل”، وهي الهواتف المحمولة المزودة ببطاقات مسجلة باسم أشخاص مزيفين. لكن هذه المؤامرة لم تستمر، ففي عام 2017، وصلت وكالات إنفاذ القانون واعتقلت الضباط الفاسدين.

فالج لا يعالج

الفساد في أعلى مستويات السلطة يبدأ من الرأس. لذلك تشير مصادر متعددة إلى أن بوتين نفسه قد جمع ثروة شخصية تبلغ عدة مليارات من الدولارات، معظمها محتفظ به في حسابات مصرفية سرية وشركات وهمية يديرها أصدقاؤه الأكثر ثقة. وتحدثت تقارير روسية مكثفة حول فساد بوتين، نشرها خصومه السياسيون، وعلى رأسهم الراحل بوريس نيمتسوف وفلاديمير ميلوف وفلاديمير ريجكوف وتلقي الضوء على الدخل الجانبي الوفير المرتبط بالوجود في السلطة ولكن الأهم بكثير هو الأموال والأصول التي اكتسبها بوتين سراً وأخفاها عن الجمهور والتي يمكن العثور عليها، على سبيل المثال في الكتاب الذي نشر أخيراً تحت عنوان “حكومة بوتين الفاسدة” من تأليف كارين داويشا، ومع ذلك، في روسيا نفسها، غالباً ما يعد الصحافيون والمحللون أنه من الخطورة التطرق إلى هذا الموضوع.
وقدم سيرغي كوليسنيكوف تفاصيل مهمة عن قصر بوتين المزخرف (الذي أطلقت عليه وسائل الإعلام الروسية اسم “قصر بوتين”، ولكن تم حجب الموقع موقتاً بعدما نشرت “ويكيليكس” الروسية صورة للقصر في أوائل عام 2011. واعتقل الصحافيون والمدافعون عن البيئة الذين حاولوا فحص موقع القصر من قبل موظفي جهاز الأمن الفيدرالي في الكرملين، ونشأ ارتباك إضافي بسبب تدخل أصدقاء بوتين الذين زعم أنهم اشتروا العقار. وأصبحت حرية عمل الصحافيين أكثر تقييداً ​​في خريف عام 2015، عندما دعمت الحكومة الروسية مشروع قانون يحظر الكشف عن أي معلومات حول القصور الخاصة لكبار المسؤولين الحكوميين.
كما تبين أن الكشف عن الفساد في دائرة بوتين يشكل خطورة بالغة بالنسبة لأولئك الذين كشفوا الحقائق ونشروها في روسيا. لقد قام أليكسي نافالني قبل وفاته الغامضة في محبسه في فبراير (شباط) الماضي، بعمل رائع في تقديم أدلة مفصلة على الفساد في المناصب العليا، ولكن منذ تعرضه للاعتقالات الدورية والملاحقة القضائية بتهم الاختلاس والتهرب الضريبي أصبح الصحافيون والناشطون السياسيون حذرين من تناول مثل هذه المواضيع علناً.
الجدير بالملاحظة هو أن السكرتير الصحافي لهيئة قوية مثل لجنة التحقيق المركزية التابعة للاتحاد الروسي فلاديمير ماركين، صرح علناً في عام 2012 بأن دور نافالني في كشف الفساد في أعلى مستويات السلطة (بما في ذلك اتهامات الفساد ضد رئيس الدولة) أجبرت اللجنة على مراقبة أنشطة نافالني بعناية. وأضاف “إذا كان الشخص المعني يجذب الانتباه إلى نفسه بكل قوته فيمكن للمرء أن يقول حتى إنه يضايق السلطات”، ثم زاد الاهتمام بماضيه وتسارعت عملية تسليط الضوء عليه بطبيعة الحال. من الواضح أن تعليق ماركين كان بمثابة تحذير لأولئك الذين قد يرغبون في اتباع خطى نافالني.

الإعلام وتغطية الفساد

إضافة إلى ذلك، حتى عندما يحقق الصحافيون والمدونون مثل المعارض الراحل ألكسي نافالني في قضية ويقدمون معلومات دامغة مثل ذلك الفساد الهائل الذي كشفوه في معقل الدعاية لبوتين، أي قنوات “روسيا اليوم” الناطقة بلغات عدة، فإنهم لا يستطيعون نشر معلوماتهم على القنوات التلفزيونية الفيدرالية أو في معظم وسائل الإعلام الأخرى. ولا يتبقى لهم سوى قنوات نقل المعلومات المتاحة لعدد صغير نسبياً من الروس. والاستثناء النادر هو مدونة نافالني قبل وفاته، التي كانت تحظى بعدد كبير من المتابعين، ولكن حتى في حالة نافالني أظهرت استطلاعات الرأي العام أن غالبية كبيرة من الروس يعرفون القليل أو لا يعرفون شيئاً عنه وعن عمله.
إن الحملات الموسمية والموقتة لمكافحة الفساد في عهد بوتين تستهدف في الأساس مكافحة الفساد اليومي. وفي الوقت نفسه، يتم الاهتمام بين الحين والآخر بالفساد على مستوى عال. غير أن هذا الاهتمام لا يعني وجود رغبة صادقة في حل المشكلة. بل على العكس من ذلك، فما دام قمة هرم السلطة ذاته هو المستفيد الرئيس من الفساد في أعلى مستويات السلطة، وما دام غير خاضع للمساءلة بسبب غياب المؤسسات الدستورية الديمقراطية واندثار المعارضة السياسية الحرة، فإن جهود مكافحة الفساد لا تخدم سوى أهداف بسيطة وموقتة.
هذا لا يعني أن حملة مكافحة الفساد هي مجرد محاكاة. بعض التدابير المتخذة ضد الفساد اليومي مهمة وتستحق الثناء حقاً. علاوة على ذلك، حتى الإجراءات المتفرقة ضد شخصيات رفيعة المستوى يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة، كما كانت الحال مع سجن وزير التنمية الليبرالي لوكيانوف واستقالة عديد من أعضاء البرلمان في عامي 2013 و2014 الذين لم يرغبوا في التخلي عن أصولهم في الخارج. ومع ذلك، كل هذا يعني أيضاً أن بوتين يستفيد من هذه الحملة. فهو لا يعزز أهميته باعتباره الحكم الرئيس للنظام التراثي فحسب، بل يبقي الناس من حوله في حالة من الضعف (لأنهم يعلمون أنهم من المحتمل أن يصبحوا ضحايا الحملة إذا لم يمتثلوا لرغبات زعيمهم). ولكن أيضاً يعطي عامة الناس انطباعاً بأن بوتين يشعر بقلق عميق إزاء الفساد.

كيف يستفيد بوتين من رعاية الفساد ومكافحته في آن؟

ومن خلال الترويج لحملة مكافحة الفساد في وزارة الدفاع، التي حظيت أخيراً بتغطية إعلامية جيدة والتحدث بصورة متكررة عن هذه القضية، يتمكن بوتين من استخدامها لصالحه، بالتالي تجنب تركها لشخصيات من المعارضة. وحتى عندما تكون إقالة المسؤولين رفيعي المستوى لها، بصورة أساسية خلفيات متداخلة (على سبيل المثال، إقالة وزير الدفاع أناتولي سيرديوكوف في نوفمبر 2012، كانت لأسباب متداخلة ارتبط فيها فساده بخيانته لزوجته – ابنة رئيس الوزراء آنذاك). ومع ذلك، فإن اتهامات الفساد الموجهة ضد صغار الموظفين مقارنة بالفساد الصارخ في مجال المشتريات الحكومية العسكرية، تعطي الناخبين الانطباع بأن بوتين يريد محاربة هذا الشر بلا هوادة. ومع ذلك لا يتم إرسال المسؤولين رفيعي المستوى مثل سيرديوكوف إلى السجن لأي فترة طويلة. وهكذا بدأت القضية المرفوعة ضد سيرديوكوف في حلقة بسيطة بتهمة “الإهمال”، ولكن بعد ذلك أصدر بوتين عفواً عنه في عام 2014، ووضعت حبيبه وعشيقته رئيسة قسم علاقات الملكية بوزارة الدفاع إيفغينيا فاسيليفا، لفترة وجيزة تحت الإقامة الجبرية الخفيفة، ثم أطلق سراحها بشروط في أغسطس 2015. وعادة ما ينتهي الأمر بمثل هؤلاء الأشخاص إلى مناصب جديدة مربحة في “القطاع الخاص” نسبة لما يملكونه من معارف وأسرار، لكن إقالاتهم تهدف إلى طمأنة الناخبين بأن الرئيس يهتم بمعالجة الفساد.

خطوة للأمام خطوتان للوراء

تحسن وضع روسيا في تصنيفات منظمة الشفافية الدولية تدريجاً بين عامي 2010 و2013 (ارتفع من المركز 154 إلى المركز 143 إلى المركز 133 إلى المركز 127)، ولكنه ساء مرة أخرى في عام 2014، إذ تراجع إلى المركز 136 من أصل 175. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى عدة نقاط. أولاً، على رغم أن الترتيب الحالي ليس منخفضاً كما كان في عام 2010، فإن الوضع العام في روسيا وفقاً لمؤشر منظمة الشفافية الدولية لا يزال سيئاً للغاية، مما يجعل البلاد واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم. ثانياً، جاءت جميع التحسينات تقريباً نتيجة لتنفيذ تدابير مكافحة الفساد المحلي التي اعتمدت للتوافق مع أحكام اتفاقية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الرشوة، إضافة إلى التدابير التي أوصت بها مجموعة الدول المناهضة للفساد. إن مكافحة الفساد اليومي أمر مهم للغاية، ولكن يمثل فساد السلطة العليا حصة أكبر بكثير من الناتج المحلي الإجمالي. ثالثاً، تعكس بعض التحسينات الطبيعة المحددة لنظام تصنيف منظمة الشفافية الدولية في حين أن نظام التصنيف أصبح أقل ذاتية وأكثر شفافية مما كان عليه في الماضي، فمن المهم أن نأخذ في الاعتبار أن المؤشرات الأخرى، مثل معدل الفساد السنوي في “فريدوم هاوس”، لا تظهر أي تحسن في روسيا منذ عام 2010. تأخذ هذه المؤشرات البديلة في الاعتبار حملة مكافحة الفساد وتأثيرها في مستوى الفساد اليومي، ولكنها في الوقت نفسه تولي الاهتمام الواجب للفساد في أعلى مستويات السلطة.

المواطنون والفساد

ووفقاً للاستطلاعات التي أجراها مركز “ليفادا” ومنظمات أخرى، كانت حملة مكافحة الفساد تحظى بشعبية كبيرة في روسيا. ولكن من الغريب أن هذه الحملة لم تقنع الروس بعد بأن الفساد في أعلى مستويات السلطة آخذ في التناقص. بل على العكس من ذلك، فإن الغالبية العظمى من الروس (نحو 85 في المئة منهم) يعتقدون أن مستوى السرقة والفساد في القيادة الحالية للبلاد إما ارتفع أو لا يتناقص، وأن الوضع تفاقم منذ رئاسة بوتين الأولى. ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز ليفادا في يوليو (تموز) 2015، اعتقد ما يقارب 90 في المئة من الروس أن مستوى الفساد في أعلى مستويات السلطة في عهد بوتين “مرتفع” أو “مرتفع للغاية”، ويعتقد ثلاثة في المئة فقط أن مستوى الفساد في عهد بوتين آخذ في التناقص. وعلى رغم أن غالبية الروس الذين يناقشون هذه المشكلة قلقون إزاء الفساد اليومي، فإنهم يعدون الفساد في أعلى مستويات السلطة ظاهرة لا يمكن القضاء عليها (في الواقع، شبه طبيعية). تظهر الاستطلاعات الشهرية والسنوية التي يجريها مركز “ليفادا” أنه وفقاً لأكثر من 80 في المئة من الروس، فإن “المسؤولين رفيعي المستوى وأعضاء الحكومة” يثرون أنفسهم من خلال “عدم الإعلان عن كل دخلهم” و”امتلاك حسابات مصرفية وممتلكات في الخارج سراً”. ويعتقد غالب الروس أيضاً أن غالب تدابير مكافحة الفساد (بما في ذلك حظر فتح حسابات المسؤولين في البنوك الأجنبية) تضعف بسبب وجود ثغرات واسعة (على سبيل المثال، من الممكن تحويل الأصول موقتاً إلى أسماء أقارب، بالتالي تجنب المراقبة).
ومع ذلك، فإن التصور الواسع النطاق للفساد في أعلى مستويات السلطة لم يلحق الضرر ببوتين. وقد ظلت معدلات شعبيته مرتفعة إلى حد مذهل، فهو انتخب في مارس (آذار) الماضي بأكثرية 86 من أصوات المقترعين، على رغم الكشف عن فساد رفيع المستوى والأزمة الاقتصادية المتنامية في روسيا.

لا أمل

لا يبدو أن الكشف عن الفساد في أعلى مستويات السلطة مرتبط بالتصورات العامة عن بوتين ونظامه. فارتفعت نسبة الروس الذين يعتقدون أن بلادهم “تتحرك في الاتجاه الصحيح” بصورة حادة منذ ضم شبه جزيرة القرم، إذ ارتفعت من أقل من 30 في المئة في عام 2013 إلى ما يقارب 65 في المئة في عام 2021، وفقاً لاستطلاعات مركز “ليفادا”. وارتفعت نسبة الروس الذين “يثقون تماماً” ببوتين إلى 80 في المئة في العامين الآخيرين، في حين بلغت النسبة 55 في المئة فقط في عام 2013. وفي نهاية المطاف فإن الجهود الرامية إلى كبح جماح الفساد على أعلى المستويات في روسيا ستتطلب درجة غير عادية من الطلب الشعبي باتخاذ التدابير اللازمة لاستئصال المشكلة. وانخفض “عرض” التدابير المتخذة ضد الفساد على أعلى المستويات، وبخاصة الفساد في أعلى المستويات، إلى الحد الأدنى في غياب الطلب العام القوي مثل ذلك الذي كان سائداً خلال احتجاجات أواخر عام 2011.
وإذا احتفظ بوتين بدعم شعبي واسع وحسن نية غالبية كبيرة من الروس (في الأقل من خلال تقديم نفسه كمناضل شجاع ضد الغرب في الخارج والفساد في الداخل)، فمن الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن ينهار النظام الأبوي في روسيا في ظل حكمه أو كيف يمكن لمستوى الفساد الصارخ أن ينهار في روسيا.
والأمر الوحيد الذي يبدو واضحاً هو أن بوتين نفسه لن يغير النظام طوعاً. وهو يدرك جيداً أنه إذا أنشأ آليات فعالة لمساءلة أعلى مستويات السلطة أمام المجتمع، فقد يصبح هو نفسه ضحية لهذه الآليات. وعلى هذا الأساس، يعتقد عديد من المعارضين في روسيا أن بوتين، خوفاً من التعرض للمساءلة في عهد خليفة له، لن يترك أعلى سلطة تنفيذية طوعاً أبداً. وسيسلمها في حال الضرورة القصوى لجنرال موال له، يقوم بتحضيره وإعداده في الوقت الراهن، تماماً مثلما فعل بوريس يلتسين، الذي كان لديه شخص (بوتين) يستطيع أن ينقل إليه السلطة ويحصل على ضمانات بالحصانة من الملاحقة والمساءلة.
وهذا الظرف لا يبشر بالخير في ما يتعلق بالقدرة على هزيمة الفساد في أعلى مستويات السلطة. ومن خلال منع التحول السريع والعميق في المشاعر العامة، فمن المرجح أن يستمر نظام الفساد الذي يرعاه نظام بوتين من أعلى إلى أسفل في أعلى مستويات السلطة لفترة طويلة في المستقبل.
ويشير الفساد هنا إلى استخدام الوظيفة العامة للحصول على مكاسب شخصية بصورة غير قانوني. الفساد في أعلى مستويات السلطة (أو فساد السلطة العليا) يعني فساد السياسيين الرئيسين في النظام – أولئك الذين يبنون المؤسسات السياسية ويملكون القدرة على تغييرها. يحدث هذا النوع من الفساد في روسيا في الأقاليم المناطق وعلى المستوى المحلي وفي المركز. وفي هذه الحالة، ينصب التركيز على الفساد في أعلى المستويات في الحكومة الفيدرالية.