أدت الزيادة السريعة في الطلب على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة والتنمية الصناعية في العقود الماضية إلى الضغط على إمدادات الغاز الطبيعي في المملكة العربية السعودية. وأصبح استكمال التوريد المحلي بواردات الغاز الطبيعي المسال خيارا إستراتيجيا للمملكة.
الرياض – يحمل توقيع صفقة مدتها 20 عاما بين شركة “نكست ديكايد” الأميركية للغاز الطبيعي المُسال وشركة أرامكو السعودية أهمية تتجاوز سوق الطاقة، إذ أنه يشير إلى أن التدهور الكبير بين البلدين الذي شهدناه منذ حرب أسعار النفط 2014-2016 قد يكون جاهزًا للتراجع. وأصبح الغاز الطبيعي المسال الآن مصدر الطاقة الإستراتيجي الرئيسي في عالم متزايد الخطورة بعد غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير 2022.
ولا يتطلب الغاز الطبيعي المسال سنوات ونفقات هائلة لبناء بنية تحتية معقدة قبل أن يكون جاهزا للنقل إلى أي مكان، حيث يختلف بهذا عن النفط أو الغاز الذي يتواصل نقله عبر خطوط الأنابيب.
ويمكن شحن الغاز الطبيعي المسال ونقله إلى أي مكان في غضون أيام وشرائه عبر عقود قصيرة أو طويلة الأجل أو في السوق الفورية. ويحمل بالتالي أهمية جيوسياسية هائلة من المقرر أن تتوسع، حيث من المنتظر أن يرتفع الطلب العالمي عليه بأكثر من 50 في المائة بحلول 2040.
ويرى المحلل الاقتصادي سايمون واتكينز في تقرير نشره موقع أويل برايس الأميركي إن ذلك قد يشير إلى استعداد الولايات المتحدة للتعامل مع المملكة العربية السعودية عبر عقد طويل الأجل في قطاع الطاقة الحيوي إلى نهاية محتملة للتدهور الدراماتيكي للعلاقة بين البلدين نتيجة ما يعرف بحرب النفط.
كانت المملكة العربية السعودية أقوى دولة نفطية في العالم قبل بداية حرب أسعار النفط. ويرجع ذلك لاحتياطاتها النفطية الكبيرة ومتوسط إنتاجها الذي يزيد قليلا عن 8 ملايين برميل يوميا، وبفضل قيادتها الفعلية لمنظمة أوبك.
ويمثّل إنتاج أوبك حوالي 40 في المئة من إنتاج النفط الخام العالمي، وتمثل صادرات الدول الأعضاء في أوبك حوالي 60 في المئة من إجمالي النفط المتداول دوليا، وتمتلك هذه البلدان أكثر من 80في المئة من احتياطات النفط العالمية المؤكدة.
وتجلت قوة السعودية وأوبك في أزمة النفط 1973/74 (التي يمكن اعتبارها حرب أسعار النفط الأولى)، التي شهدت حظرا نفطيا واسع النطاق دفع أسعار النفط من حوالي 3 دولارات للبرميل إلى ما يقرب من 11 دولارا للبرميل.
وأشعل هذا نار التباطؤ الاقتصادي العالمي، وخاصة في الغرب. وأبرز وزير البترول والثروة المعدنية السعودي آنذاك، الشيخ أحمد زكي يماني، الذي يرجع له فضل صياغة إستراتيجية أوبك، أن آثار الحظر النفطي السلبية على الاقتصاد العالمي مثلت تحولا جوهريا في ميزان القوى العالمي بين الدول النامية التي تنتج النفط والدول الصناعية المتقدمة التي تستهلكه. ولوحظ هذا في الولايات المتحدة، وتطرق إليه هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي من يناير 1969 إلى نوفمبر 1975 ووزير الخارجية من سبتمبر 1973 إلى يناير 1977.
وفي السبعينات، كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على إنتاج النفط الخام وكان اقتصادها محصنا من الآثار الضارة التي خلقها الحظر النفطي المستقبلي الذي فرضته السعودية وأوبك وغيرها من الدول الكبيرة المنتجة للنفط. لكن واشنطن قررت أنها ستبذل قصارى جهدها للعثور على مثل هذه الموارد، وحققت مرادها بالتطوير الكامل لموارد الغاز والنفط الصخري خلال 2010/11.
وكانت العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية وأوبك ودية بما فيه الكفاية في الفترة الانتقالية من 1974 إلى 2011، حيث كانت تستند إلى اتفاقية أمكن التوصل إليها في 14 فبراير 1945 بين الرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين روزفلت والعاهل السعودي آنذاك الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. وحددت هذه الصفقة ببساطة أن الولايات المتحدة ستحصل على جميع إمدادات النفط التي تحتاجها طالما أن السعودية توفرالنفط.
وستضمن الولايات المتحدة في مقابل ذلك أمن المملكة وأسرة آل سعود الحاكمة. لكن حين رفعت الولايات المتحدة إنتاجها من النفط الصخري في العشرية الثانية من القرن الحالي، فهمت السعودية أن هذا سيشكل تهديدا كبيرا لآفاقها الاقتصادية خلال السنوات المقبلة مع تخفيض حصتها في سوق النفط العالمي بسبب الصخر الزيتي الأميركي، ورأت تهديدا لمكانتها السياسية في العالم أيضا، حيث كانت تعتمد على قوتها النفطية.
◙ هناك عدد من الأسباب التي تجعل المملكة العربية السعودية تتطلع إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة
ولم تجد لذلك أي خيار بحلول 2014 سوى شن حرب أسعار شاملة تهدف إلى تقويض قطاع الصخر الزيتي في الولايات المتحدة. لكن القدرة غير المتوقعة لمنتجي النفط الصخري على خفض تكاليف إنتاجهم بشكل كبير جعل هذا القطاع في الولايات المتحدة أكثر قدرة على المناورة وأكثر تهديدا في مواجهة الانخفاض الهائل في أسعار النفط الناجم عن الإفراط في الإنتاج المنسق من المملكة العربية السعودية وأوبك. لكن الضرر الحقيقي الوحيد مسّ الذين شنوا حرب أسعار النفط، حيث شهدت السعودية وأوبك تقويض اقتصاداتهما وسمعتهما في سوق النفط التي تضررت أيضا.
واحتاجت المملكة العربية السعودية وأوبك في2016 إلى هندسة زيادة كبيرة في أسعار النفط لإصلاح الاقتصادات المتضررة. وتطلب ذلك حليفا رئيسيا منتجا للنفط لاتزال السوق تحترمه. وتقدمت روسيا لدعم التخفيضات المقصودة في إنتاج النفط لرفع الأسعار، وانبثقت “أوبك +”. ونفّر هذا الولايات المتحدة أكثر، وقد شهدت بالفعل أزمة النفط 1973/74 وحرب أسعار النفط 2014-2016 واعتبرتها انتهاكات أساسية لاتفاقية تأسيس العلاقة لعام 1945 بينها وبين الرياض.
ومع تزايد التوتر مع واشنطن، سعت الرياض إلى توسيع العلاقات مع الصين، حليفة روسيا الرئيسية، التي أبدت بالفعل استعدادها لدعم السعودية اقتصاديا خلال 2014-2016 من خلال عرض شراء جزء كبير من أرامكو في طرح خاص، واقتراح عدد من المساعدات الأخرى. ويمكن رؤية التوسع السريع والعميق في نطاق العلاقات وحجمها في اتفاق استئناف العلاقة الاستثنائي الذي أبرمته السعودية مع خصمتها التاريخية إيران في 10 مارس 2023، حيث تحقق بوساطة صينية.
وأصبحت علاقة السعودية بالولايات المتحدة على الجانب الآخر سيئة للغاية لدرجة أن المملكة رفضت حتى تلقي مكالمة هاتفية من الرئيس الأميركي جو بايدن في 2022 عندما اتصل لطلب المساعدة لخفض أسعار النفط بعد غزو روسيا لأوكرانيا.
وتبدو خمسة عوامل رئيسية وراء التقارب السعودي مع الولايات المتحدة: أولا، لايزال الغزو الروسي لأوكرانيا مستمرا (صور الكرملين في الأصل أنه لن يتجاوز 3 سنوات). وأكد هذا على ضعف موسكو العسكري التقليدي. ولا يفيد هذا الضعف السعودية في مواجهة إيران.
ثانيا، يبدو الاقتصاد الروسي في طريقه للانكماش المستمر حيث تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب والشرق تشديد العقوبات الخانقة. وهذا الانكماش لا يساعد الرياض المتعثرة ماليا.
ثالثا، لايزال الاقتصاد الصيني هشا بعد سنوات كوفيد، وهو ما أكده طلب فريق الرئيس شي جينبينغ خلال زيارته الأخيرة للبيت الأبيض مبادلة سندات الخزانة الأميركية التي تبلغ 770 مليار دولار بما يعادلها بالرنمينبي الصيني.
رابعا، تبدو روسيا والصين مهتمتين بتطوير مصالحهما في إيران والعراق الشيعيتين أكثر من اهتمامهما بالسعودية السنية، ويرجع ذلك جزئيا إلى احتياطيات النفط والغاز المشتركة الأكبر وللاعتراض الأقل على وجود “أفراد أمن” في حقول النفط والغاز الروس والصينيين في هذين البلدين. وتقع إيران والعراق أيضا في قلب هلال القوة الشيعي، الذي يمنح روسيا والصين وجودا أكبر في جميع أنحاء الشرق الأوسط ككل.
خامسا، أظهرت الولايات المتحدة وحلفاؤها الرئيسيون في الحرب الروسية الأوكرانية والحرب بين إسرائيل وحماس، قدرة على السيطرة على الإجراءات من خلال الاستفادة من مجموعة واسعة من المزايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتاحة.
وترى الولايات المتحدة أن وجود السعودية في الداخل سيكون ثقلا موازنا قويا للقوة المتنامية الصينية والإيرانية في المنطقة. وقد يمنح ذلك لواشنطن بعض التأثير في قرارات السعودية المرتبطة بإنتاج أوبك أيضا.
العرب