بعد صلاة يوم الجمعة الأخيرة، قال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للصحافيين: «سنعمل معا على تطوير العلاقات مع سوريا بالطريقة نفسها التي عملنا بها في الماضي».. وأشار إلى اجتماعاته مع بشار الأسد قبل كلّ ما حدث للسوريين، مضيفاً «بما فيها الاجتماعات العائلية».
كأنه بذلك كان يصادق بقوة وتصميم على مجريات مقابلة مهمة لوزير خارجيته هاكان فيدان مع قناة «خبر ترك»، نشرت «ديلي صباح» تقريراً حولها، قال فيها إن الدبلوماسية التركية «تعطي الأولوية لإنهاء الحروب، ورئيسنا لديه الإرادة في هذا المجال»، بذلك حدّد الهدف الاستراتيجي للسياسة التركية الخارجية، وتفريعاته في ما يخصّ الحرب الروسية على أوكرانيا، والإسرائيلية على غزة، وربّما لبنان قريباً، وقبرص اليونانية.. وسوريا.
فيما يخصّ أوكرانيا، التي تقع مجريات حربها في البحر الأسود، وقريباً منه، وهو الذي تتشارك به تركيا وروسيا وأوكرانيا خصوصاً؛ ولا يحمل ذلك المنافع وحدها لتركيا، من تسويق لأسلحتها وإعطائها دوراً رئيساً كمحطّة توزيع وتحكّم بالنفط والغاز والحبوب، بل المضارّ أيضاً من شظايا الحرب القريبة والمشتعلة الأوار.
لذلك تكوّن للسياسة الخارجية التركية هذا الموقع المتميّز بإمكانياته، من حيث العلاقة الوطيدة مع روسيا، وعلاقة تجارة طائرات بيرقدار المسيّرة مع أوكرانيا، والغاز والحبوب مع الطرفين. إمكانية التوسّط قوة سياسية يمكن استثمارها في حقول أخرى، وقد افتخر الوزير التركي في المقابلة نفسها بأن بوتين، تقدّم بمبادرة ملموسة حول السلم مع أوكرانيا، بعد أن قابله هاكان فيدان ضمن مناقشاته في موسكو، التي استغرقت يومين، وطرحه مع بوتين شخصياً ضرورة تحديد الموقف (من السلام). بعد ذلك، دارت المقابلة على السفح حول حريق غزة الحالي، والآخر الذي يهدّد لبنان؛ ولكن مروراً بالخصوص على قبرص (اليونانية)، التي هدّدها زعيم حزب الله مؤخّراً، بشمولها بصواريخ الحزب بسبب ما يراه من احتمال استخدام إسرائيل لأراضيها في ضربها للبنان وحزب الله. لكنّه لم يخفِ هوية الأطراف التي يقصدها سياسياً، حين قال: «على اللاعبين الإقليميين أن يروا عسكرة الجزيرة ويمنعوها»، لم يخاطب حلف الناتو الذي لا تتمتّع قبرص بعضويته، ولا يشملها برنامجه من أجل السلام؛ ولا الاتحاد الأوروبي، الذي هي عضو كامل فيه على عكس تركيا.
أصبح عنوان الاستراتيجية التركية تحقيق «المنطقة الآمنة»، أي الحزام الذي يفصل أيّ تهديد من الجنوب والحدود الدولية، ثمّ إضعاف الإرادة الكردية في أيّة انتخابات مقبلة
كانت «الفتنة» القبرصية نائمة حتى جاء ذكرها مؤخراً، ولا يمكن أن تُذكر إلّا وتُستنفر الحساسية التركية/ اليونانية، التي زادتها بدورها المصالح الاقتصادية المتعارضة شرق المتوسط، الذي ظهر فيه خزان جديد للنفط والغاز. وفي الواقع، تشكّل العقدة اليونانية القديمة، مركز جاذبية وعمق للاستراتيجية الخارجية/ الداخلية في تركيا، مثلها مثل تلك الكردية. وتنحدر الأولى من تاريخ القرن التاسع عشر حتى معاهدة لوزان 1924، بينما تبدأ الثانية من تلك المعاهدة، التي لم تترك متنفّساً للكرد وطموحاتهم القومية، لإرضاء الطموحات التركية. رسمت المعاهدة أيضاً مخططاً عميقاً للتبادل السكاني، بين اليونان وتركيا، في حين بقي الكرد في بلادهم، إلّا من هرب من القمع بعد الانتفاضات والحركات الاحتجاجية، إلى البلدان المجاورة أو إلى غير مكان. فالحساسية في العقدة الأولى تأتي من التاريخ الطويل، وفي الثانية من تاريخ الجمهورية التركية خصوصاً، لذلك كانت الأخيرة هدفاً مباشراً تتغذّى عليه النزعة القومية. قال وزير الخارجية فيدان إنه «منذ اندلاع الحرب الأهلية، دعمت تركيا المعارضة، وقد ندد نظام بشار الأسد بشكل متكرر بدعم أنقرة، الذي مهد الطريق «لتحرير شمال سوريا من حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب، وكذلك داعش». ولكن ما جرى حتى الآن يظهِر أن الحكومة التركية تستهدف الكرد عموماً، وتحاول تفريغ الحدود لأكثر من ثلاثين كيلومتراً منهم، وليس من القوى التي تعلن استهدافها وحسب. ما جرى في مناطق عفرين وتل أبيض ورأس العين أقرب إلى هذه الحقيقة، حيث لم ينضبط إيقاع السياسات التركية، ولم يخفِ ذلك. وليس الآن وقت توجيه الأنظار أيضاً إلى تطوير القوى العسكرية التي يغلب عليها الطابع التركماني- السوري، وتحضيرها مع حاضنتها لملء الفراغ الديموغرافي هناك. بذلك يتشكل حاجز أمني بشري على الحدود، إضافة إلى تمركز خزّان عسكري للعمليات حول العالم عن طريق شركات أمنية خاصة، حيث تكون ممكنة ولازمة.
أمّا حول تمهيد دعم أنقرة للمعارضة السورية لعملية «التحرير»، فيقول أكثر من ذلك. إنّه يعيد الأمر إلى نصابه، ويحدّد هدف ذلك الدعم الأوّل: حلّ العقدة الكردية، ولو حدث هذا على حساب سوريا، ووحدة أراضيها، وأرضية سلامها الأهلي اللازم لمستقبلها. أما بشأن داعش، فذلك حديث ذو شجون، ولو أنه جاء استدراكاً وإضافة على السياق، فقد حاربت تركيا ومعها قوى معارضة داعشَ بالفعل في معركتها الأولى في شمال حلب «درع الفرات»، لكنّها هدفت أيضاً إلى بناء سدّ بشري وعسكري ما بين كرد الجزيرة ومنبج وعفرين، ومنع أيّ احتمال لتمدّد القوة الكردية ووصل مناطقها المختلفة، على طريق متابعة الأخيرة لداعش، في إطار مكانتها في استراتيجية حرب التحالف الدولي عليها. لقد أفسح الالتباس ما بين استهداف داعش كمهمة معلنة في» درع الفرات» طريقاً لمرور عملية احتلال عفرين، ثمّ عملية رأس العين وتل أبيض شمال الجزيرة السورية.
أصبح عنوان الاستراتيجية التركية منذ حدث ذلك تحقيق «المنطقة الآمنة»، أي الحزام العريض الذي يفصل بين أيّ تهديد من الجنوب والحدود الدولية، ومن ثمّ إضعاف الإرادة الكردية داخل تلك الحدود، في أيّة انتخابات مقبلة. وهذا طريق محفوف بالمخاطر وضعيف الثبات والتوازن، لا يعفي على الإطلاق من الاشتغال على حلّ القضية سلمياً، وإحياء تلك المحاولة التي بدأها اردوغان منذ سنوات، ثمّ أخمدها في غمار المعارك الانتخابية. في كلّ أماكن وجود الكرد، لم يبق هناك من قوة تريد الانفصال وتقسيم البلاد التي تقيم فيها، وتنتمي إليها. وكأنّ بعض السياسات تنفخ بالريح لتعكس اتجاهها! لكنّ ربّما كان ما يجمع الأطراف المعنية في موسكو ودمشق وأنقرة حالياً تفاؤلها بعودة دونالد ترامب في الخريف المقبل، وموقفه من الوجود الأمريكي شمال شرق سوريا، كما ذكرت صحيفة سورية صباح يوم الاثنين الماضي.
تلك تداعيات حرّضتها مقابلة وزير الخارجية التركي المذكورة، لكنّ «لبّ القول» في ما قاله يتعلّق بأن «تركيا تعتقد أنه من المهم أن يعود السوريون إلى ديارهم، وأن سوريا الموحدة مع حكومتها وقوات المعارضة ستكون لاعباً مهماً في الحرب ضد إرهابيي حزب العمال الكردستاني». أي أن حكومته ترى ضرورة تحالف النظام السوري والمعارضة لمواجهة القوى الكردية في شمال وشرق سوريا، وإنهاء حركتها. وكان بعرضه لتلك الصفقة يشطب على ما تبقّى من استقلالية وكينونة خاصة لقوى المعارضة شمال غرب سوريا، ويتصرّف بها تحقيقاً لسياسات حكومته المرتبطة بذلك. ليس ذلك بغريب، بعد توظيف بعض تلك المعارضة المسلّحة في النيجر مؤخّراً على سبيل المثال، وليس الحصر إطلاقاً، بعد ليبيا وآذربيجان، وغيرها. هذا لا يتعارض مع سياق تحوّلات عسكرة المعارضة المسلحة، الذي لم يتأخّر في تغليب العصبوية وإمارات الحرب وتجاراتها، حتى ارتفعت قابلية للانقياد والارتهان. لكنّ الغريب في الجهة المقابلة هو انقياد المعارضة السياسية – الرسمية- بشكلٍ كامل، وتفسير ذلك بالخوف والشلل وعرفان الجميل وقيود الإقامة والجنسية وغير ذلك من أغطية لا تدرأ برداً ولا فضيحة. فأن يكون السبب في بناء حلف بين المعارضة والنظام، عنواناً للحلف ما بين الحكومة التركية والنظام، إعلانٌ لانتماء تلك المعارضة إلى تركيا، ودفن لأيّ احتمال لاسترداد بعض الاستقلالية الممكنة رغم كلّ شيء! رغم ذلك أيضاً، ينبغي تفهّم القلق التركي والمخاوف المرافقة، والدعوة إلى تبادل المصالح وتوافقها.