وقد تركت أزمة اللاجئين الآتين من المنطقة العربية بصمات عميقة على الصعيدين السياسي والاجتماعي في كل أنحاء القارة، وفي الدول الأعضاء وغير الأعضاء. ويرى خبراء عديدون من كل الأطياف السياسية ضرورة اتّخاذ خطوات حاسمة لحماية القارة من الوافدين الجدد، وذلك بتشكيل دوريات مشتركة، تشمل حرس حدود من دول أوروبية، تفادياً لرفع جدران عازلة وحواجز تقنية داخل إطار الاتحاد الأوروبي، مع تزايد مخاوف إعادة نقاط التفتيش، والتخلّي عن فكرة التكامل الأوروبي جغرافيًا.
إتاحة المجال لهجرة شرعية، هو المقترح الثاني، كما البطاقة الأميركية الخضراء، وهذه مبادرة ستحرم باحثين كثيرين عن الأمان في القارة الأوروبية، لأنّ معظمهم من العجزة والنساء والأطفال. المقترح الثالث، اعتماد قوانين وأحكام متماثلة بشأن الإجراءات الإدارية للاجئين، ويشمل تحديد مهل زمنية متماثلة لإصدار وثائق الإقامة واللجوء، وتشهد دول الاتحاد حالياً تبايناً وخلافاً في المدّة الزمنية المقدّرة لإصدار وثائق اللجوء والإقامة. وأخيراً، يترتب على أوروبا أن تلعب دورًا جادًا وحاسمًا على صعيد السياسة الخارجية، وتقديم الأولوية لمبادرات السلام الأوروبية لحلّ الأزمة السورية.
لكن، يصعب تحويل هذه المطالب إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع، في ظلّ انعدام التضامن والتكافؤ ما بين دول المنظومة الأوروبية، ويتوجب على بروكسل أن تجهد للتغلب على حالة التشتت التي تعيشها المجتمعات الأوروبية.
التفاوت الاقتصادي بين الشمال والجنوب
يشعر قادة شمال أوروبا بالغبن تجاه ممارسات دول جنوب أوروبا، ويرون أنّ القادّة الجنوبيين
لا يقدّرون حجم الدعم الكبير المقدّم من الشمال، من أجل تحسين البنى التحتية، ورفع معدّلات النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة جنوب القارة. ويتعلق الخلاف بطريقة صرف هذه المقدّرات، بل هدرها. وفي المقابل، يتّهم الجنوب الأوروبي شماله بوضع عراقيل مالية، تخفض حجم صندوق التعاون، ويترتب على ذلك كساد تجاري وارتفاع معدّلات البطالة، ويرى الأخصائيون الاقتصاديون أنّ الاقتصاد الأوروبي عامّة يعاني من تراجع معدّلات النمو باستثناء ألمانيا. الأزمة المالية العالمية، التي تركت أثرها الواضح في القارّة الأوروبية، ستؤدّي إلى تقليص حجم الطبقة الوسطى وذوبانها في الطبقات الدنيا الفقيرة في العقود المقبلة.
وتجلّى الصراع الحقيقي بين الدول الأوروبية في أوجه التعامل مع أزمة اللجوء، ورفض دول عديدة في أوروبا الشرقية تحمّل جزء من العبء الكبير الذي تواجهه دول أوروبا الغربية، التي بدأت تشكّك بجدوى توسيع إطار الاتحاد الأوروبي بعد العام 2004.
كما فقد الاتحاد، في المنظور البعيد، القيم التي قام من أجلها، وأهمها التضامن والرغبة بالتكامل وإلغاء الحدود الجغرافية، وتحوّل إلى نوادٍ عديدة ومختلفة، لكلّ منها توجهاته الخاصة. وأبقت ألمانيا على دورها المرجّح في العلاقات السياسية والاقتصادية بين هذه النوادي والتكتلات. وأدت الخلافات ما بين الجنوب والشمال إلى ترويج المشاعر السلبية. هنغاريا واليونان وإسبانيا وإيطاليا مثالا، دول جنوبية استوعبت أموال صندوق الدعم الأوروبي، من دون أن تدفع بصورة منتظمة ديونها المتراكمة، بل وهاجمت هنغاريا واليونان مبادئ أساسية عديدة، من أجلها تأسّس الاتحاد، وأخيراً لحقت بولندا بركب الدول المتمرّدة على بروكسل، محمّلة الاتحاد مسؤولية العجز المالي وارتفاع معدّلات البطالة وتراجع مستوى النمو الاقتصادي.
قد تؤدي أزمة التضامن الأوروبي إلى انقسام في المحور شرق – غرب، يمكن أن ينعكس على الصعيد السياسي والأمني، وكذا سياسة الدفاع المشترك، وسيؤثّر سلباً في أداء المؤسسات الأوروبية التي تعاني من أزمة ثقة، وفي مقدمتها البرلمان الأوروبي. السيناريو الأكثر تشاؤماً يتوقّع تحوّل الاتحاد إلى سوق مشتركة واتحاد اقتصادي، تطغى عليه المصالح الوطنية للدول المتطورة، من دون الالتزام بالقرار المركزي للمفوضية الأوروبية في بروكسل.
تراجع القيم الليبرالية الأوروبية
من المتوقع تراجع التطبيقات العملية للقيم الديمقراطية الليبرالية في دول المنظومة، في كل أنحاء الاتحاد، كما نشاهد حالياً في بولندا وإسبانيا وفرنسا، بعد الأحداث التي شهدتها باريس، أخيراً، وظهور توجهات وطنية راديكالية، تسعى إلى قطف ثمار السلطة. وحال تراكم هذه
التوجهات التي لا تتوافق مع المبادئ الحقيقية للمنظومة، سيصبح الوقت متأخّرًا لتطبيق البند السابع، بحرمان الدول المعنية من التصويت في البرلمان، بسبب تخليها عن القيم الديمقراطية، ولن تجرؤ مؤسسة أو دولة على المطالبة بتطبيق هذه المادّة. عدا ما ذكر، لا يمكن الاستهانة بمشاريع الاستفتاءات الوطنية في عديد من دول الاتحاد، الهادفة إلى تحقيق الاستقلال الوطني في عدة مجالات، وبخاصّة الأمن والسياسة الداخلية، كما الدنمارك وهولندا التي ستجري استفتاءً في ربيع العام 2016، بشأن المصادقة على مشروع التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وغيرها مبادرات كثيرة متتالية هنا وهناك. من الواضح أنّ العام الجديد سيشهد تغيّرات جذرية في توجهات دول المنظومة ومفهوم التضامن المشترك في المجالات كافة.
وقد تغادر بريطانيا إطار المنظومة الأوروبية، حفاظاً على مصالحها الخاصّة، ونتيجة ضغوط من الأحزاب اليمينية المتطرفة. وستكون هناك تبعات خطرة على المستوى الأوروبي، إذا أقدمت بريطانيا على هذه الخطوة، أقلّها الحدّ من وجود العمال البولنديين فوق الجزيرة، والأقلية البولندية هي الأكبر في بريطانيا، ولن تقبل الحكومات البولندية والتشيكية والهنغارية والسلوفاكية وغيرها من الدول الفقيرة في أوروبا التنازلات المترتبة على ذلك، باستعادة مواطنيهم العاملين في بريطانيا، والذين يضمنون جزءًا من الدخل القومي للبلاد، بالتحويلات المالية إلى الأهل والأقارب.
حكومات سيادية واتحاد متداع
لا ينكر الأوروبيون أنّ الاتحاد يتعرّض لأزمة سيادية كبيرة للغاية، حيث ظهرت نزعات متنامية لاستعادة السيادات المركزية الحكومية للدول الأعضاء، والتخلّي عن حرية التنقل بين دول المنظومة، وحتّى التشكيك بشرعية الشنغن، وإمكانية صموده أمام الضغوط الكبيرة الممارسة من قطاع كبير من الفئات السياسية المختلفة. رافقت ذلك البطالة المستشرية، وتجميد معدّلات الدخل والمقدّرات المالية للمواطنين وارتفاع مستوى الفساد الإداري وهدر أموال صناديق التضامن الأوروبي، والشعور بفقدان القدرة على السيطرة على الحدود الخارجية والمشتركة داخل دول المنظومة، وتزايد رغبة المواطنين باستعادة هيبة الدولة والحكومة المركزية، وليس بالضرورة نتيجة كراهية الأجنبي، بل لعدم القدرة على التعامل، وتفهم القيم الجديدة المرتجاة في الإطار العام للمنظومة الأوروبية. وبات مفهوم التضامن الأوروبيّ طوباويّاً وغرائبيّاً.
تراجع دخل المواطن الأوروبي الغربيّ نتيجة طبيعية لدخول مئات آلاف اللاجئين، وكذا هجرة مواطني أوروبا الشرقية للعواصم الغربية الغنية، ما أدّى إلى اختفاء مهن بكاملها، وضرورة الحصول على التعليم طوال الحياة، وبات من الممكن لمهنيين القيام بمهام مهندسين، في مقابل أجور أقل بكثير. أمّا البرلمانات الأوروبية فمنشغلة بالفوز بالانتخابات البرلمانية والرئاسية والسلطة المحلية، ولا تمتلك استراتيجية طويلة الأمد لمعالجة هذه القضايا والمشكلات التي تركت بصماتها على الصعيد الاجتماعي لأمد طويل.
الأمن القومي والشعبوية السياسية
يمكن للأمن القومي أن يتخذ صيغة سياسية وفقًا للدستور، وهذا متّفق عليه، ولا جدال بشأن حقّ الدول للدفاع عن أمنها القوميّ. لكن، ظهرت تطبيقات جديدة للأمن القومي، بعد ارتفاع معدّلات
اللجوء في القارة الأوروبية، ساهمت باعتماد سياسات مشوّهة، بهدف الدفاع عن الهوية الوطنية للشعوب، وهو مفهوم عريض، يسمح باتخاذ إجراءات قاسية غير مسبوقة، ومقبولة في الوقت نفسه من فئات عريضة من المجتمعات الأوروبية، تماشيًا مع الظروف الآنية. ولا يمكن إنكار تخوّفات المجتمعات الأوروبية بشأن مستقبل هوية أوروبا، حال استمرار تدفّق موجات اللجوء الكبيرة، وهذه من الأسباب التي أدّت إلى تجميد انضمام تركيا، ذات الأغلبية المسلمة، في الاتحاد الأوروبي. السياسة الأمنية المحضة تحديدًا هي التي تعمل على وضع سياسات مرتبطة عضوياً بعامل الخوف والقلق، وبالتالي، تقديم صلاحيات أكبر وأوسع للأجهزة الأمنية، ليقارب أداؤها ممارسات الحكومات الاستبدادية القمعية المألوفة في العالم الثالث ودول المشرق. الخوف والتوتر سيعمل كذلك على تشجيع المواجهات العنفوية في الشوارع والأماكن العامة في أوروبا. الخوف هو حصان طروادة، لتحقيق أهداف سياسية وحزبية ضيّقة.
لكن، هل يمكن للسياسة الأمنية أن تطيح القيم الديمقراطية وتقاليد مناقشة الأزمات من على منصات منابر البرلمانات، والحدّ من الحريات الشخصية والدستورية؟ هذا هو الحدّ الفاصل في الواقع بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الشمولية. وترى القوى السياسية الليبرالية ضرورة مواجهة تحديات الإرهاب والفكر الظلامي، من دون تقليده وتطبيق أساليبه. ويمكن للمجتمعات الغربية التقدمية تفهّم هذه الحقائق وحسم الموقف.
الاتحاد الأوروبي والأزمة السورية
يحاول الاتحاد الأوروبي الحدّ من تبعات الأزمة السورية في حدود القارة، من دون المساهمة في حلّ الأزمة جذريًا. ويدور النقاش حول سبل وقف موجات اللجوء وعدم إغراق القارة بأجناس مسلمة، تحمل فكراً مغايراً، وتتعامل مع الأزمة من منطلق بياني، كتوزيع اللاجئين بين الدول الأوروبية، ووضع تصوّرات مالية بحتة لدعم تركيا ودول المواجهة، لبناء مراكز هجرة مثيلة في المدن المؤقتة، وإجراءات شكلية عاجزة عن حلّ الأزمة نهائياً.
وفي وقت تمكنت فيه روسيا من طيّ الملف الأوكراني، بتدخلها العسكريّ في سورية، ارتفعت أصوات أوروبية كثيرة مطالبة برفع الحصار الاقتصادي عن روسيا، باعتبارها الدولة العظمى المخلّصة، والقادرة على إنقاذ أوروبا من شبح داعش والتنظيمات المتطرفة. ويمكن لروسيا لاحقاً أن تتدخل في منطقة ساخنة أخرى، لتظهر بدور المنقذ البطوليّ، إذا ما رغبت بطيّ الملف السوريّ، حال ارتفاع كلفة تدخلها العسكري المباشر للحفاظ على مصالحها في المنطقة العربية، الأمر الذي لا يدركه القادة الأوربيون في الوقت الراهن، لانعدام سياسة ورؤية استراتيجية طويلة الأمد، ويفضّلون التعامل بردود فعل آنية مع الأحداث الراهنة.
وتبدو بروكسل غير قادرة على إيجاد موقعها الفاعل وسط الصراع الأميركي الروسيّ في منطقة الشرق الأوسط، الخاضع لتغيرات ديناميكية. أميركا لم تنسحب تماماً من الشرق الأوسط، فهي ما زالت تشارك في الهجمات الجوية ضدّ داعش. وفي البال الانتخابات الأميركية المقبلة والسياسة التي قد يتبعها الجمهوريون في ملف الشرق الأوسط حال فوزهم. أمّا بشأن السياسة الخارجية الروسية، فقد تكون انعكاساً للضعف الروسي ومحاولة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لتصدير أزماته الداخلية، كما ورد في مقال مايكل ماكفول السفير الأميركي السابق في موسكو في صحيفة نيويورك تايمز، وجاء فيه أنّ التدخّل العسكري الروسيّ في أوكرانيا وضمّ القرم لاحقًا بمثابة قناع لإخفاء مظاهر الضعف الروسيّ، ثمّ شهدنا تفاصيل التدخّل العسكري في سورية لإنقاذ نظام الأسد الذي شارف على الإفلاس، وحتمية مواجهة تبعات ذلك وقد تلوّثت الأيدي الروسية أيضًا بدماء المدنيين في المنطقة العربية.